على هامش "المقال المؤثر من امرأة مسلمة"..
المنشور على الرابط المرفق أدناه..



منذ بدأت أعي هذه الحياة وأستشعر ما يدور فيها وأعافس العمل العام، وأنا أسمع عما يطلق عليه "حقوق المرأة"، و"اضطهاد المرأة"،
و"شراكة المرأة"، و"تغييب المرأة".. إلخ.. وقد دفعني ذلك إلى الاهتمام بوضع المرأة وحياتها وتاريخ نضالها، ومكانتها في مختلف
الثقافات والأديان، سعيا مني لوضع يدي على نقطة البدء في التعاطي مع هذه الظاهرة المجتمعية بالغة الحساسية..
ومع أنني توصلت فيما توصلت إليه إلى أن معظم الثقافات البشرية تعاملت مع المرأة حتى وهي تدعو إلى تحريرها عندما افترَضَتْها مستعبَدة، وإلى تدعيم حقوقها عندما اعتبرتها منقوصة الحقوق، من منطلق أن الرجل هو الأصل وهو بمثابة النظام، وأنها بمثابة المعارضة التي تطالب بحقوقها من هذا النظام، إلا أنني اكتشفت في الوقت ذاته أن هناك خللا بنيويا في تشخيص المعضلة كلها من حيث مرتكزاتها التي تقوم عليها..
فليست كل مشكلات المرأة قائمة بسبب استحواذ الرجل عليها وعلى وجودها وحقوقها، بل إن الشطر الأهم والأخطر من مشكلات المرأة
قائمة شأنها شأن مشكلات الرجل في مواجهة النظام السائد ومرتكزاته الثقافية والاقتصادية والمجتمعية..
مشكلة المرأة ليست مع الرجل بما هو رجل من حيث المبدأ، بل هي مع النظام الذي يجب أن تعارضه هي والرجل المتضرر منه،
تعارضه برجاله وثقافته ومنهجه وكل مُدخلاته ومُخرجاته..
إن الثقافات التي تسود المجتمعات وتديرها بمفاعيلها الاقتصادية والسياسية والمجتمعية المختلفة، هي التي تموضِعُ المرأةَ في هذا
المكان أو في ذاك، بناء على دورها المفترض في النظام الثقافي المهيمن. وهذا النظام هو ذاته الذي يُمَوْضِع الرجل في هذا المكان أو
في ذاك، بناء على دوره المفترض فيه..
وبالتالي فالمواجهة عند الحديث عن مقولة "حقوق المرأة" يجب أن تكون مع النظام الثقافي السائد برمته، لإعادة إنتاجه وفق رؤية
ثقافية جديدة تعيد تنظيم التَّمَوْضُعات بالشكل لذي يعتبر أكثر تأشيرا على الحقوق، سواء للمرأة أو للرجل لجهة النظام ككل، أو للمرأة
وحدها لجهة علاقاها بالرجل في ظل النظام ككل..
ولتوضيح المسألة أكثر، دعونا نناقش وضع المرأة لجهة حقوقها المنتزَعَة سواء في مواجهة الرجل، أو برفقة الرجل في مواجهة النظام
الثقافي ككل، في ظل الثقافة الليبرالية الأوربية التي هيمنت على توجيه الفعل السياسي والاقتصادي والمجتمعي الأوربي خاصة،
والغربي عامة منذ ما يزيد على ثلاثة قرون..
فما هي النقلة الحقوقية التي أنجزتها المرأة في ظل هذه الثقافة سواء وهي تناضل برفقة الرجل في قلب النظام الثقافي الليبرالي، أو
وهي تناضل برفقة نظيرتها المرأة الأخرى في قلب "الذكورة" المهيمنة على مفاتيح السيادة على الحضارة والمدنية..
بداية وكي نمتلك مرجعية معيارية للحكم على واقع المرأة من حيث حجم الحقوق التي انتزعتها أو تلك التي حرِمت منها، يجب أن نحدِّد
المُكونات الأساسية التي يُعتبر المساس بها مساسا بالحقوق، والتجاوب مع متطلباتها تجاوبا مع الحقوق، وسوف نعالج في هذه
المقالة قيمة أساسية واحدة وهامة من تلك التي لا يجوز المساس بها عند الحديث عن أيِّ حقوق، لأنه إذا تمَّ الاعتداء عليها أو
القفز على مركزيتها وأساسيتها يَفقدُ الحق الذي أنشأها مصداقيته وقيمته، ويغدو شركا حقوقيا وضع في طريق نضال المناضلين
لخداعهم وحرفهم عن الجادة. وهذه القيمة هي "عدم تسليع الإنسان لا كيانا ولا جنسا"..
والمقصود بالتسليع هو تحويل شيء ما إلى سلعة يتم تداولها مقابل أجر باعتبارها بصفتها المتداولة تحقق منفعة للغير. والإنسان
بهذا المعنى للسلعة، سواء كان كيانا بصفته إنسانا، أو جنسا بصفته ذكرا أو أنثى، لا يجوز أن يُسَلَّع بأن يصبح في سياقات معينة
مجرد سلعة لها قيمة سوقية، يحصل عليها من يدفع تلك القيمة. فالكائن الإنساني بصفته الإنسانية، وبصفته الجنسية "ذكر، أنثى"،
محفوظ الكرامة، ويجب أن يبقى هو صانع السلع وخالقها والمنتفع منها، ولا يجوز أن يتحول هو في ذاته إلى سلعة تحت أيِّ ظرف..
والثقافة الليبرالية التي أسست بالحريات الديمقراطية الليبراليبة لاقتصاد السوق ولليبرالية الاقتصادية، منحت الإنسان رجلا كان أو امرأة
مجموعة من الحريات التي لم يكن يتمتع بها من قبل، سواء في مواجهة الثقافة التي كانت سائدة، أو في مواجهة أحدهما للآخر، أي
الرجل للمرأة، أو المرأة للرجل، فيما حولت "الإنسانية" و"الذكورة" و"الأنوثة" إلى سلعٍ تُباع وتشتري، مع التركيز على الأنوثة تحديدا،
عندما أصبحت هي المادة الأساسية لفلسفة الدعاية والإعلان والترويج لكل المنتجات السلعية والخدمية التي يزخر بها السوق
الرأسمالي..
أي أن المرأة بصفتها الجنسية "الأنوثة" غدت في هكذا ثقافة هي مفتاح التسويق لكل السلع والخدمات التي تنتجها الماكينة
الرأسمالية. استشعرت المرأة حريتها في الاختيار في الكثير من جوانب حياتها، وتساوت في ذلك مع الرجل. لكن وراء هذه الحرية التي
لم تضِفْ شيئا مهما إلى المرأة بصفتها "أنثى" في مواجهة "ثقافة الذكورة"، لأنها حرية حصلت عليها بصفتها الإنسانية لجهة
احتياجات الليبرالية لإنسان يمتلك هذا القدر من الحريات ذكرا كان أو أنثى، غرقت في أتون متطلبات هذا النوع والقدر من الحريات،
ذات الوجهة السوقية، وعلى رأس كل ذلك فقدانها لكرامة "أنوثتها" التي يجب أن ترتقى إلى ما يسمو على التسليع، فتحولت إلى سلعة،
غدت تعتبر أن من مقومات حريتها وإنسانيتها وأنوثتها أن تقيَّم بما يناسبها..
فقد أصبحت للمواصفات الجمالية الأنثوية أثمان أعلى من غيرها، وأصبحت من ثم المرأة الجميلة، المثيرة القادرة على أن تسوق نفسها
بشكل أفضل حدمة لفلسفة الدعاية والإعلان، ذات ثمن أعلى..
وظهرت على هامش هذا النوع من التسليع الأكثر ابتذالا لقيمة "الأنوثة"، وبالتالي لقيمة المرأة كمجسِّد للأنوثة، مجموعة كبيرة من
المهن والحرف والوظائف التي تعمل على تسويق البضائع القابلة للاستهلاك البشري من خلال تسويق الأنوثة، بتسويق عناصر
الأنوثة والإثارة والجاذبية فيها. فهل هذا إنجاز حققته المرأة بتحررها في الثقافة الليبرالية؟!
لقد حررها الرجل ليس بصفتها امرأة، بل بصفتها إنسانا يجب – كي تنمو الليبرالية – أن يتحرر، وابتذلها كأنثى عندما استخدمها أسوا
استخدام جاعلا منها سلعة تسوِّق سلعة..
إن هذا الإسفاف لمعنى الأنوثة، دون أن نهمل الإسفاف المقابل الذي تعرض له معنى الذكورة في السياق نفسه، وإن كان بمستويات
أقل مما تعرضت له الأنوثة، أفقد كل تلك الحريات المحصَّل عليها قيمتَها الإنسانية، عندما أعاد إنتاج القِيَم الكبيرة "مرأة"، و"أنثى"،
و"رجل"، في قوالب سلعية تُقَيَّم بالمال..
وبالتالي فإن على أيِّ حديث عن حرية المرأة وحقوقها أن يقف مطولا عند حسابات المكاسب على صعيد الحريات والحقوق المادية
والمعنوية الفورية، وعند حسابات الخسائر على صعيد القيم الإنسانية في ذاتها، كي تكون محصلة الحسابات ربحا وليس خسارة،
بعيدا عن الانجرار وراء المظاهر الخارجية التي تخفي في الباطن سوسا ينخر في البناء المجتمعي مظهرة بريق مكسب آني ظاهري
يفقد قيمته بذلك السوس الذي يخرب البناء الداخلي للإنسان وللمجتمع..
إن كل ما ورد في اللهجة المتمردة لتلك المسلمة الثائرة لا كان احتجاجا على ربِّ أنزل قرآنا، ولا على نبي نقل هذا القرآن، بل هو
احتجاجٌ على ثقافة وظفتهما لخدمة نظام، وعلى نظام وظفهما لخدمة ثقافة يتبادل معها المنافع والمصالح، في خروج صارخ على القيم
الأساس التي يُفترض أن يكون جاء به نبي من عند الله..
فمعظم ما رفضته تلك المسلمة الثائرة، يرفضه كل العقلاء، وهو تجسيد للتوظيف الذي تحدثنا عنه، لكنَّ بعضا مما ذكرته قائم على
"تداعي الشعور الأنوي بالمهانة الانفعالية" كما يسميها علماء النفس. وهذا التداعي لا يقيم حكما ولا يؤسس لقانون ولا يؤطر قيمة،
لأن القوانين والتشريعات والقيم لا يمكنها بحال أن تؤسَّسَ على ذلك التداعي الذي يرجع في الأساس – كما يقول علماء النفس – إلى
رغبات أفرادٍ تشكلت في واقعٍ ملتبس تتداخلُ فيه قيم الخير مع قيم الشر بشكل يخلق كل أسباب التناقض التي تولد لاوعيويا هذا الشكل
من أشكال التداعي الدافع من ثم إلى التمرد الشامل على كل مكونات الثقافة..
إن ما يجب أن تعيَه تلك المسلمة الثائرة أن تجسيد القيم الأساس وهي "الحرية"، "العدالة"، "الشراكة"، "العائلة"، "التعايش"، "الأمان"..
إلخ.. لا تقوم على مبدأ ماذا "لا أريد"، لجهة الفردية، بل على مبدأ "ماذا نريد" لجهة "الجماعية"، كما أنه – أي تجسيد تلك القيم – لا
يقوم فقط على مبدأ "ماذا لا أريد" لجهة النفي، بل على مبدأ "ماذا أريد" لجهة الإثبات..
فكل عبد "لا يريد" العبودية، لكنه لم يقرر أنه "يريد الحرية" بل ولا هو يعرف كيف يريدها!!!
عندما أقرر أنني لا أريد تناول الطعام الفلاني بسبب ضرره، فلأنني أعرف وجه ضرره في سياقٍ كلِّي يتعامل مع الجسد واحتياجاته
ومتطلباته ككل، وليس بعزل كل عضو من أعضاء الجسد عن باقي أعضائه والتعامل معه منفردا وقائما بذاته وكأنه في مركبٍ وحده
ولا يؤثر على غيره ولا يتأثر به..
من السهل أن أعلن صباح مساء أنني لا أريد كذا ولا أريد هذا ولا أريد ذاك.. إلخ..
ولكن عليَّ قبل كل ذلك أن أوضح لماذا لا أريد. وإذا كان هذا الذي لا أريده يمثل ظاهرة ثقافية اتخذت بعدا تشريعيا وقانونيا وقيميا،
وانبنت عليه في المجتمع منظومات من المصالح المجتمعية، فعليَّ أن أحدِّدَ النتائج المترتبة على "لا أريد"، وأن أثبت أن تلك النتائج
أقل ضررا من الحالة التي لا أريدها..
وإذا كانت النتائج مربكة، فعليَّ أن أطرح الحلول البديلة، وأن أعيد صياغة الواقع على أساس هذه الحلول، وأن أثبت أنها حلول أجدى
من الحالة القائمة التي صرخت بأعلى صوتي "لا أريدها"، كي لا أكون مجرد داعيةَ هدمٍ يريد أن يهدم بيتا لم يعجبه شكله وموقعه،
دون أن يفكر بأن هناك من هو منتفع من هذا البيت بشكله هذا وبموقعه ذاك، وأن هدمَه بالتالي سيضره إذا لم نؤمِّن له بديلا يحل
لديه المشكلة ذاتها التي كان يحلها البيت الذي لم يعجبني فقررت هدمه..
خلاصة القول أن معظم التفاصيل التي صدحت بها تلك المسلمة الثائرة باستثناء قلة قليلة منها، هي منتجات ثقافة أسَّست لنظام ظلم
الرجل والمرأة معا، وإنه كي يُخَفِّف من وطأة إحساس الرجل بالظلم، ترك له مساحة مجتمعية يفرِّغ فيها إحساسه بالظلم والخضوع، كي
ينشغلَ عنه، وكانت هذه المساحة في جانبٍ منها هي حياة المرأة في جانب منها..
وبالتالي فتحرر المرأة من تلك المساحة لن يتم إلا بتحرر الرجل وهي معه طبعا من النظام ومن الثقافة اللذين أسسا لهذه المساحة
المقيتة في العلاقة بين الرجل والمرأة، وليس بتحرر المرأة مما تتصور أنه ظلم يمارسه ضدها الرجل بما هو رجل. فالرجل في ظلمه
للمرأة عبارة عن ضحية للنظام الذي أنتج ثقافة حرصت على تركه مشغولا بالمرأة كي ينفسَ ضدها كل مكبوتاته المختزنة ضد نظامٍ ظلمَ
الجميع عبر ثقافة مسخت الجميع..
ليست مشكلة المرأة في تلك الأحكام القانونية التي رفضتها وتمردت عليها كلها بلا استثناء تلك المسلمة الثائرة في ذاتها دائما. بل هي
في حريتها في التعامل معها..
فعندما لا يكون لبس الحجاب مفروضا بإرادة ذكورية يمارسها الرجل، بل هو محال إلى خيارات المرأة المنبثقة عن خالص وعيها
واقتناعها ورؤيتها الخاصة تجاه اللباس رفضا أو قبولا، فلن تكون هناك مشكلة في اللباس، لأنه سيقوم على قيمة "الحرية"
و"الشخصية"..
وعندما لا يكون التعدد في الزواج مفروضا على المرأة بأيِّ شكل سواء كانت زوجة أولى أو ثانية أو غير ذلك، وأنه لا يمس بحقوقها
أيا كانت بالمعيار القيمي الإنساني – هذا إذا افترضنا أن التعدد يعتبر حلا لمشكلة لا حل لها إلا به بطبيعة الحال – لا على صعيد
الأمومة ولا على صعيد المال أو الاستقرار.. إلخ، فلن تكون هناك مشكلة، وتغدو المسألة مسألة حرية كاملة لا تجعل الموضوع
بالنسبة للرجل مجرد مكافأة على نزوة مقابل حق في التحلل من التزام..
وعندما تكون كلُّ الأمور التي تظهر وكأنها طغيان ذكوري في الثقافة الحالية، مُحالة إلى خيارات حرة في ثقافة قادمة تحرر الرجل
والمرأة معا من ثقافة القمع والاستبداد، فلن تكون هناك أيُّ مشكلة..
الثقافة السائدة شغلت الرجل بالمرأة كي لا يلتفت إليه، وهي ذاتها – أي تلك الثقافة – وكنتيحة محتمة لهذا الإشغال، تكون قد شغلت
المرأة وهي تستشعر مهانتها بالرجل كي لا تلتفت إلى مصدر المعضلة، ألا وهو الثقافة التي يساندها نظام استبداد وقمع وظلم واعتداء
على العدالة والحرية وكلِّ القيم الإنسانية..
لم أر في حياتي موقفا يجسِّد هذه الفكرة أكثر من الثورة اليمنية التي جمعت المرأة المنقبة – مع اختلافي شخصيا مع فكرة النقاب
أصلا – بالرجل المتدين ضد نظام مستبد، ليتحررا معا في خندق واحد. لقد أثبتت هذه الثورة أن المرأة اليمنية بدأت تدرك طريق
تحررها، لتكون مكونات حياتها المجتمعية والدينية خيارات حرة وليست مفروضات..
فالمرأة التي خرجت بمئات اللآلاف لتسقط نظاما مستبدا جنبا إلى جنب مع الرجل، لن يستطيع هذا الرجل أن يسقط إرادتها وخيارتها
مهما حاول..
فرجل لم تكتمل ثورته في مواجهة الاستبداد إلا بامرأة فعلت مثلما فعل، هو رجل سيعي حتما أن تلك المرأة شريكة له وليست أمة
لديه..
هذه هي نقطة البداية..
على المرأة أن تدرك أن عليها كي تتحرر من ثقافة تستبد بها عبر رجل متخم بتلك الثقافة، أن تناضل إلى جانبة وشريكة كاملة له،
ليتحررا معا من نظام يرعى تلك الثقافة وترعاه..
عندئذ فلن تخشى على خياراتها، فمن ساعدته على التحرر من نظام وثقافة، لن يتمكن من منعها من التحرر من بقايا ذلك النظام
وتلك الثقافة فيه..


http://aljadidah.com/2012/09/%D9%83%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%AD-%D9%88%D9%85%D8%A4%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7/