تونس: حذاري من إجهاض ثورتكم..؟!
مصطفى إنشاصي
أعترف أني لم أتابع تفاصيل ثورة أهلنا في تونس؛ لأني خشيت من الصدمة بأن تكون هبة أو انتفاضة وثورة غضب سرعان ما تُجهض كما حدث في انتفاضة الخبز عام 1987، التي جاءت بالطاغية المجرم زين العابدين بن علي، حيث استغل أعداء الأمة وأعداء أهلنا في تونس من مخابرات أمريكية وفرنسية وغيرها وأتوا بعميلهم الذي لم يكن لتخطئ العين ملاحظة ارتباطه بأعداء الأمة، وقد استغلوا الحدث لا من أجل التغيير وإصلاح أوضاع أهلنا في تونس، ولكن من أجل الالتفاف على انتفاضتهم وامتصاص حالة الغضب والغليان الجماهيري من سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية والسياسية ...إلخ التي كانت تعيشها تونس في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة التي عبرت عنها تلك الانتفاضة، وأتوا بعميل لهم قبل أن تفلت زمام الأمور من أيديهم ويفقدوا القدرة على التحكم في الحدث لصالحهم.
علماً أنه ما كان لتلك الانتفاضة الجماهيرية أن تُجهض لو أنه كان هناك معارضة تونسية حقيقية قوية ومنظمة ومؤطرة وموحدة، أو على الأقل متوافقة على الحد الأدنى من الأهداف الجماهيرية لا الحزبية والشخصية، ومتواصلة مع الشارع التونسي وتستطيع أن تحسن قيادته وتوجيه حركة الجماهير في الاتجاه الصحيح، وتستثمر انتفاضتها وتضحياتها لتحقيق أهدافها. وذلك ما يبدو أنه حادث الآن وهو ما اضطرني إلى الكتابة اليوم، لأني من خلال قراءتي لعناوين المقالات التي كتبت عن ثورة أهلنا في تونس، وهروب ذلك الطاغية الذي لم تعرف تونس له مثيل واللجوء إلى العربية السعودية، شعرت أنها وإن كانت في الحقيقة تثري الحدث وتلقي مزيد من الضوء على حقيقة الواقع العربي المأزوم، واقع الأنظمة والجماهير على حد سواء، وقد تُبصر بعضها الجماهير العربية المقهورة في أكثر من قطر عربي إلى سبيل الخلاص والفكاك من قبضة الطغاة الذين لا يعتبروا مما حدث لأمثالهم في الماضي أو في الحاضر، إلا أني شعرت أن معظمها مقالات يغلب عليها الطابع العاطفي والانفعالي والإنشائي من البعض، ومن البعض الآخر الذي يحمل فكر ما أو ينتمي إلى تجاه ما أو داعياً إلى التحرر السياسي على الطريقة الغربية، وانحسار تفكيره في خدعة الديمقراطية ولعبة الانتخابات التي لا تأتي إلا بنفس الوجوه القديمة، وفي أحسن الأحوال وجوه جديدة تحمل نفس عقلية ونفسية الطغاة السابقين، الذين ما أن يتمكن الواحد منهم حتى ينقلب على كل وعوده الانتخابية، ويجد في البرلمانيين الجدد الذين غالباً لا يختلفوا عن سابقيهم من زمرة الطاغية المخلوع أو الهارب أو الهالك استغلوا معاناة وتضحيات الجماهير وانخداعها بشعاراتهم الزائفة لتحقيق أهدافهم الشخصية أو الحزبية فقط.
حتى لا أطيل فأنا من يومين أحاول أن أكمل هذه المقالة والوقت لا يسعفني؛ أقول:
بتقديري أن أحزاب المعارضة التونسية مثلها مثل معظم أو قل كل أحزاب المعارضة العربية أضعف من أن تكون على مستوى وعي وحركة الجماهير أو القدرة على استثمار الحدث لصالح الجماهير، وغير مؤهلة لتسلم زمام السلطة، ويبدو أنها ستضيع الفرصة ثانية كما أضاعتها عام 1987، وكل المؤشرات والأخبار القادمة من تونس تؤكد أنه إذا لم تتنبه الجماهير التونسية إلى ذلك فإنها ستضيع من بين يديها فرصة العمر في تغيير الوضع القائم!.
وأول تلك المؤشرات: أنه إلى الآن لم يتم الاعتراض على تعيين الوزير الأول محمد الغنوشي الذي تسلم مهام الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، ومنصب الوزير الأول يقابل تقريباً منصب نائب الرئيس في الأقطار العربية الأخرى، أي أنه ركن أساس في النظام، ويتحمل مثلثه مثل الهارب بن علي المسئولية عن كل جرائم النظام، ذلك يعني أنه هناك محاولة للالتفاف على ثورة الجماهير وامتصاص نقمتها بعد أن تم تنفيس شحنتها وتبريد مشاعرها الملتهبة، وانحسار مد الشارع الهادر.
ثاني تلك المؤشرات: أن محمد الغنوشي القائم بأعمال الرئيس الهارب بن علي ضمن كلمته التي أعلن فيها تسلمه لتلك المهام: أن تسلمه لمهام رئيس الجمهورية مؤقت لأن الرئيس زين العابدين بن علي غير قادر على ممارسة مهامه بسبب عدم قدرته العودة للبلاد في الوقت الحاضر! وذلك فيه إشارة إلى أن ولائه لسيده وولي نعمته الهارب بن علي وليس لوطنه وأهله ومَنْ خلفه من أعداء الأمة الذين نصبوا بن علي وتكتموا إعلاميا على طل جرائمه طوال ثلاثة وعشرون عاماً، وأمثال أولئك العبيد لا يؤتمن جانبهم.
وثالثها: الإعلان أن رئيس البرلمان التونسي قد تسلم مهام رئيس الجمهورية الهارب بحكم مواد الدستور، وأنه كلف الوزير الأول بمهام تشكيل حكومة وحدة وطنية! هذه مهزلة أن يبقَ أركان النظام السابق شركاء الهارب بن علي في كل الجرائم هم حكام البلد والذين يسيرون شئونها، وعلى رأس الدولة!.
والمؤشر الرابع: نزول الجيش إلى الشارع التونسي بزعم حفظ الأمن وتراجع دور الشرطة وأجهزة الأمن القمعية التي رباها الهارب بن علي على القتل والقمع بلا رحمة، والجيش وبالتحديد قادته أصحاب القرار أيضاً هم شركاء بصمتهم على جرائمه، وجزء من المؤسسة الحاكمة ولعبوا دوراً في الحفاظ على استمرار حكم وجرائم بن علي بصمتهم على الأقل وعدم تحركهم للإطاحة به وتغيير الأوضاع السيئة التي يعاني منها أهلهم في تونس، وذلك ما يثير الشبهة حول دور الجيش في المستقبل في حال حاولت الجماهير إذا ما استمر عجز المعارضة عن أخذ دورها في هذه المرحلة في التخلص من رموز نظام بن علي.
وهذه ليست دعوى للقتل أو التصفية أو الاستئصال لرموز نظام بن علي، لا، وأقصد بذلك أن يلتزموا منازلهم ويعتزلوا العمل السياسي في هذه المرحلة، وتخرج قوى وطنية شعبية وليس حزبية لتسيير شئون البلاد يتعاون معها الجيش والشرطة وأجهزة الأمن في فرض القانون والنظام إلى أن يتم إجراء انتخابات نزيهة وانتخاب برلمان جديد ورئيس جمهورية جديد، ويا حبذا، وهذه أمنية لو يعتزل تلك الانتخابات القيادات التقليدية في البلد سواء من أحزاب المعارضة المرخص لها أو المحظورة، وعلى حد سواء العلماني والإسلامي لأنهم هم سبب نكبة أهلنا في تونس، الذين سرعان ما يهربوا للخارج ويعيشوا في العواصم الأوروبية ويكتفوا بالكلام فقط، وأن يكون الحق لمن صمد وصبر وتحمل كل أنواع الأذى والعذاب وتعرض للموت والسجن والجوع والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولم يهرب أو يغادر!.
المؤشر الخامس: أنه إلى لحظة كتابة هذه السطور الأخبار التي تأتي من تونس عن مشاورات الوزير الأول لتشكيل الحكومة بناء على تكليف رئيس البرلمان له بذلك لم يتشاور إلا مع شخصيات المعارضة التي كان مرخص لها، والتي تعتبر بشكل أو بأخر وجه آخر للنظام، وتتحمل جزء من المسئولية عن ما جرى لأهلنا في تونس، ولم يجري أي لقاءات مع المعارضة التي لم يكن مرخص لها بالممارسة السياسية في عهد الهارب بن علي. وذلك دليل على أن كلتا المعارضة المرخص لها والمحظورة ليست على مستوى الحدث ولا المرحلة، والخوف كل الخوف أن تتراجع حماسة الشارع بعد فترة أو إلى أن يكتشف تلك الحقائق ويصبح من الصعب تحريكه ثانية، وتبقَ نفس الزمرة التي ارتكبت الجرائم ضد الجماهير في عهد بن علي هي التي تحكم بعد أن تصطبغ بالصبغة الشرعية من خلال انتخابات شكلية المعارضة فيها عاجزة عن تغيير شيء، ويكون كل التغيير الذي حدث فقط هلاك بعض الرموز السابقة، وهروب البعض، وإطلاق بعضاً من الحريات لفترة زمنية قد تطول أو تقصر ويعود الحال إلى ما كان عليه سابقاً.
لذلك يحب ألا يتوقف هدير الشارع وطوفانه قبل أن يتم القضاء على كل مخلفات نظام الهارب بن علي، وأكرر هذه ليست دعوى للقتل أو الانتقام أو الاستئصال ولكن التزامهم بيوتهم، وبعد استقرار الوضع محاكمة مَنْ يشتبه في تورطه في تلك الجرائم بأنواعها، والحكم العادل على مَنْ يتم إدانته.
ونقطة أخيرة مهمة جداً قبل أن أنهي مقالتي هذه لأني قد لا أكتب ثانية عن الوضع في تونس لأني لست من بياعي الكلام، وهذه النقطة عادة ما تفوت كل حركات التغيير الشعبية بعد سقوط نظام وحلول نظام، وهي: أنه يجب ملاحقة بن علي وكل مجرم أثرى على حساب جوع ومعاناة الجماهير، سواء قانونياً أو بأي آلية أخرى لاسترداد أموال الشعب، وليكون عبرة لمن سيخلفونهم من تكرار نهج مَنْ سبقهم.
التاريخ 16/1/2011