مدخل ضروري..
تمَّ الفرز، وحصل الاستقطاب، ونجح النظام في اختزال المشهد السياسي الأردني السائل منذ عامين، في حالة انتخابية مُبْتَسَرَةٍ ضبابيةٍ بلا معالم، وإن يكن هذا النجاح مؤقتا وإلى حين.
فهناك قومٌ سيذهبون إلى صناديق الاقتراع ليشاركوا في المسرحية، سواء من ظن منهم إمكانَ حلحلة الوضع السياسي الأردني ليمرَّ الإصلاح المرتقب، بتدَرُّجٍ سُلْحُفاوي عبر "خرم إبرة" قانون الانتخاب، أو من كان منهم غيرَ مَعْنِيٍّ بالإصلاح، بقدر ما هو مَعْنِيٌّ فقط بما يظنه بوابةً للوجاهة، ونافذة للمصلحة الخاصة، لأنه في الأصل لا يفهم لماذا يحتاج الوطن إلى إصلاح، بل هو لا يفقه في السياسة شيئا من حيث المبدأ. فيما هناك قوم اختاروا المقاطعة، يقينا منهم بأن المشاركة ليست أكثر من تمهيدٍ لوخزِ ضمير مرتقب، سببه شرعنةُ باطلِ وفسادِ ووظيفيةِ هذا النظام البائس.
وأمام يقيننا بأن المشهد السياسي الأردني شديد الارتباك، ينزُّ مثلَ الجرح المتقيِّح عن ثلاث حالاتٍ متباينة من الوعي، دفعَت كلُّ حالة منها بأصحابها إلى التَّمَتْرُس في خندقٍ من الخنادق المتجاذبة في ساحة الفعل السياسي في البلاد منذ عامين.. نقول.. أمام يقيننا ذاك، يجدر بنا لفتَ الانتباه إلى أن "البرلمان المنتخب" يُفْتَرَض أن يكونَ "بوابة" الحلول للمشكلات العالقة التي أجَّجت الحراك الشعبي منذ مطلع ذينك العامين، والتي ستزيد في تأجيجِه أيا كانت المُسَكِّنات التي يستخدمها النظام فعالة في المدى المنظور، إذا لم يتم التوجه نحو ابتكار حلول حقيقية لها.
وبالتالي، فمن الطبيعي، بل من الضروري، عرض الملفات الكبرى التي شكَّلَت وتشكِّل مجتمعة – عبر أداء النظام الوظيفي في التعاطي معها – أُسَّ البلاء والوظيفية والفساد والكارثة التي يعاني منها الوطن، كي نتعرفَ على رؤية كلِّ مُكَوِّنٍ من مُكَوِّنات حالات الوعي الثلاث سالفة الذكر حولها، وما يملكه من حلول لها، ليتسنى لنا أن نتفهمَ موقفَه من العملية الانتخابية كبوابة للتغيير أو للإصلاح، أيا كان هذا الموقف سلبيا أو إيجابيا.
ثلاثة مشاريع تتنازع الساحة الأردنية..
بداية دعونا نوضح حالات الوعي الثلاث تلك، قبل التوجه إليها جميعها بأسئلتنا حول الملفات الكبرى للمعضلة الأردنية..
* هناك أولا حالة الوعي التي يمثلها "مشروع النظام"، برأسه "ملكا"، وبمؤسساته الفاعلة، "حكومة" و"برلمانا" و"قضاء" و"مخابرات". وهي حالةٌ من الوعي تعمل جاهدةً على إعادة إنتاجٍ سطحي مُضَلِّل ومخادع للدولة، بعيدا عن المساس بمُكَوِّناتها العميقة، ضمانا لعدم المساس ابتداءً ببُنْيَتها الطبقية وبطابعها الوظيفي، وبمنظومة العلاقات الإمبريالية الصهيونية التي يمثل النظام تجسيدا لها في الجغرافيا والديمغرافيا الأردنيتين. وهو بالتالي لن يُقْدِمَ على أيِّ خطواتٍ سياسية من أيِّ نوعٍ إذا لم تضمن له تلك الخطوات إعادة الإنتاج السطحي ذاك، خاصة وأن الضغط الشعبي الحاصل عليه، لم يرقَ إلى المستوى القادر على إجباره على اتخاذ ذلك النوع من الخطوات الماسة بوضعه الجيوسياسي ذاك. وهو الأمر الذي يُسَهِّل علينا قراءة "الحدث الانتخابي" المرتقب، والذي راح الكثيرون يستعدون له، ويطبلون ويزمرون له، تحت عنوان أنه يمثل المشروع السياسي للنظام، لإعادة إنتاج الدولة على النحو الذي أشرنا إليه.
* وهناك ثانيا حالة الوعي التي يمثلها "الحراك الشعبي"، بكلِّ اضطراباته وأخطائه وعثراته وإرهاصاته وارتباكاته وتنافساته، وبكل إصراره على الاستمرار، وبكل محاولاته لملمةَ أشلائه المتناثرة، للخروج من قمقم التيه والتشتُّت اللذين يعاني منهما. وهي حالة من الوعي لا تقبل بإعادة الإنتاج السطحي القشري المضلّل والمخادع للدولة، للوقوع مجددا في أتون نوعٍ جديد من شرعية الفساد والتبعية والوظيفية والاستبداد والطبقية المتغوّلَة. بل هي حالة تصِّر على إعادة إنتاج الدولة على قواعد تحررُّرها الكامل من النظام الوظيفي ومن كلِّ مخرجاته التبعيَّة الضامنة لتحصين الدولة من الفساد والاستبداد والتغوُّل مستقبلا. ومن هنا فقد اتخذ الحراك الشعبي هذا قراره بمقاطعة الانتخابات باعتبارها من وجهة نظره، البوابة الآثمة لإتاحة الفرصة للنظام كي يستعيدَ من شرعيَّتِه ما تمَّت بعثرته على مدى العامين الماضيين، فيما هي بوابة ليست مؤهلة – من وجهة نظر أصحاب حالة الوعي هذه – للدخول عبرها إلى تحقيق مطالب الحراك المتمثلة في إعادة إنتاج الدولة على الأسس المستهدفة تلك.
* وهناك ثالثا حالة الوعي التي يمثلها ما نؤثرُ أن نطلقَ عليه "المشروع الانتخابي"، بكلِّ الأطياف التي رأت فيه طريقا لها ولمشاريعها وتطلعاتها، وبوابة لعبورها إلى المستقبل، أيا كان شكل هذا المستقبل الذي تصبو إليه تلك الحالة، منطويا على الإصلاح، أو على الترحيل، أو على الدمار، وأيا كان شكل العبور إليه، فرديا أو جماعيا. وهي من ثمَّ حالة وعي غريبة، شديدة الاضطراب، ومثيرة للشفقة أو للسخرية، لأنها تحمل على عاتقها مسؤولية التأسيس والتأصيل لأكبر كذبة سياسية مرَّ بها الأردن منذ عقود. لأنها إذ تلجأ إلى بوابة الانتخابات لتمرير ما تعتبره مشروعا سياسيا، فإن أصحابها لن يستطيعوا إلا أن يكونوا إما حاملين لـ "مشروع النظام" ذاتِه، وإما حاملين لمشروع "الانتهازيين والوصوليين"، وإما "مجموعة من الجهلة" لا يقرءون المشهد السياسي الأردني محليا وإقليميا ودوليا، إلا بأفق ضيِّق ينظر إلى العالم بعينين مصابتين بعمى الألوان.
وأمام حالة التجاذب السياسي بين هذه المشاريع الثلاثة، "مشروع النظام"، و"مشروع الحراك الشعبي"، و"المشروع الانتخابي". وفي ضوء معادلة موازين قوى على الأرض..
* تشير إلى أن "الحراك الشعبي" آثرَ تجنُّبَ العبورَ إلى مستقبله من بوابةِ انتخابٍ لا يملك فيها شيئا، ولا هي تمثِّل بالنسبة له أيَّ أمل بتحقيق أيِّ بند من بنود مشروعه، مفضلا مواصلةَ معركته على الأرض وفي الشارع وفي صفوف الجماهير.
* وتشير إلى أن "النظام الوظيفي" ما يزال يملك معظمَ الأوراق إن لم يكن كلَّها، فأصَرَّ على إجبار الجميع على العبور من بوابةٍ يعلم علم اليقين بأنها وحدها القادرة على إعادة نتاج الدولة تحت سيادته وهيمنته بتغييرات سطحية قشرية عديمة القيمة.
فإننا نتساءل عما بقي لأصحاب "المشروع الانتخابي" من شيء كي يفعلوه، بعد أن فقدوا قوتهم الشعبية وزخمهم الإصلاحي والتغييري بالعزوف عن التمترس في خندق الحراك الشعبي الذي يمثل وحده – إن تحققت فيه شروط ذلك – مشروع المستقبل وصورة الأردن الجديد، وبعد أن ألقوا بأنفسهم في الشَّرَك الذي أعده لهم النظام بوهم التغيير والإصلاح عبر بوابة الانتخابات، فخدموه دون أن يخدموا أنفسهم، هذا إن لم يكونوا أصلا خارج أجندة الفعل الوطني الإصلاحي والتغييري من حيث المبدأ؟!
أيا كانت الأسباب العميقة التي تقف وراء كلِّ واحد من المشاريع الثلاثة سالفة الذكر، فإن أيا من أصحابها والداعين إليها والمؤمنين بها، مضطرٌّ لوضع تصوراته حول كيفية التعاطي مع الملفات الكبرى التي تمثل محددات الأزمة الأردنية في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية.
ولأننا نعرف النظام ونمط تفكيره وسياساته وأهدافه ومبتغاه من كل هذا التلاعب بالمشهد السياسي، ولا ننتظر منه أيَّ حلول أو رؤى من أيِّ نوع، فإننا نقدم في هذه العجالة عرضا مركزا لتلك الملفات، طالبين من أصحاب المشروعين الآخرين، وهما "مشروع الحراك الشعبي" الذي اختار الشارع، و"المشروع الانتخابي" الذي اختار قبة البرلمان الأعرج، أن يطرحوا على الشعب الأردني رؤاهم وحلولهم الحقيقية على الصعيد البرامجي التفصيلي المباشر، فيما يتعلق بكيفية معالجتهم لتلك الملفات، وإلا – أي في حال عدم تلقينا مثل تلك الحلول والرؤى بذلك المستوى المطلوب – فمن حقنا أن نعتبر أصحاب تلك المشاريع مجرد متلاعبين بالشعب الأردني، وأنهم يتخذون من الدولة ومؤسساتها والتنافس على الحظوة بالتحكم فيها وإدارتها كلٌّ من مكانه وبحسب خياراته الضبابية المبهمة، مدخلا إما للوجاهة، وإما للنجومية، وإما للهيمنة الجديدة الفاتحةِ لأبوابِ الفساد والإفساد، وإعادة إنتاج الطبقية والوظيفية في هذا البلد المنكوب.
أولا.. الملفات السياسية والأمنية الكبرى..
1 – ملف إدارة المرحلة الانتقالية، لغاية صياغة دستور جديد للبلاد..
وفي هذا الملف تجب الإجابة على التساؤلات التالية..
* كيف سيتم التعامل خلال هذه المرحلة الحساسة والخطيرة، مع موضوع الفساد والفاسدين..
هل سيتم اعتقال الفاسدين ومحاكمتهم؟! وإن تمَّ ذلك فوفقا لأيِّ تشريعات وقوانين؟! وكيف سيتم ضمان محاسبة كلِّ الفاسدين وليس بعضهم ممن يمكنهم أن يهربوا من العقاب والمحاسبة لسببٍ و لآخر؟! وبما أن الفساد كان مستفحلا على مدى عقود، فهل سيتم اعتبار رؤساء الوزراء السابقين بمثابة رعاة للفساد؟! وهل سيعتبر الوزراء كذلك أيضا؟! وهل ستعتبر قرائن الفساد في المؤسسات الحكومية، والمُثْبَتَه بالتحليل العلمي والمنطقي وبمتابعة الوقائع المادية، والتي لا دليل واضح فيها على أعيان الفاسدين، بمثابة قضايا مسجلة ضد مجاهيل، أم أنه سيصار إلى تحميل المسؤولية لأولئك الذين كانوا يتولون إدارة تلك المؤسسات خلال فترات حصول عمليات الفساد؟! وهل ستُعتبر النفقات غير المُرشَّدة في الدولة قرائن على الفساد؟! وهل سيتم إدراج استرجاع الأموال المنهوبة ضمن ملف محاربة الفساد؟! وهل سيتمدد مفهوم الفساد ليطال الفساد السياسي والثقافي والإعلامي أيضا؟! ومن أيِّ سنة سيتم البدء باعتماد ذلك منطلقا معياريا للمحاسبة؟! وهل سيتم اللجوء إلى القوانين المعمول بها والتي هي في الأساس من إنتاج برلمانات حاضنة للفساد وراعية له ومُشَرْعِنَة لسيرورته؟! أم أنه سيصار إلى تعليق العمل بالدستور وبالقوانين الخاصة في هذا الشأن، وسن تشريعات مؤقتة تتيح الفرصة للخروج من عنق الزجاجة التي وضعنا فيها النظام بكلِّ مؤسساته وسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتتيح الفرصة بالتالي للتحرر في معاملة ملف "الفساد" من المخرجات التشريعية والسياسية للنظام الحالي، والتعامل معه بمنطق جديد مختلف يتيح فرصة حقيقية لتحقيق إنجازات على صعيد هذا الملف الخطير والمتشابك مع باقي الملفات الكبرى؟! أم أن هناك توجها فقط للعمل على استصدار تشريعات جديدة بهذا الاتجاه، وهي التشريعات التي قد تحول دون استصدارها بُنية النظام الذي يعتبر الاعتراف بشرعية مخرجاته التشريعية والعمل من خلالها، أكبر معرقل للإصلاح بأيِّ مستوى من مسوياته؟! أم أن موضوع الفساد برمته سيُرَحَّل إلى ما بعد إجراء التعديلات والإصلاحات الدستورية المناسبة؟!
* كيف سيتم التعامل خلال هذه المرحلة الحساسة والخطيرة، مع موضوع الخصخصة..
فهل سيتم العمل على استرجاع المؤسسات والشركات التي تمت خصخصتها؟! أم سيصار فقط إلى ملاحقة من خصخصوا وتحميلهم مسؤولية أخطاءٍ ليس بالإمكان التراجع عنها، ومحاسبتهم عليها ضمن حُزَمِ محاربة الفساد والمفسين؟! وإذا كان الاسترجاع منهجا مُتَّبَعا في التعامل مع ملف الخصخصة، فكيف سيتم ذلك، وبناء على أيِّ معايير، وباستخدام أيِّ أدوات؟! وإذا لم يتم اللجوء إلى استعادة تلك المؤسسات إلى الشعب عبر إعادتها إلى الدولة الأردنية، فما هي قيمة هذا الملف من الناحية السياسية عندئذٍ؟! وكيف يمكن التعامل مع تداعياته التاريخية والإستراتيجية وانعكاساته على اقتصاد الدولة المترهل؟! وهل سيتم اللجوء إلى القانون وفقط، والقبول بنتائجه؟! أم سيتم اللجوء إلى الإجبار والإكراه، مع إعادة الأموال المدفوعة إلى الجهات التي اشترت المؤسسات المخصخصة؟! أم أنه سيصار إلى مصادرة تلك المؤسسات وتأميمها؟! ومن سيتحمل خسائر الدولة والمضار التي لحقت بالشعب، طوال الفترة التي كانت فيها تلك المؤسسات مخصخصة؟! وكيف سيتم تعويض الشعب عن خسائره والأضرار التي لحقت به على مدى تلك الفترة؟!
* كيف سيتم العمل على إجراء الإصلاحات الدستورية في البلاد..
هل سيتم ذلك بالعمل على صياغة دستور جديد للبلاد، أم بالعمل على إجراء تعديلات محددة على الدستور الحالي؟! وكيف سيتم توصيف دستور يحقق الانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي تفصل بين السلطات، والتي تجعل الشعب مصدرا حقيقيا لها؟! وكيف سيتم تجسيد انتخاب حكومات صاحبة ولاية مطلقة بمعزل عن الملك الذي يجب أن تتقلص صلاحياته إلى مستوى ملك يسود ولا يحكم؟! أم أنه لا توجد نيَّة لإجراء تعديلات دستورية بهذا الحجم؟! وفي الحالة الأولى كيف سيتم التوصل إلى تلك التعديلات من خلال آلية برلمانية تحققت بقانون انتخاب فاشل، لا يعبر عن إرادة شعبية ولا بأيِّ شكل من الأشكال؟! وأيضا فهل هناك مثلا توجه لانتخاب جمعية تأسيسية لغرض إجراء التعديلات الدستورية المبتغاة، أو صياغة دستور جديد للبلاد؟! ولو تمَّ التوجه إلى ذلك، فعلى أيِّ أساس سيتم انتخابها؟! هل على أساس القانون الحالي المرفوض شعبيا، أم على أساس قانون جديد؟! وإذا تمَّ ذلك على أساس القانون الحالي فما الجديد إذن، بل وما هو حجم الشرعية فيها، إلا إذا تم الاعتراف بشرعية ما قامت عليه، وبالتالي بشرعية مخرجات النظام الحالي التشريعية؟! وإذا تم ذلك على أساس قانون جديد، فمن سيضع القانون الجديد؟! هل هو مجلس الأمة المنتخب بقانون مرفوض؟! أليست كلها تناقضات قائمة على تناقضات؟! وما الذي يمكن للدستور الجديد أن يتضمنه وينطوي عليه على صعيد الإصلاحات الاقتصادية، وعلى صعيد العدالة المجتمعية، فضلا عن موضوعات الحرية والسلطة والحكم؟!
2 – ملف فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية..
كيف سيتم التعاطي مع ما تعلَّقَ ويتعلق بقانون فك الارتباط من اتفاقيات وتشريعات، وعلى رأس كل ذلك المواضيع القانونية والإدارية مثل التجنيس وسحب الجنسيات، والبطاقات الصفراء والخضراء والتعبئة والتفتيش، والمواضيع السياسية مثل اتفاقية وادي عربة واتفاقية أوسلو ومرجعية مدريد، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية وحماس.. إلخ؟! وكيف سيم تحديد الدور الأردني في حالة العودة عن قرار فك الارتباط، أو في حال عدم العودة عنه فيما يتعلق بتحرير الأرض المحتلة؟! وهل أن الأردن سيبقى ضد الكفاح المسلح وإلى الأبد؟! وإذا قرر الفلسطينيون في الحالتين اللجوء إلى إعادة إنتاج الثورة والكفاح المسلح، فكيف سيكون الدور الأردني باعتبار الأردن صاحب الموقع الذي لا غنى عنه ديموغرافيا وجغرافيا لإنجاح أيِّ مشروع عسكري لمناجزة العدو الصهيوني، وباعتبار أن العمل المسلح لتحرير الأرض يحتاج إلى عمق إستراتيجي جغرافي وديموغرافي غير موجود إلا في الأردن؟! وبالتالي ما هو موقع الجيش ونفقاته وتسليحه ودوره في تحرير الأرض المحتلة، بناء على ما ستتخذه وجهة معالجة موضوع فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية، بأيٍّ من الاتجاهين السابقين؟! وهل ستتم إعادة إنتاج الحياة العسكرية في الأردن بشكل يمكنه من ممارسة دوره النضالي لتحرير الأرض المحتلة جنبا إلى جنب مع الإخوة الفلسطينيين، وعلى اعتبار أن الأراضي الأردنية ستكون في كلِّ الأحوال أراضٍ تحت التهديد؟! أم سيتم إعلان حياد الأردن المطلق في أيِّ صراع يدور بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي أيا كان شكله؟! وفي الحالة الأولى هل سيتم إنشاء صناعة عسكرية في حدٍّ معقول يساعد الجيش على أداء دوره المنوط به، أم سيتم الاكتفاء بتسليحه عبر الاعتماد على مصادر تسليح أجنبية؟! وهل سيتم إدماج الشعب في التدريب العسكري وفي المهمات القتالية أم لا؟! وفي كلِّ الأحوال هل سيتم أخذ واقعة أن الأردن هو دولة مواجهة في كافة المشاريع الاقتصادية والتنموية والعمرانية والثقافية والتعليمية، أم أن الأمر لا يتطلب ذلك، وأن الأردن لن يكون دولة مواجهة بالقدر الذي يتطلب بناء الدولة على ذلك الأساس؟!
3 – ملف الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها..
خاصة ما يتعلق منها بقوات الدرك، ومدى حاجة الأردن إلى هذه القوات على وجه الحقيقة، خاصة وأن الأردن كان في غنى عنها طيلة فترة الأحكام العرفية، فكيف يحتاج إليها في مرحلة يُفترض أنها ديمقراطية، بكل الدلالات القمعية واللاديمقراطية في المهمات التي تضطبع بها مؤسسة الدرك، وبكل تأثيرها على الموازنة العامة واستنزاف الموارد المالية للدولة كمؤسسة أمنية تفتقر إلى أيِّ دور ضروري في دولة ديمقراطية؟! وكيف يمكن أن تعاد هيكلة دائرة المخابرات العامة، بما يتناسب مع متطلبات دولة ديمقراطية غير أمنية؟! وكيف سيتم تحديد صلاحياتها وأدوارها المستقبلية؟! وهل ستبقى كما هي مؤسسة مستقلة مع تعديل صلاحياتها؟! أم سيتم دمجها في المؤسسة العسكرية لتقوم بدورها المنوط بها باعتبارها مؤسسة عسكرية؟!
ثانيا.. الملفات الاقتصادية الكبرى..
1 – ملف الفقر والبطالة..
كيف سيتم التعامل مع مُكَوِّنَي هذا الملف باعتباره من أخطر الملفات التي تؤثر على الاستقرار المجتمعي؟! وما هي السياسة الاستثمارية والاقتصادية والتشغيلية التي سيتم اتباعها لإقناعنا بأننا بصدد أطراف سياسية جادة وناضجة وتمتلك رؤاها الحقيقية للتعاطي الموضوعي مع هاتين المشكلتين، خارج نطاق الشعارات الجوفاء التي حكمت الأردن وما تزال معارضةً ونظاما على مدى عقود مضت، دون أيِّ نتيجة؟! وبالتالي فهل هناك رؤية واضحة لفهم العلاقة بين هاتين المشكلتين وبين بُنية الاقتصاد الأردني على أساس طبقي رأسمالي مجحف؟! أي هل أن هناك حلول اقتصادية حقيقية لا تجد نفسها معنية سوى بالتخلص من هاتين الكارثتين، بصرف النظر عن المردود المتوقع على صعيد البُنية الطبقية للمجتمع.. إلخ؟! أم أن الأصل سيكون هو الحفاظ على اقتصاد السوق ورأسمالية الدولة والحرية الاقتصادية القائمة على حرية التملك، وأن البحث عن حلول هاتين الكارثتين "الفقر" و"البطالة" يجب أن يكون في ضوء ذلك ودون المساس بتلك المبادئ؟! وبالتالي ما هو النظام المصرفي الذي سيتم الاعتماد عليه؟! هل هو النظام الحالي، أم أنه سيتم إعادة إنتاج نظام البنوك والأسواق المالية والبورصات والسياسات النقدية وقواعد التعامل بالعملات، على أساس خدمة المبادئ الاقتصادية التي يمكنها أن تحارب الفقر والبطالة؟! وما هو التصور المقترح لدى هؤلاء جميعا لمشروعية الثروة في المجتمع؟! هل هي مشروعية المصدر دون مشروعية الاستخدام؟! أم هي مشروعية الاستخدام دون مشروعية المصدر؟! أم هي مشرعية المصدر والاستخدام معا؟! ومن ثمَّ وبناء على ذلك، ما هي معايير مشروعية كل واحد من عنصري المشروعية السابقين؟! وما هي مكانة تحقيق القيمة المضافة النافعة للاستهلاك البشري الوطني في تكوين المشروعية؟! أم أن ذلك لا يهم؟! وبالتالي وبناء على أيِّ الموقفين سيتم التأسيس عليه فيما يتعلق بالقيم المضافة، ما هي مكانة النشاطات الطُّفَيْلِيَّة في المجتمع والتي تترتب عليها دخول مالية للأفراد وللتجمعات؟! وبالإضافة إلى كل ذلك، هل هناك توجهات لتغيير نظام الحيازات العقارية في المجتمع وعلى رأسها حيازة الأراضي، بما يحقق منطق مشروعية المصدر والاستخدام الناتجتين عن تحقيق القيم المضافة الحقيقية والنافعة؟! أم أن تغييرات من هذا النوع لن تحدث؟! وبالتالي وإذا لم تحدث، فكيف يمكن تحويل الأرض إلى مصدر إنتاج حقيقي لتحقيق أعلى درجات الاكتفاء الذاتي في المنتجات الغذائية والرعوية، والمائية؟!
2 – ملف اختلالات وعجوزات الموازنة..
كيف يمكن الخروج من دائرة التزييف الذي عودتنا الحكومات من خلاله على التعامل مع هذا الملف دائما باعتباره أهم عنصر في استقرار البلاد سياسيا واقتصاديا، في تزييفٍ ممنهج للوعي الاقتصادي، حفاظا على منظومة طبقية لا يراد التأثير على مصالحها وممتلكاتها ومبادئ اقتصاد السوق التي خلَّقَتْها وأغنتها وأفقرت شعبا كاملا لأجلها؟! وبالتالي هل هناك تصورات وحلول واضحة وعملية تُمَكِّن من حلِّ تلك الاختلالات والعجوزرات من خلال عدم اللجوء إلى جيب المواطن الفقير والمتوسط وإرهاقه بالضرائب ورفع الأسعار باستمرار؟! وهل هناك حلول عملية حقيقية تعيد هيكلة الدولة بأكملها، وعلى رأسها القطاع العام، بما يضمن ترشيد النفقات العامة إلى أقصى الحدود الممكنة؟! وهل من آفاقٍ لهيكلة مرتبات موظفي القطاع العام، بما يضمن تفاوتات عادلة ومنصفة ومنطقية بين مختلف الدرجات الوظيفية؟! أم أن الحلول لن تكون خارج نط\ق المحاولات نفسِها التي تتعامل مع فقراء الشعب باعتبارهم هم الضمانة الوحيدة للحفاظ على استقرار الموازنة العامة والقطاع الحكومي والنظام الطبقي الرأسمالي للبلاد بشكله الاستنزافي القائم؟! وبالتالي ما هي االسياسات الضريبية التي سيتمُّ اتباعها لحلِّ كلِّ تلك المشكلات بالشكل الذي قد يوحي بأن أمورا حقيقية قد اختلفت عما كان سائدا؟! ويدخل ضمن هذا السياق موضوع الأسعار، فهل هناك من تصوراتٍ تكفل تخفيضها بشكل يضمن تكريس قدرة شرائية منصفة للمواطن الفقير والمعدم ومتوسط الحال، من خلال البحث عن حلول لمشكلات الموازنة بعيدا عن قدرة المواطن الشرائية؟! وفي هذا السياق أيضا، ماذا عن المؤسسات الخاصة المرهقة للموازنة وكيفية التخلص منها، أو كيفية توجيهها ضمن سياسة الإبقاء عليها، وكيفية إدماج موظفيها في المؤسسات التابعة للوزارات، إن تم اتخاذ القرار بالتخلص منها؟! وكيف سيتم التعامل مع كارثتي المديونية الداخلية، والمديونية الخارجية؟! وهل هناك من تصورات حقيقية للتخلص من الوقع المرهق للدين العام بشكل لا يرهق الدولة والمواطن؟! وبالتالي فما هي التصورات المقترحة في هذا الشأن لوضع حلول جذرية تعيد الاستقرار إلى البلاد، وتخفف من حدة الضغوطات الخارجية ومؤسسات الإقراض العالمية؟! وهل يمكن للتوقف عن سداد الدين الخارجي بإعلان تعليقه والانضمام إلى نادي الدول المعلقة لسداد ديونها لأسباب داخلية، أن يكون حلا؟! وفي حال انتهاجه حلا، ما هي الحلول الجانبية المرافقة لتعويض الإيرادات المتأتية عن الدين الخارجي، بشكل فوري أو تدَرُّجي؟! وهل يمكن انتهاج سياسة إيرادات للخزينة تجعل الاقتراض معدوم القيمة إذا ما قيس بالسداد، فيتم تحويل الدين وسداده إلى معادلة صفرية تغني عن مبدإ الاقتراض أصلا؟!
3 – ملف المياه..
ما هي الحلول المقترحلة للتخلص من هذه الأزمة؟! وماذا بشأن سياسة الحصاد المائي وخاصة في المساحات الواسعة من البادية الشرقية التي تضيع فيها سنويا آلاف الملايين من الأمتار المكعبة التي يمكن حصرها وضمان استخدامها بما يحقق وفورات مائية حقيقية؟! أم أن هناك من يرى أن هذه سياسة غير مجدية، وأن هناك حلولا أخرى كالتحلية البحرية، أو كالزيادة في استنزاف المياه الجوفية المتجددة منها وغير المتجددة مثلا؟! وماذا بشأن مياهنا المسروقة من قبل العدو الصهيوني، وهل هناك سياسات محددة لاسترجاعها والمطالبة بها بأيِّ شكل كان؟! وكيف سيتم التعامل مع كارثة اتنزاف مياه "حوض الديسي" غير المتجددة مادامت البدائل متاحة ومتوفرة؟! وما هي الرؤى بخصوص الأسرار التي تغلف استثمارات وملكيات ذلك الحوض الإستراتيجي مائيا وزراعيا، بكل الفساد ومَنْهَجَة النهب الذي يحوم حول تلك الاستثمارات والملكيات؟!
4 – ملف الطاقة..
هل يمتلك أيُّ طرف سياسي يطمح إلى السلطة أيَّ تصور عملي واضح لحل هذه الأزمة في البلاد، سواء على صعيد الحصول على النفط بشكل يحررنا من التبعية وإرهاق ناتجنا القومي، أو على صعيد الأمر نفسه بالنسبة الغاز بشتى استخداماته، أو بالنسبة لتوليد الكهرباء؟! بل هل هناك من تصورات ورؤى واضحة بشأن استخدام أنواع الطاقة البديلة المتاحة في الأردن من خلال مواردنا الذاتية؟! وكيف سيتم ذلك؟! وما هي الاقتطاعات الاستثمارية التي ستُضَخُّ في هذا القطاع البديل لإنتاج كهرباء أكثر وفرا وأمنا؟! وماذا بشأن المشروع الأكثر إثارة للجدل في الأردن، ألا وهو مشروع إنتاج الطاقة الكهربائية عبر إنشاء مفاعلات نووية؟! هل ذلك مطلب وطني فعلا ولماذا، أم أنه مطلب كارثي ولماذا؟!
5 – ملف الزراعة..
كيف سيتم التعامل مع واقعة أن في الأردن أراضٍ شاسعة قابلة للزراعة وللاستصلاح الزراعي، مع أن عشرات الحكومات السابقة لم تفكر في وضع أيِّ إستراتيحيات لاستغلالها، مُفَضِّلَةً التجاوب مع مصالح الطبقات الطفيلية التي تحرص على جعل غذاء المواطنين رهنا لمشاريعهم التجارية، مُؤْثِرَة الاستيراد حتى للمواد الأساسية التي يمكن إنتاجها محليا، والتي تمثل في العادة خطا أحمرا فيما يتعلق بالأمن الغذائي الوطني في كل الدول الحريصة على استقلالها وعدم تبعيتها سياسيا؟! وهل سيتم انتهاج سياسات زراعية تعمل على إنتاج كافة أنواع التقاوي والبذور والأعلاف اللازمة للزراعة المحلية، ولتنمية الثروة الحيوانية محليا، لتوسيع آفاق الأمن الغذائي في البلاد؟! أم أنه سيتم الإبقاء على المنهج الراهن في استيراد كلِّ احتياجاتنا الغذائية والزراعية والعلفية من الخارج؟! وإذا تمَ انتهاج ما يمكنه تحقيق الاكتفاء الذاتي الآمن في هذه السلع والمحاصيل الهامة، فكيف سيتم تضمين ذلك في سياسات الدولة على صعيد الاقتطاعات الاستثمارية، والسياسات التشجيعية والحمائية لتحصين مناعة مثل هكذا سياسة؟! وكيف سيتم تحصين المزارع الأردني ضد الفئات الطفيلية التي تمتص عرقه وجهده ورزقه، وتنتفع بدلا منه من معظم عائد جهده الزراعي دون أيِّ وجه حق؟! وهل هناك سياسات جادة للتخلُّص من فئة السماسرة الطفيليين، عبر جعل المستهلك أو الدولة يتعاملان مع المزارع بشكل مباشر، كي يتم ضمان وصول المحاصيل الزراعية للمواطنين بأسعار معقولة، لا تمسُّ حقوق المزارع في الكسب المشروع الذي يكفل له تحقيق دخل متوازن وآمن، ما يمكنه من الاستمرار في أداء دوره الوطني على أكمل وجه؟! أم أن السياسة الزراعية التي سيتم اتباعها لن تمس بنمط تقسيم العمل في هذا القطاع، سمسرة واستيرادا، ولا بنمط توزيع الأراضي، ملكية وحيازة.. إلخ؟! بل في حال العمل على استغلال البادية الأردنية الواسعة لتكوين مشروعات زراعية ومحصولية وغذائية وحيوانية ومائية رائدة تحقق الأمنين المائي والغذائي للأردنيين، فهل يعي من قد يعلن ذلك أن عليه أن يمتلك رؤيةً واضحة للتخطيط المدروس لإعادة الانتشار السكاني عبر البادية، لخلق تجمعات سكانية جديدة قرب المشاريع التي سيتم تنفيذها في هذا الشأن، ما سيؤثر على بنية الخط السكاني التاريخي التقليدي، والممتد من الرمثا إلى العقبة على مسارٍ واحد؟! بل وهل يعي هؤلاء أيضا أن مئات الآلاف، بل ربما أن ملايين المواطنين سينتقلون إلى حيث ستنفذ تلك المشاريع، ما يعني تغيير البنية الديموغرافية للمجتمع الأردني قياسا بالجغرافيا؟! وهل هناك تصورات لطريقة التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة المُحَتَّمَة في حال انتهاج سياسات جادة لتحويل الأردن إلى دولة مائية وزراعية وسلة غذاء حقيقية لأهله ولمحيطه أيضا؟!
6 – ملف الصناعة..
هل سيتجرأ أصحاب أيٍّ من تلك المشاريع على الإعلان عن أن الأردن عبارة عن متحف طبيعي للموارد والثروات والمعادن الأساسية الأكثر أهمية في العالم، بالنسبة للصناعات الدقيقة والمتطورة، خلافا لما زيَّف به النظام وعي الأردنيين على مدى عقود طويلة، ليستلبَ إرادتهم السياسية، معلنا على الدوام أن الأردن بلد فقير بالموارد، وأنه مضطر لأن يمدَّ يدَه لاستجداء الغير، ما يجعله غير قادر على الاستقلال في قراره السياسي؟! وهل يملك أيٌّ من هؤلاء تصورا موضوعيا علميا مرتكزا إلى الدراسات، عن حجم تلك الموارد والثروات الطبيعية والمعادن واحتياطياتها وأماكن تمركزها، وعن كيفية استخراجها واستخدامها ومجالات استثمارها وكُلَفِ كلِّ ذلك؟! ومن ثمَّ، هل هناك أيّ تصور لدى أيٍّ منهم حول ما يمكنهم أن ينتهجوه من سياسات تصنيعية تعتمد على تلك الموارد، لزيادة الدخل القومي ورفع مستوى معيشة المواطنين، وتحقيق الاكتفاء في الكثير من الصناعات القائمة على تلك الموارد، بل والوصول إلى تصديرها وفتح أسواق عالمية لها؟! وفي كلِّ الأحوال فهل لدى أصحاب تلك المشاريع في حال الرغبة في تفعيل عملية التصنيع في أبعادها الاستخراجية والتحويلية والتركيبية بناءً على تلك الموارد، أيُّ تصو حول كيفية وضع الخطط الكفيلة بتأمين الاستثمارات المحلية بالدرجة الأولى والعربية بالدرجة الثانية لإنجاز مثل هذه المشاريع؟! وإذا تطلب الأمر إعادة صياغة قواعد وقوانين الضرائب والادخار والاستثمار.. إلخ، للدفع إلى فرض هذه السياسة، فهل لدى هؤلاء الجرأة على أن تكون مشاريعهم على هذا القدر من المسؤولية؟! أم أن المسألة ستبقى لديهم مجرد فُرَصٍ متاحة لمن يشاء؟! أو حتى أنها لا تعتبر فرصا حقيقية بالقياس لما قد يُعتبر لديهم حرصا على الإبقاء على بُنية النظام الطبقي المتغوِّل حاكما وسائدا دون أيِّ مساسٍ بمصالحه ولا بأيِّ شكل من الأشكال؟!
ثالثا.. ملفات البنية التحتية الكبرى..
1 – ملف الثقافة..
هل يدرك أصحاب تلك المشاريع أن النهضة في أيِّ مجتمع قائمة في الأساس على نهضة ثقافية، تهدم ثقافة بائدة، لتبني ثقافة جديدة تؤسِّس وتؤصِّل لكلِّ السياسات الأخرى التي تُعتبر بُنى فوقية بالقياس للثقافة التي تُعتبر بُنية تحتية أساس؟! فإن هم لم يدركوا ذلك واعتبروا مهمة وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية تنحصر في دعم أمسية شعرية هنا، وتمويل تأليف كتابٍ هناك، والدعوة إلى محاضرة في مكان ثالثٍ يلقيها مثقف يُغرِقُ من خلالها سامعيه في طلسميات غروره، فلنا أن نتساءل عما ترتكز إليه مشاريعهم التي يَدَّعون حملها من بُنى ثقافية تأسيسية؟! بل لنا عندئذٍ الحق في التشكيك في كلِّ مشاريعهم باعتبارها، إما معلَّقة في فراغٍ يسنده الجهل بعلاقة الثقافة بالسياسة والاقتصاد، وإما أنها تعمل على إعادة إنتاج النظام والدولة فقط، وبشكلٍ مخادع ومضلِّلٍ، مادامت الرؤى الثقافية التي تهدم وتبني في العمق غير موجودة ولا متوفرة في مشاريعهم تلك؟! وإذا هم أدركوا ذلك، فما هي الخُطَط المنطواة في مشاريعهم للنهوض بثقافة الشعب الأردني على كلِّ الصعد، ولتحويل كلِّ القيم المراد التأسيس لها إلى قيَمٍ ذات أسس ثقافية تجسِّد ثقافة مجتمعية جديدة؟!
هل يدرك هؤلاء أن "العصبية" ثقافة، وأن "تقديس المَلِك" ثقافة، وأن "الولاء الأحمق للأشخاص أيا كانوا" ثقافة، وأن "الفساد" الذي استشرى في كل أوصال الدولة والمجتمع هو أيضا ثقافة، كما أن "المواطنة" ثقافة، وأن "الانتماء" ثقافة"، وأن "الحرية" ثقافة إلى جانب كونها مطلبا، وأن "العدالة" ثقافة إلى جانب كونها مطلبا، وأن "التشاركية والتعددية"، واحدة من أهم الثقافات، وأن "الاختلاف السلمي" ثقافة، وأن "روح العمل التطوعي" ثقافة، وأن "الامتناع عن الغش" ثقافة، وأن "النقد البناء" ثقافة، وأن "الشجاعة وعدم الخوف من الحاكم" ثفافة، وأن "روح القمع" ثقافة، وأن "الألفة مع الباطل" ثقافة. بل هل يدرك هؤلاء أن أبشع أنواع الثقافات المدمرة للإنسان أداءً وعطاءً، "انطواء الذهن على تعايشٍ بين التناقضات القِيَمِيَّة"، كتلك المتمثلة في فهم أن الإسلام لا يقدس شخصا ولو كان نبيا، ويحاسب الكل ولو كاوا حواريين، في حين يتم رفض محاسبة "شخص الملك" والقبول بسموه التأليهي وعدم محاسبته بتأسيسات وتأصيلات دينية إسلامية.. إلخ، وبالتالي فإن كلَّ السياسات التي انتهجها النظام وما يزال، قامت وما تزال قائمة أيضا، على مفاهيم ثقافية قميئة تجب مناجزتها ثقافيا بأضدادها؟! وبالتالي فهل في حوزة هؤلاء أيُّ خطط أو برامج للنهوض الثقافي بالمجتمع وبكل مُكَوِّناته ومرافقه كي ينتقلَ بصورة سلسلة إلى مجتمع قادر على أن ينهض بنفسه عبر مُكونات ثقافة جديدة على أنقاض الثقافة الفاسدة المستشرية في مختلف أوصاله؟! أم أن هؤلاء يتصورون – بمنتهى الرعونة والحماقة – أن الثقافة شيء ترفي إضافي لا علاقة له بالنهضة وبالسياسة وبالاقتصاد، وأنه ليس من مهمات النظام السياسي الاضطلاع بأدق تفاصيل العملية الثقافية، خاصة في دول ومجتمعات تنهض من براثن الاستبداد والتبعية، لتبقى الثقافة في نظر هؤلاء مجموعة من الأيقونات الطلسمية التي تتعلق بالنخب وبالأدباء والكتاب والفنانين ليس إلا؟! وعندئذ فهل نستطيع الثقة بأن هؤلاء يختلفون عن النظام نفسه في أنهم لا يريدون بل ولا يستطيعون إنتاج ثقافة مجتمعية وفردية جديدة لدى الأردنيين ترتقي بسويتهم الإنسانية على كلِّ الصعد، وبالتالي فهل سنصدق أيا من ادعاءاتهم في مشاريعهم، هذا إن تجرأوا فعلا وادعوا حلولا للملفات التي أشرنا إليها حتى الآن؟!
2 – ملف التعليم..
كيف سيتم التوفيق بين المخرجات التعليمية وسوق العمالة؟! وكيف سيتم ربط العملية التعليمية برمتها بالاحتياجات المجتمعية؟! وما هو المطلوب فعله لتحويل التعليم بكلِّ مستوياته إلى قطاع خدمي مجاني دون المساس بجودته، بل بتفعيلها وتطويرها؟! أم أن التعليم سيبقى مجانيا فيما هو دون الجامعي، ليبقى حرا وغير مخطط له ومدفوع الأجر في مستواه الجامعي؟! وهل هناك أيُّ تصورات ورؤى وبرامج واضحة ومحددة عن الفلسفة التعليمية التي سيعاد إنتاج العملية التعليمية في الأردن على أساسها، بعد أن أثبتت الفلسفة الحالية فشلها في تنشئة وتكوين المواطن الإنسان الفاعل المنتج القادر على المبادرة والتفكير والعطاء والمتحرر من العصبية والشوفينية والواعي بمعاني الولاء والانتماء والمواطنة.. إلخ؟! وهل هناك إرادة فعلية في تغيير كافة المناهج التعليمية وطرق الاختبارات والامتحانات، وأنماط التعامل مع عناصر العملية التعليمية التي هي "الطالب" و"المعلم" و"الإدارة المدرسية" و"البناء المدرسي"، بما يكفل تحقيق تلك الغايات؟! وما هي التصورات بشأن حدود ودور التعليم الخاص؟! وكيف سيتم تنظيم التعليم العالي الحكومي والخاص بشكل لا يؤثر على المُخرج التعليمي من جهة، وعلى احتياجات المجتمع والتنمية من جهة أخرى؟! وكيف سيتم الارتقاء بمستوى معيشة المعلمين في كلِّ المستويات، وكيف سيتم رفع سوية كفاءاتهم التعليمية باستمرار لمواكبة أحدث الابتكارات الإنسانية في أنماط التعليم؟! وما هي الرؤى المالية والتنموية، ووفق أيِّ تدرجٍ في الخطط سيتم تأمين الاقتطاعات المالية القادرة على الدفع بالعملية التعليمية لتحقيق الأهداف المعلنة؟! أم أن العملية التعليمية في الأردن تعتبر جيدة ومقبولة ولا تحتاج إلا إلى بعض الرتوش لتجميلها ليس إلا؟! وما هي مكانة البحث العلمي الذي من شأن الاستثمار فيه إلى جانب الاستثمار في تطوير التعليم وفي تفعيل أنماط إعداد النشء وفق البُنى الثقافية الجديدة، أن يعتبرَ نوعا من أنواع التنمية المستدامة التي تستوجب إنفاقا عاجلا لارتقاب مردود آجل؟! وكيف يمكن لأيِّ فئة من فئات أصحاب المشاريع السياسية أن تنتقل بنا في خطاباتها في هذا الشأن من مجرد الاجترار الذي لا يجد الشيطان نفسه غضاضة في اجتراره اليوم والتحلل منه غدا، إلى طرح الرؤى العملية، والتفاصيل الموضوعية القادرة على تحقيق هذه النقلة النوعية في قطاع التعليم، ضمن خطط ربعية أو خمسية أو حتى عشرية، إن كانت لدى هؤلاء أيُّ خطط بهذا الشأن؟!
3 – ملف الصحة..
هل هناك ابتداء أيُّ تصور واضح ومنطقي لتشخيص حالة الوضع الصحي المتردي في الأردن، بعيدا عن الادعاءات الزائفة بتطوُّر وتقدُّم القطاع الصحي لدينا؟! وهل هناك إدراك لواقعة أن العلاج السياحي الذي يتميز به الأردن ليست له أيُّ قيمة صحية لا وقائية ولا علاجية، عندما تقاس هذه القيمة بالاحتياجات المجتمعية الحقيقية للمُنْتَج الخدمي الصحي وقاية وعلاجا؟! وبالتالي فهل يمكن لأيَّ من أصحاب تلك المشاريع أن يضعوا رؤاهم وتصوراتهم عن كيفية الارتقاء بهذا القطاع على النحو المأمول في حدِّه الأدنى على الأقل؟! وهل يمكن لهؤلاء الاعتراف بأن معيار تطور القطاع الصحي متمثلا بعدد الأطباء والممرضين بالقياس لعدد السكان يعتبر في الأردن بعيدا جدا عن الوضع المعياري بشكلٍ ملفت، مهما تم ادعاء غير ذلك من المستفيدين والمنتفعين من تجارية واستثمارية القطاع الصحي؟! هل يدرك هؤلاء أن توفر طبيب واحد لما يقارب كل 400 مواطن في الأردن، يعتبر بعيدا جدا عن المعدل المعياري العالمي، والذي هو طبيب لكل 80 مواطن؟! وبالتالي هل يتم الكف عن ادعاء التطور في القطاع الصحي في الأردن خارج إطار الاستثمارات ذات الطابع السياحي؟! ثم كيف يمكن توسيع دائرة التأمينات الصحية لأكبر قطاع من المواطنين، سعيا نحو جعل العلاج مجانيا لكل المواطنين، وبأجود الخدمات الصحية؟! ولمن يفكر في ذلك، هل توجد لديه خطط فعلية ربعية أو خمسية أو عشرية للانتقال إلى هذه المرحلة بشكل يتناسب مع إمكانات الأردن الحقيقية؟! أم أن الأمر لا يدخل في مشاريع هؤلاء إلا ضمن دائرة استكمال رتوش الادعاءات المتوارثة في الخطابات الحكومية والملكية الدائمة، والتي لا تخلو من عبارة "النهوض بالقطاع الصحي وتوسيع دائرة الفئات المنتفعة من التأمين الصحي"، لنجد أنفسنا باستمرا بإزاء قطاع صحي لا يلبي الحاجات الحقيقية للمجتمع؟! ثم ماذا بشأن الصحة المدرسية، حيث صحة أبنائنا ومستقبلنا وأجيالنا الصاعدة؟! وماذا بشأن البيئة الصحية من حولنا بكل جوانبها؟!
ما هو المطلوب من كل يريد أن يشتغل بالسياسة في الأردن؟!
إن أيِّ طرف، شخصا كان أو حزبا سياسيا، أو قائمة انتخالية مُرْتَجَلة، من تلك التي راحت تتوالد كـ "الأميبا" بشكل عجيب في الآونة الأخيرة، لا يملك رؤية واضحة بخصوص الملفات السابقة، والقضايا المعروضة، من حيث توفر الإجابات الواضحة على الأسئلة المطروحة حولها لديه وفي مشروعه، هو طرفٌ، ليس مؤهلا لممارسة العمل السياسي، ويجب عليه أن ينزوي في بيته أو في مكتبه وأن يكتفي بالتلفع بعباءة مشيخته، ويكفَّ عن الارتزاق والمتاجرة بالشعب والوطن، لأنه مهما قال ومهما ادعى فهو لا يطرح سوى حديثٍ مرسلٍ لا قيمة له. لأن المناداة بحل مشكلة البطالة والتخفيف من حدة الفقر والفوارق الطبقية، والدعوة إلى تشجيع الاستثمار، والقول بضرورة حل مشكلة العجز في الموازنة بدون التسبب في مشكلات لمحدودي الدخل، وتطوير التعليم والنهوض بالقطاع الصحي، وغيرها من عشرات الشعارات البراقة، هي شعاراتٌ ينادي بها حتى الشيطان نفسه وهو يَسْتَدْرِج عبادَ الله إلى جهنم. أما الرؤية بمعناها الحقيقي، والبرنامج بدلالته الموضوعية، والمشروع بمفهومه العملي، فهو طرح الكيفيات التي ستحقق تلك الشعارات بشكل منطقي وموضوعي، أيا كانت النظريات والمبادئ التي ستقوم عليها الحلول.
وهؤلاء الذي يظنون أنهم برفعهم لتلك الشعارات، إنما يطرحون مشاريع سياسية أو اقتصادية جديرة بالاحترام والتقدير، خارج دائرة "الجعجعة" المدويَّة التي لا تُنْتِج "طحنا"، حتى لو لم يكن أحدهم يفرق بين "الموازنة العامة للدولة" و"الناتج الإجمالي"، أو بين "الميزان التجاري" و"ميزان المدفوعات"، أو لا يفرِق في مكونات الدين العام، بين مُكَوِّنه الداخلي وكيفية تَشَكُّلِه، ومُكَوّنِه الخارجي وكيفية تَشَكُّلِه، أو بين "نادي باريس" ونادي الدول التي أعلنت تعليقها لسداد ديونها الخارجية، أو بين دلالة التَّغَيُّرات في أسعار الأسهم في الأسواق المالية على ثقة المستثمرين والمتعاملين، وبين افتقارها للدلالة على أيِّ قيمة مضافة للناتج الإجمالي للدولة في ذاتها.. نقول.. إن هؤلاء لن يضيفوا إلى الشعب إلا معاناة جديدة على معاناتهم القائمة فعلا، إما بترحيل الأزمات خدمة للنظام الوظيفي الطبقي، وإما بالارتزاق خدمة لأنفسهم وأنواتهم ووجاهياتهم ومصالحهم على حساب الشعب والمتاجرة باسمه وبمعاناته، وإما بالجهل الذي يجعلهم أكثر إضرارا من سابقيهم.
لا بل إن الحراك الشعبي نفسَه، إذا لم تكن له إجاباته الواضحة، ورؤاه الحاسمة بشأن كلِّ تلك الملفات، فلن يكفيه صدقه، ولن تكفيه طهارته ورغبته في التضحية والعطاء ولا حتى إصراره ومثابرته، لأنه بافتقاره ذاك يمنح النظام الوظيفي، فرصةً يستكمل بها هذا النظام مشروعيته المتعثرة والمبعثرة، والتي هو بصدد البحث عن استعادتها بقوة، عبر مسرحية الانتخابات العرجاء القادمة.
أيها الشعب الأردني..
احذر وانتبه أن يخدعوك، فكل اللصوص الذين سرقوك، وكل الفاسدين الذين نهبوك وجوعوك، كانوا يقفون أمام البرلمانات ثم يتآمرون معها، ويصرِّحون أمام وسائل الإعلام ثم يستخدمونها للترويج لباطلهم، ويطرحون خطابات حكومية مبهرجة، ومشاريع موازنات محبوكة، يعلنون فيها صباح مساء، أنهم يفكرون فيك، ويبحثون عن حلِّ مشكلاتك، والتخفيف من حدة البطالة بين أبنائك، والقضاء على جيوب الفقر في أحيائك المعدمة وحواري محروميك، وتقليص المديونية الذي بها ذبحوك ذبح النعاج، ثم عندما يرحلون عن سدَّة السلطة، يكونون قد فتحوا "مزرابا" جديدا في قائمة "مزاريب" استنزافك، ليأتي بعدهم من يقول أقوالهم نفسها، ويستخدم خطاباتهم ذاتها، ويفعل أفعالهم بلا أدنى تغيير أو تعديل، وهكذا دوليك.
ولا تنسى أيها الشعب الأردني، أن هؤلاء جميعا كانوا يختبئون وراء "خطابات عرشٍ" كانت هي قبلتَهم، ومآلَهم في كذبهم عليك، وفي سرقتهم لك، وفي نهبهم لرزقك ورزق أبنائك ومصائرهم.
إننا ننتظر إجابات أصحاب المشاريع، ورؤى تلك القوائم التي اندلقت مستعجلة على لعب أدوارٍ مسخٍ في مسرحية بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
وكم سيكون مؤلما أن نكتشفَ أن أيا من هؤلاء لا يملك رؤية حقيقية للتعاطي مع أيِّ ملف من الملفات المذكورة سابقا، خارج إطار الدوران في فلك النظام الوظيفي التَّبَعي، ومصالح التحالف الطبقي الحاكم، للاقتيات على فتاته، ودفع الثمن بتمرير كلِّ التشريعات والقوانين والسياسات التي ستحافظ له على تمركزات ثروته، وعلى تحالفاته الإقليمية والدولية ضمن فضاءات المشروع الإمبريالي الصهيوني الوظيفي الآثم، سواء وعى هؤلاء المسوخ الجدد أنهم يقومون بذلك أم لم يعوا