هل نستطيع أن نعترف أننا قد عشنا؟!!!
تصيب الدهشة الإنسان وهو يقرأ ما كتبه الأستاذ عمرو العامري،وسبب الدهشة أن الأفكار التي يطرحها تتناقض ما الفكر السائد أو (مخرجات التعليم الوهابي) - ومنع الكتب - وأفكار الكاتب - وأمثاله كثر - تشي بتلك الأفكار المختبئة تحت الرماد،والتي تنتظر لحظة (الانفجار). وهذا ما حصل مع سيل الروايات التي غزت السوق.
وهذه كُليمة من (جراب الحاوي) أو من كراس (حتى لا يذيب الصمت ألسنتنا).
اخترت هذا التساؤل الذي وضعته على رأس هذه الكلمة، عطفا على مقالة وقعت بين يديّ، للأستاذ عمرو العامري،وقد اطلعت في البداية على الحلقة الثانية، والتي جاءت تحت هذا العنوان : ( اعترافات الكتاب السعوديين ( 2 ) عمرو العامري : أعترف أني قد عشت). بما أن هذا الاعتراف هو عنوان لكتاب مشهور، فقد بحثت عن الجزء الأول من المقالة، كي لا أظلم الكاتب، وقد وجدت الحلقة الأولى في موقع الجريدة، وقد استهلها بالقول :
( هذا العنوان ليس لي .. إنه لشاعر تشيلي ( بابلو نيرودا) .. استعرته على أن أعيده له .. أو تعيدوه أنتم .. لكني جئت هنا فقط لأعترف أني قد عشت وما زلت أحاول الاستمرار في العيش. ولكن ليس ببهاء نيرودا .. ذلك مستحيل).
ثم يبين الكاتب، ما قد يكون سببا لتلك الاستحالة، فتوقع أن نسأله : ( هل عشت حياتي حقا؟ وأقولها لكم بكل أسف .. لا .. لا .. لقد حاولت .. تمردت .. ما رست كثيرا من العبث .. كثيرا من اجتراح الصح والخطأ .. ولكن بقيت محكوما بتقاليد العائلة .. الأصدقاء .. الظروف .. وبالطبع العقيدة .. وحتى العمل){ جريدة عكاظ العدد الصادر في 28 / 8 / 1427هـ = 20 / 9 / 2006م.}. صحيح أني لم أفهم كيف ( يقترف) الإنسان الصح(أو الصواب)!! ولكن على كل حال، ننقل مزيدا من فلسفة أخينا العامري، وهنا تأتي نقطة الخلاف الرأيسة بيننا وبينه،فهو يقول:
( بما أن الحياة ساعة رمل لمرة واحدة فإنه من الغباء أن نعيشها بتعقل .. هذه فلسفتي أنا .. ولا أبشر بها لأحد (..) مرة أخرى هذه الفلسفة ليست لي وحدي .. كل العظماء الذين( أرى أنهم عظماء) عاشوا كذلك .. ( نيرودا) (همنجواي) (بيكاسو) ( كونديرا) .. وحتى لا عب كرة القدم مارادونا ) { جريدة عكاظ العدد الصادر في 28 / 8 / 1427هـ = 20 / 9 / 2006م.}.. السؤال ببساطة لأي فلسفة ينتمي الإنسان؟ لفلسفة العظماء الذين يراهم العامري عظماء؟ أم أنه ينتمي لفلسفة أخرى (فلسفة هنا بين هلالين)؟ ولإيضاح الفكرة أكثر، ننقل شيئا من الجزء الثاني من مقالة الأستاذ العامري:
( صديقي الآخر ( البير كامو) يقول لي لست وحدك .. إنه يقول : أإ ن { هكذا }تسليات الإنسان العربي تسليات بليدة .. وأنه يستنزف عمره .. وقبل أن يبلغ الثلاثين عاما يكون قد أحب وتزوج وأنجب وقامر بكل أوراقه .. ولم يعد لديه ما ينتظره .. هل أخطأ صديقي الجميل كامو عندما قال إن تسلياتنا تسليات بليدة؟ صديقي كامو يعني أن الإنسان العربي لم ولن يجد تسليته يوما ما في المسرح أو المتحف أو في قضاء يوم في فضاء موقع آثار){ جريدة عكاظ العدد 14726 في 30 / 11 / 1427هـ = 21 / 12 / 2006م.}. لم أستطع أن أفهم، من أين جاء الأستاذ العامري، بأن حديث كامو، عن زواج العربي، وإنجابه، المبكيرين، كان يقصد منه، أن العربي، لم ولن!! يجد تسليته، في المسرح، والمتحف ..إلخ؟!! أما هذا النفي القاطع ( لم ولن)، فهو أعجب من سابقه!!!
القضية، ببساطة شديدة، أن لدينا ( فلسفة)، السيد العامري، وبقية ( العظماء)- الذين يراهم عظماء - كامو، نيرودا،همنجواي، بيكاسو، كونديرا،وصولا إلى أحد أساطير كرة القدم،والذي دمرته المخدرات (دييوغو آرماندو مارادونا) ونحن لدينا ( نص)، من ( أعظم خلق الله) صلى الله عليه وسلم :
(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام .. )، وكل منا، يتبع قناعاته، هل هناك إنصاف أكثر من هذا؟ ونحن نطمئن الأستاذ العامري- عن نفسي على الأقل - أنا لن ننصب له ( محكمة تفتيش)، وهو الذي قال :
( هل أورد لكم مقالة أخرى ( لكامو)؟ لا .. إن فعلت سأثير حولي الغبار. ونحن ربما الأكثر جرأة على توزيع التهم وتوزيع الألقاب ونحن من باستطاعة أصغر مبتدئ أن ينصب محكمة للتفتيش ومشرحة للنوايا)، مرة أخرى نطمئنه أننا لن ننصب له( مشرحة للنوايا)، فنحن نحاور فقط. كما نحب أن نلفت نظر الكاتب، إلا قوله في الجزء الأول من المقالة:
(هذه فلسفتي أنا .. ولا أبشر بها لأحد ). ثم يطلق هذا النداء في نفس الجزء :
( أحبوا .. أحبوا .. أحبوا .. أحبوا الحياة أولا التي هي هبة من الله .. لمرة واحدة{!!!!} .. أحبوا هذا الجسد .. واجعلوا له كل يوم حفلة فرح .. الجسد كما تقول ( ازابيل اللندي) هو الحمار الذي يحمل الروح .. الروح بدون الجسد تفنى و تتلاشى أحبوا من حولكم .. الحب يجعل الحياة جميلة .. وقابلة للاستمرار ببهجة غير مشروطة ). الكاتب هنا إما أنه يبشر بحب الحياة على طريقتنا نحن ( الدراويش)، وهذه ( ردة) عن الجنون، وإما أنه يبشر بفلسفته في الجنون، وهذا تناقض!! لا نظن أنه يفوت على فطنة من يقرأ مقال الأستاذ العامري، أن فلسفة الجنون، التي يدعو إليها الذين يراهم العامري (عظماء حقا)،إنما هي نتاج العصر الذي كانوا يعيشون فيه، حين كان الغرب يتمرد على الدين،وعلى (تزمت الكنسية)،أما الآن فإن دعوة الجنون تلك، تبدو بلا معنى!! كيف والغرب قد تحلل من قيود الأخلاق، بل وصل الأمر بــ(الحرية)، أو ( الجنون) إلى حد السماح بزواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة،ووصل كذلك إلى دعوة الأمم المتحدة، عبر المؤتمرات النسائية، المتوالية، إلى ( حق التصرف بالجسد)، هل بقي جنون يمكن أن يروج له أحد؟!!فهل يقصد الكاتب (جنون الذهاب إلى المتاحف) مثلا؟! ثم ما الهدف من الخلط بين فلسفة الجنون، وبين الحديث عن دخول المسرح، أو زيارة الأماكن الأثرية؟!!
ثم هل هي مجرد مصادفة، أن يختار الكاتب، لمقالته عنوان مذكرات بابلو نيرودا؟!! وهي المذكرات التي تطفح بالجنس من أولها إلى آخرها- قطعا سوف نعتذر مرتين لنقلنا بعض عبارات نيرودا - بدأ من صباه، وهو يتعرض لمحاولة تحرش يقول نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي مقابل دارنا كانت فتاتان تقيمان هناك، على الدوام، وباستمرار كانتا ترميانني بنظرات تبعث في نفسي الحياء والخجل. (..) لمحت بين أيديهما شيئا خلبني فخبلني، فدنوت منهما بحيطة أو احتياط فأرتاني عش عصفور بري، منسوجا من الطحلب (..) حين هممت لآخذه، قالت لي واحدة منهما، إنه بادئ ذي بدأ لابد من أن يجساني ويتحسّساني تحت سروالي){ ص 21 ( أعترف بأنني قد عشت)، بابلو نيرودا، دون ناشر / الطبعة الثانية/ 1978م/ ترجمة : محمود صبح.}. مرورا باغتصابه من قبل امرأة، وهو طالب،ووصفه الدقيق لماحصل، على الصفحتين ( 41 – 42)، وصولا إلى تلك الأرملة الشقراء، التي يرى أنها قضت على زوجها، بان أعانت عليه السل،وفر هو خوفا : ( وقلبها المتقد الحار يقودني شيئا فشيئا إلى هلاك عاجل : وما كانت الغلمة لتتوافق مع الفاقة وعدم التغذية.){ ص 49 }. ويقول، عن فترة عيشه في سنغافورة، ضمن اعترافه أنه قد عاش : (كانت تمر بسريري ذي الطراز العسكري صديقات من مختلف الألوان دون أن يدعن فيه ذكرى البرق الجسدي، لقد كان جسدي مجمرة متوقدة متوحدة ليل نهار في ذلك الشاطئ المداري (..) كانت تجيئني صديقتي ( باستي) على الدوام، بمجموعة من صديقاتها (..) كن جميعا يضطجعن معي بشكل رياضي وغير مصلحي.
لقد باحت لي إحداهن بزيارة قامت بها إلى ( شومير ييس)، وهو اسم لمنازل يعيش فيها مجموعة من الشبان الإنجليز (..) حكت لي هذه الفتاة بشكل طبيعي ودون شعور بالإبتذال أو بالبذاءة أنه في إحدى المناسبات ضاجعها أربعة عشر رجلا منهم.
- وكيف فعلت ذلك؟سألتها
- كنت المرأة الوحيدة بينهم تلك الليلة، وكانوا يحتفلون بشيء ما ){ ص 144 – 145}. لا نريد أن نطيل في نقل مزيدا من (جنون)، نيرودا، ولكننا نشير فقط إلى موقفين، الأول ما حصل له مع إحدى الهنديات ( المنبوذات)، والتي وصفها بأنها، كانت مثل الصنم، ثم قال : ( كانت جمادا بلا حراك. لقد أحسنت صنعا باحتقاري وازدرائي، والتجربة ما تكررت من بعد){ ص 147 }.
يا الله كيف تحول هذا العظيم، في نظر العامري، إلى إنسان محتقر، ومن قبل من؟ إحدى المنبوذات! ونختم هذا الجنون، الذي لم يستطع العامري، أن يعيش بهاءه ( ذلك مستحيل)،بهذه القصة: ( كانت تنتظرنا في سيارة ( التاكسي) فتاة الحانة، الفتاة الوحيدة التي ما هجرتنا في وقت الضيق والتعاسة، دعوناها، أنا و ( البارو) إلى مطعم ( ليس فاليس) لنتذوق حساء البصل عند الفجر، اشترينا لها ورودا{ لا أدري كيف فات على المترجم أن "الورد" جمع،أما الورود فهو شيء آخر} من السوق وقبلناها قبلات شكر وامتنان على سلوكها السامري فشعرنا أن لها جاذبية ما، لم تكن بالجميلة ولا بالقبيحة (..) دخلت مع ( البارو) إلى غرفته، وأنا هويت في فراشي مستسلما للنوم، لكني ما إن غفوت قليلا حتى أحسست أن أحدا يهزني، يخضني كان( البارو) وجهه بدا لي غريبا كوجه مجنون وديع - هناك شيء يجري – قال لي – إن لهذه المرأة لشيئا متميزا غريبا غير مألوف. شيئا ما أنا قادر على أن أشرحه لك، عليك أن تجربه بنفسك الآن{ 104 – 105 }. .. أهذا هو الجنون المقصود؟!! كنا نتمنى – أيضا - أن يبين لنا الكاتب، إن كان هذا ( الجنون) حكرا على الرجال، أم أن لدى الكاتب ( تحيزا ضد المرأة)؟!!
إذا كنا نقلنا ( بعض) ما جاء في مذكرات، نيرودا، لأننا على يقين أن الكثيرين، لم يطلعوا عليها – ربما لحسن حظهم - وبالتالي قد تكون صورة الجنون غير واضحة، إذا كنا فعلنا ذلك، توضيحا لمن لم يقرأ الكتاب، فنحن أيضا نلفت نظر من لم يقرأ مقالتي الأستاذ العامري، إلى ما حشده فيها من أسماء الكتاب الغربيين، ولا نظن دلالة ذلك تخفى على أحد، فإضافة إلى نيرودا، الذي يصفه( بصديقي)، وهو وصف كرره أكثر من مرة، ( صديقي الآخر كامو/ صديقي الجميل كامو/ صديقي كامو)، هناك أيضا : ماركيز، أدنريه جيد، كولون ولسون، إزبيل اللندي، تنيسي وليامز، استور ياس، هاملت )!!!.
إذا تجاوزنا انبهار العامري بالكتاب الغربيين، الأصدقاء الجميلين، العظماء، وذلك شيء يخصه، وليس من حقنا أن نتدخل فيه. إذا تجاوزنا ذلك، فإننا نتعجب من إلحاح الأستاذ العامري، على ذلك الملمح الواضح جدا في فلسفة (العامري ورفاقه، من العظماء)، وأعني بذلك .. أو خذوا كلامه بالنص،من الحلقة الأولى، كي لا أتقول عليه :
( والحياة أشبه بساعات من الرمل .. تسقط ذرة ذرة .. المختلف أن ساعة الرمل نقلبها لتعود من جديد .. أما الحياة فلا تستأنف ... إنها أشبه بساعة رمل ولكن لمرة واحدة{ ثم نقل شيئا من رواية ( غانياتي الحزينات)، لماركيز.} وبما أن الحياة كذلك ... بما أن الحياة ساعة رمل لمرة واحدة فإنه من الغباء أن نعيشها بتعقل). و يقول في الحلقة الثانية :
( أحبوا الحياة أولا التي هي هبة من الله .. ولمرة واحدة ). ثم يختم نفس الحلقة بهذه الأحرف :
( عيشوا الحياة .. حياتكم .. ليست هناك فرصة للمحاولة مرة أخرى .. وكل شيء يمضي نحو اتجاه وحيد).
أولا من باب إحسان الظن بأخينا، فنحن لا نقول أنه ينفي وجود حياة أخرى،ولكننا نتعجب، وحق لنا، أن نتعجب من هذا الإلحاح على فكرة قد تكون واضحة في أذهان المثقفين غير المسلمين، والذين لا يؤمن بعضهم بوجود خالق لهذا الكون أصلا، فضلا عن الإيمان باليوم الآخر، والحساب والعقاب .. أوووف ... هل أزعجنا جنونك يا سيدي؟ .. سامحنا! فقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، أنه يُؤتى بأنعم أهل الدنيا حالا فيغمس في النار غمسة واحدة، ثم يُسأل، هل رأيت نعيما قط فيقول لا ، ويُؤتى بأشد أهل الدنيا بؤسا، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، ويُسأل هل رأيت بؤسا قط، فيقول لا ..).أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
لا يظنن أحد أن هذه دعوة، والعياذ بالله، لكراهية الحياة، أو أنها دعوة ( للزهد)، وخصوصا بعد أن كشفت لنا جريدة (الندوة) أن ( الانطواء والزهد في الدنيا أعراض الإصابة بالفكر الضال){ جريدة الندوة العدد 14769 في 6 / 5 / 1428هـ = 23 / 5 / 2007م.}!!! نحن نحب الحياة، ولكن على طريقتنا، فسيدنا، وسيد الزاهدين صلى الله عليه وسلم، يقول :
( حبب إليّّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وهنا يخطر لي أن أتساءل، هل يعي مثقفونا، الذين (يعيشون). هل يدركون تلك الفروق الجوهرية، بين الإسلام، والمسيحية، في النظرة إلى ملاذ الحياة؟! فشتان بين دين يؤجر أتباعه عند ( لقاء الزوجات). ودين القيمة العليا فيه، للرهبانية، والمثال الأعلى للمرأة، عندهم (العذراء مريم) عليها السلام – وهي مثل أعلى قطعا،ولكن ما حصل لها "معجزة" - أليس الكبت الموجود في المسيحية، هو الذي ولّد، لدى الغربيين هذا الهوس بملاذ الحياة، وخصوصا ما يتعلق بمتطلبات الجسد؟.
حتى ( الآثار)، التي يشفق الأستاذ العامري، علينا لعدم اهتمامنا بها،فنحن نهتم بها، ولكن أيضا بطريقتنا الخاصة، أليس القرآن يطالبنا بالسير في الأرض،والتفكر،والنظر،والتدبر فيما حصل للأمم السابقة؟

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
mahmood-1380@hotmail.com