الرواية العبقرية
هاري بوتر ولحظة الخلود
في حدود المتعة وآمادها الرحيبة قد لا تستوقفنا صورة رائعة لمصور بارع، أو رسمة جميلة لفنان عبقري، أو مشهد سينمائي غاية في الإبداع والإتقان أمام كلمة ظن الكثيرون أنها انتهت في ظل سيطرة تكاد تكون كاملة لأدوات مجتمع المعلومات.
كل هذا قد لا يستوقفنا أمام رواية شكل ظهورها ما يشبه حالة هستيريا أو حمى اجتاحت العالم الغربي ثم لتعم العالم كله، وبذلك اجتازت الكثير مما قد يُظن أنها صعوبات وعوائق تمنع من انتشارها، وعلى رأسها سيطرة الكمبيوتر على حياتنا، ثم استلاب شبكة الانترنت للعقل الإنساني. كل ذلك الإبهار والإمتاع لم يقف عائقا أمام طموح الروائية البريطانية ج.ك.رولينغ "J. K. Rowling " في سلسلتها الشهيرة هاري بوتر "Harry Potter " التي حطمت كلّ الأرقام الخيالية في ابتياع عمل أدبي أو فني، فما الذي جعل رواية كهذه تتخطى في مبيعاتها حدود العقل والمنطق؟ ما الذي فيها لتكون لها دون غيرها هذه المكانة في تاريخ الرواية والأدب والفن السابع؟
على أن النجاح المذهل الذي رافق الرواية المكتوبة رافقه أيضا نجاح خارق على الصعيد السينمائي، وهذا ما شكل سابقة في تاريخ كل من الرواية والسينما، في أن يقف أو يتربع الإبداع الكتابي والسينمائي لعمل ما، جنبا إلى جنب في درجة واحدة من الشهرة الأدبية والإيرادات المادية..


كيلت لظاهرة هاري بوتر الكثير من الاتهامات والانتقادات إن على الصعيد السياسي أو الأخلاقي أو الاجتماعي، من حيث تجسيدها جشع الرأسمالية الغربية، وعقدة التفوق العنصري لعرق على آخر، والصراع الطبقي لجهة انتساب هاري بوتر إلى الطبقة النبيلة. وثمة جوانب لم تسلم هي الأخرى من الانتقادات كالدينية والثقافية وحتى الاقتصادية التي يُكوِّنُ الاحتكارُ أحد أوجهها البشعة.. وإلى غير ذلك مما اتهمت به هذه الرواية الخطيرة.
وفي الوقت ذاته الذي انتقدت فيه كان هناك أيضا ـ وربما هو الغالب ـ من أطرى على هذا العمل العظيم، ورأى فيه ما لم يره الآخرون، من حياة جديدة للأدب عامة، ولأدب الأطفال خاصة، وعودة محمودة ومثيرة للكتاب الورقي وانتصار له في ظل طغيان كل ما هو الكتروني، إذ سجلت الرواية عودة تلك العلاقة الحميمية بين الإنسان والقلم والورق والحبر.
ما بين عامي 1998م و2007م أنجزت رولنغ رائعتها "هاري بوتر" والتي اشتملت على سبعة أجزاء بدأتها بهاري بوتر وحجر الفلاسفة، وأنهتها بهاري بوتر ومقدسات الموت، مرورا بحجرة الأسرار وسجين أزكابان وكأس النار وجماعة العنقاء والأمير الهجين.
لا أريد أن أستعرض معظم الأرقام التي دارت في فلك هاري بوتر، فذلك ربما يحتاج حقيقة إلى مجلدات وحتى إلى شركة ترصد تأثير هاري بوتر على الصعد كافة، وإنما سأرصد بعض تلك الأرقام التي تعطينا دلالات واضحة عن مدى النجاح المهول وغير المسبوق الذي حققته هذه الرواية الخيالية في تاريخ الأدب، فقد تخطت مبيعات الرواية أكثر من 500 مليون نسخة في العالم أجمع، كما ترجمت الرواية إلى ما يقرب من سبعين لغة في العالم، ودخلت أكثر من مئتي بلد من بلدان العالم، ويكفي ذكر مبيعات منتجات هاري بوتر فقط، من دون الاقتراب طبعا من أرباح الكتب أو الأفلام، للتدليل على النجاح الخطير الذي حققته هذه الرواية، فقد بلغت مبيعات المنتجات حتى عام 2002 ما يزيد على مليار دولار.
ولا شك أن هذه الشهرة التي حققتها الرواية يعد علامة فارقة في تاريخ الكتابة الأدبية، وربما تكون واحدة لا ثاني لها من حيث المبيعات على مر التاريخ، إذ لم يصدف أن اشتهر كتاب كما اشتهرت رواية هاري بوتر، وأيضا هناك سابقة للإيراد المادي الذي يتحصل عليه كاتب ما من وراء عمل أدبي أنجزه، وهذا بالنسبة لرولينغ كان مذهلا وخياليا، وكذلك لغيرها من الكتاب والمبدعين، إذ تتعدى أرباح الروائية البريطانية سنويا أكثر من ستين مليون جنيه استرليني، وما كسبته رولينغ من خلال هاري بوتر ربما يتجاوز ما كسبه عشرات الآلاف من الروائيين والكتاب في شتى أصقاع العالم، وهذا ليس خياليا إذا علمنا أن أشهر كاتب عربي لا يطبع أكثر من ألف نسخة من عمله في هذا الزمن، حتى المؤسسات الرسمية العربية لا تطبع أكثر من خمسة آلاف نسخة تزيد أو تنقص، وأتمنى حقيقة أن ينجز أحدهم تعداد الكتب التي طبعها العرب منذ عصر النهضة منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، ترى أيصل ما طبعه العرب من الكتب خلال قرن ونصف القرن إلى الرقم المعلن الذي وصلت إليه الكاتبة البريطانية ج.ك.رولينغ في روايتها هاري بوتر خلال عقد واحد من الزمن؟؟! وأشك في أن نصل نحن العرب مجتمعين إلى ما وصلت إليه رولينغ، ولهذا الكلام بقية لمن يعي، وأخيرا لا ننسى الحيز الكبير الذي أخذته الرواية في تاريخ الأدب والسينما وغيرها من الفنون الأخرى..
ونعود إلى سؤالنا الذي طرحناه، ما الذي جعل رواية خيالية للأطفال تتخطى بمبيعاتها حدود العقل والمنطق؟
ثم ما هي شروط النجاح والمتعة التي حققتها لتصل إلى ما وصلت إليه من شهرة؟
وهل حققت شروط الأدب العظيم لتخلد في ذاكرة التاريخ؟ ولتجعل الأوروبيين من ثم يقفون بالطوابير مسيرة ثلاثة كيلو مترات للحصول على نسخة من هاري بوتر.
بالتأكيد إن كثيرا مما ذكرنا له علاقة بشكل أو بآخر بمدى النجاح الخارق الذي حققته رواية هاري بوتر، ولا شك أن سيطرة العقلانية والعقل العلمي في الغرب واحدة من تلك العوامل المثيرة في شهرة الرواية. إن استغراق الإنسان الغربي بالآلة والأتمتة، وانغماسه بالمعلومة الإلكترونية، وبهذا المجتمع الافتراضي قد أفقده الكثير من إنسانيته، فضلا عما يتصف به أصلا من مادية مفرطة لا تجعله يرى الجانب الروحي من الإنسان، ولعل هذا ما جعله يلتفت إلى هذه الرواية وقراءتها بنهم غير معقول ومسبوق. وهذا بالطبع ليس حكرا على رواية هاري بوتر، فالقراءة عندهم سجية وطبع.
وهي إلى ذلك تتحدث عن قضايا كبيرة وأسئلة وجودية عميقة" الموت والحياة، الحب والخيانة، السعادة والشقاء " إلى غير ذلك من أسئلة كبرى.
ولا شك في أن الرواية الخيالية لها متعتها الخاصة التي لا توجد في الروايات التي تعتمد الواقعية، كما أن الاعتماد على السحر له جاذبيته، ويحمل جانبا كبيرا من المغامرة، وفي هذه السن يجد الكثير من الشبان الصغار ميلا واضحا إليه، وربما هذا ما يتكلمون فيه إلى أهليهم حين يحدثونهم عن مغامراتهم في المدرسة والشارع والرحلات.
كما أن استخدام رولينغ عنصر التشويق وبلغة ماتعة جذابة قاربت أفكار هذا الجيل من الشبان الذي يعتمد على الكمبيوتر في حياته اعتمادا كبيرا، هو ما جعل هؤلاء ينجذبون إلى هاري بوتر ويبحثون فيه عن ذواتهم. فضلا عن الإشباع للكثير من الرغبات والحاجات التي يطمح إليها هذا الجيل الذي يقضي الكثير من وقته أمام الكمبيوتر، فجاء هاري بوتر ليخرجهم عما هم فيه من كسل، وعدم اهتمام بالحياة نفسها، ليحملهم بأساطيره وغرائبه إليه، حيث العجائب المذهلة التي لا تنتهي، والبطولات الخارقة التي لا تنضب.
ورولينغ نفسها تقول في أحد حواراتها إن الهدف الرئيس لرواية هاري بوتر هو المتعة، ومن أجل أن يستمتع الأطفال بحياتهم عبر الخيال. ولا شك في أن هذه البطولات الخارقة والخرافية هي من أهم عوامل الجذب للأطفال والشبان.
وأيضا هناك المغامرة التي يبحث عنها الكثير من الناس لا الشباب فقط ، فقد أشبعت هاري بوتر الشباب الأوروبي الطامح إلى المغامرة، كما أشبعت غيره من الشباب في طول العالم وعرضه، وأعطتهم جرعة هائلة من الطموح، حتى أصبحت ظاهرة تكتب عنها الكتب، وتدرَّس في أقسام الجامعات العالمية من الاقتصاد إلى الأدب، فقد ولجت هاري بوتر كل ذلك بسلاسة وقوة.
ثم هناك جانب أساسي يرتبط أصلا بمنظومة صناعة الكتاب تأليفا وطباعة ودعاية وتوزيعا إلى أن يصل إلى القارئ، وهذه المنظومة لم تفقد بريقها، والمدهش أنه في الوقت الذي اعتقد فيه الناس أن الكتاب بدأ بالانحسار لحساب الكمبيوتر والكتاب الكتروني والانترنت، جاءتنا تلك الحقائق المدهشة لمبيعات هاري بوتر وغيرها من الكتب، والغريب أيضا أن المطابع الغربية ما زالت تخرج مئات الملايين من الكتب سنويا، وهذا إن دل فإنما يدل على أن هذه المجتمعات ما زالت تقرأ بنهم، وهذا أحد الأسباب التي جعلت الفتية والكبار على السواء يقفون بالطوابير لأجل الحصول على نسخة هاري بوتر حين صدورها.
ويكفي أن نذكر أنه خلال أربع وعشرين ساعة فقط بيع من نسخة هاري بوتر بجزئها السابع ما يقرب من 13 مليون نسخة في أمريكا وبريطانيا وألمانيا تحديدا، أي بمعدل 140 نسخة في الثانية كما حسب أحدهم، وفي الشهور الخمسة الأولى تجاوزت إيرادات بيعها 2,5 مليار دولار، أما مجمل ما باعته هذه الرواية خلال عقد من الزمان، فقد تجاوز العشرين مليار دولار، ويتندر كاتب عربي: ((إن معظم الكتب التي تصدر في العالم العربي لا تحقق في عامين كاملين منذ صدور الكتاب من المبيعات دقيقة واحدة من تلك الدقائق التي كانت في اليوم الأول من صدور كتاب هاري بوتر الأخير! "هاري بوتر ومقدسات"))، ولكن تندره فيه كل الحقيقة إن لم نزد عليها الكثير من الأحزان لواقعنا الأليم.
فأي كتاب عربي سيبيع في سنته الأولى ثمانين مليون نسخة؟!
إننا نفتقد لأقل المقومات التي تجعلنا متابعين لما تصدره المطابع كل عام، وثمة ألف سبب وسبب يمنعنا من ذلك. ثمة الجوع والجهل وعدم الاهتمام، إلى آخر سلسلة العوائق التي تبعدنا عن الكتاب وشجونه.
وببساطة شديدة نحن أمة لا تقرأ، لا من قريب ولا من بعيد، وآخر ما يعنينا هو الكتاب..
في البلدان الغربية يبحثون ويدرسون نجاح هذه الظاهرة أو غيرها، لأجل ترسيخها أولا وبغية الكسب المادي ثانيا، وغير ذلك من أمور، أما نحن سواء باعت رولينغ وناشرو روايتها ملايين النسخ أو المليارات فإن هذا لا يهمنا، ولا يولد الرغبة والفضول لدينا لمعرفة ما يجري حولنا وفي العالم، وهذا بحد ذاته يختصر المأساة؟!!..



عبد الغفور الخطيب
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1239&a=110430