تمثل السيرة الذاتية النص الغائب في مجموع الكتابات الابداعية، وهي من أصعب الأجناس الأدبية ،على خلاف ما يتصور.
هذه الصعوبة التي تتأتى من كيفية الاطاحة بالذات لما يعتورها من خفاء ولأنها نوع فريد من قراءة الذا وتتبع مسارؤات التجربة الفردية-عندما تنضج وتصبح واصفة وموصوفة،فتكون جسرا بين الذات والموضوع ومساحة للكشف تسبر مجاهيل الأنسان.
في السيرة تتجلى تجاذبات الروح والعقل ويطفو الاستنجاد بالماضي بئرا للذاكرة.
يعتبر هذا المنجز الأدبي التوثيقيّمحطة هامة في رف المكتبة العربية وتأريخ أمين لحقبة من الزمن ،يتجلى فيها وضوح التعبير والصدق وأمانة التسجيل ، ومع أن الغرب يولي إهتماما خاصا بهذا المنجز الأبداعي الذي تعود أصوله للقرن الثامن عشر وتميز بخاصة في الأدب الأنجليزي ،إلا أن بدأ يأخذ مكانه عربيا،إذ ما زال صدى ذكريات "ميخائيل نعيمة"في " سبعون" و"فدوى طوقان"" في رحلة جبلية" و"عباس العقاد" في " سارة"و"توفيق الحكيم" في" زهرة العمر" و" طه حسين" في"الأيام" وغيرهم كثير كإحسان عباس وأحمد أمين .....الخ القائمة،حيث ثراء الفكر وتوهج الذاكرة وذلك الفيض من الحنين الفاجع للطفولة،غير متغافلين عن حقيقة أن الذي نجسده بالكتابة يتعدد بتعدد المتلقين للنص وعدد الأماكن التي ترسم خطوطها في أعماق وجداننا.
في نص الشاعر المبدع "هشام عودة"بير الرصاص"،تتجلى اللغة الفصيحة الرصينة وتبرز بوضوح جدلية الوطن والقرية ويندغم في النص العام بالخص وتتجلى خصوصية المكان وحضور التاريخ القديم والمعاصر والتكامل الأجتماعي وحميمية ليالي رمضان والمسحراتي وذلك التصوير الدقيق البديع لمواسم الحصاد وقطاف الزيتون.
في "بير الرصاص"نجد الأم متألقة بدورلها وحضورها وحراكها (قدوة ومدرسة وحضن دافىء)،في" بير الرصاص"يتمظهر التوثيق لحيوات البسطاء والزمن الجميل ولا يخفى الرصد الواعي والدقيق لتحولات إجتاحت الأفكار والمشاعر والعلاقات والقيم.
وظّف الكاتب في نصه ضمير الغائب الذي يعطي مساحة أوسع للبوح كما في أيام "طه حسين"، متوقفا أمام العلاقات المدينية التي يسجل عليها التفكك(الناس لا يطرحون السلام على بعضهم).
شخصية الوالد في نص"بير الرصاص" كانت على نقيض صورة الأب التي جاءت متباينة بقناعين ، واحد داخل الأسرة وآخر خارجها مما يذكرنا بشخصية"كمال عبد الجواد" في ثلاثية "مجيب محفوظ".
ترصد سيرة "هشام عودة" في "بير الرصاص" أيضا إنعكاسات هزيمة حزيران على مفاصل كثيرة في حياة الناس كاشفة بشاعة الأحتلال في عام 1967 والصدمة التي تلقى الناس بها الحقيقة.
من جانب آخر يمكن النظر لهذه السيرة كأرشفة دقيقة للعادات والتقاليد التي ميزت قرية الستينيات.
تكشف سطور "بير الرصاص" كذلك بداية تشكل وعي الطفل على الهم العربي من خلال متابعات خطابات "عبد الناصر"بناء على ما كان يتناقله رجال العائلة من همس يتعلق بصوت العرب والبحث المحموم على بيت يمكنهم فيه الاستماع لخطاب عبد الناصر، براحة وطمانية دون خوفمن الحيطان التي لها آذان.