التكنولوجيا الرقمية والإعلام الجديد.. د. أحمد أبو زيد









نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





يشغل الإعلام مساحة واسعة في حياة الإنسان المعاصر الذى يعتمد عليه في الحصول على المعلومات وتوفير الراحة الذهنية، والمتعة الفنية في بعض الأحيان.



تقدم أجهزة الإعلام أفكارًا متنوعة ورؤى جديدة للأشياء والأحداث، تهيئ للإنسان المعاصر إمكان الانفتاح على العالم الخارجي بل ونقل ذلك العالم بكل أحداثه المعقّدة والمتلاطمة إليه، وذلك كنتيجة طبيعية للتقدم الهائل في أساليب الاتصال. ويظهر مدى قوة ارتباط الإنسان المعاصر بالإعلام إذا نحن نظرنا إلى طول الفترة التي يقتطعها الفرد العادي من حياته اليومية لمشاهدة التلفزيون، ومتابعة برامج الإذاعات العالمية، وتصفح الجرائد والمجلات، وبخاصة في أوقات الأزمات العالمية المتواصلة، ثم تقليب صفحات الإنترنت وزيارة المواقع المختلفة على الشبكة الدولية، لمعرفة المزيد من أحوال العالم الذي يعيش فيه، مما يقوي الشعور بالانتماء إليه والإحساس بأنه مواطن عالمي، وليس مجرد فرد يعيش في مجتمع محلي محدود المساحة والتأثير. فالإعلام يعتبر إذن إحدى حقائق الحياة المعاصرة، وواحدًا من أهم قوى تشكيل السلوكيات والقيم والعلاقات الإنسانية والثقافية، بما يبثه من خلال قنواته المتعددة والمتنوعة من أفكار وآراء تتسلل في رفق وهوادة إلى أذهان الجماهير العريضة، فتعمل على تغيير واقع حياتهم وتغرس فيهم قيمًا جديدة تزيح أمامها أنماط القيم، التي درجوا عليها خلال عصور طويلة سابقة من حياة المجتمع. وهذا معناه في آخر الأمر أن الإعلام يقوم بدور حيوي في نشر ثقافة عامة موحدة بين فئات وشرائح المجتمع الواحد من ناحية، مثلما يعمل من الناحية الأخرى على التقريب بقدر الإمكان بين الثقافات المختلفة، ويساعد بالتالي على نشر روح الاحترام من خلال التعرف على تلك الثقافات المغايرة، وإن كان هذا لا يخلو من شبهة وخطورة احتمال اندثار بعض مظاهر الثقافات الوطنية، وتمهيد الساحة لهيمنة الثقافات التي تتمتع بقدرة فائقة على الانتشار والتأثير، بفضل ما يساندها من تقدم علمي وتكنولوجي ومادي تفتقر إليه غالبية دول العالم. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الإعلام جسرًا يربط بين حياة الأفراد الشخصية الخاصة والعالم الكبير الذي يعيشون فيه، بحيث يستطيع المرء أن يرى نفسه من خلال البرامج التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة.



ويلعب الإعلام عدة أدوار قد تكون متعارضة ولكنها تكمل بعضها بعضًا. فهو بالنسبة للجماهير مصدر تسلية وترفيه ومعلومات وأخبار ومعرفة عامة وتثقيف محدود، وموجه في أغلب الأحيان، بينما هو بالنسبة للعاملين في مجاله مجرد (صناعة) - أو على أحسن تقدير - رسالة - يقومون بأدائها كمهنة يتعيشون منها، بينما هو بالنسبة للأجهزة أو الهيئات، التي تتولى الإشراف عليه ورسم سياساته والتي يمكن اعتبارها هنا (ملاكا) له مصدر لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية محسوبة بكل دقة، بينما يقوم في المجتمع ككل بدور مهم في التطبيع الاجتماعي والتقارب الثقافي. ومن هنا تأتي خطورته الحقيقية، إذ يتغلغل تأثيره في كل جوانب الحياة بغير استثناء مما جعله يتمتع بسلطة رهيبة يحسب لها الجميع حسابها.



آفاق مفتوحة



وقد مرت تكنولوجيا الإعلام بمراحل عديدة من التطوير والتجديد، إلى أن وصلت أخيرًا إلى المرحلة التي يعتمد فيها الاتصال الجماهيري على التكنولوجيا الرقمية (الكمبيوتر). ولايزال مجال التطوير مفتوحًا على مصراعيه، بحيث يصعب التكهن الآن بالمدى الذي قد يصل إليه ولا بالمسارات التي سوف يسلكها، وتأثيرات ذلك في المستقبل ليس فقط على العملية الإعلامية من إنتاج ونشر وتوزيع، بل وأيضًا على كثير من القضايا الاجتماعية والثقافية التي تتأثر باتجاهات الإعلام بشكل مباشر. ولقد طرأت على المجال الإعلامي كثير من التغيرات بعد ظهور الإنترنت واستخدامه كوسيلة للاتصال الجماهيري من ناحية، والسرعة الرهيبة التي تتميز بها التكنولوجيا الرقمية في الوصول إلى المعلومات ونشرها على نطاق واسع للغاية من الناحية الأخرى، وذلك فضلاً عما تتميز به هذه التكنولوجيا المتطورة من قدرات على فتح قنوات بين وسائل الاتصال المختلفة وربطها بعضها بعضًا، بحيث يمكن الإفادة منها جميعًا في الوقت نفسه، ودون أي جهد إضافي، وهذه حقيقة أشار إليها منذ سنوات عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان حين قال: «إن بعض أشكال الإعلام الجديد سوف تنجم عن تكامل واندماج الوسائل المختلفة، للحصول على المعلومات من المصادر المتعددة المتباعدة والمتباينة».



والواقع أن التطورات التي حدثت في مجال الإنترنت خلال الفترة القصيرة التي مرت، منذ الاعتماد عليه، لا يمكن أن تقاس إليها أي تطورات أخرى حدثت في أي مجال آخر من مجالات الاتصال والإعلام، ولذا فإنه من الصعب التنبؤ بما سيكون عليه الوضع في المستقبل، في ضوء ازدياد الإقبال على استخدام الكمبيوتر والالتجاء إلى وسائل أخرى غير التلفون العادي للدخول إلى الشبكة الدولية. ويمثل هذا الإقبال الشديد ثورة إعلامية ومعلوماتية باهرة، نظرًا لاتساع وتنوع مصادر ومجالات الاتصال والمعرفة والحصول على المعلومات، مع إمكان إعادة صياغتها ونشرها في صور وأشكال جديدة ومتعددة يظهر فيها عنصر الابتكار والإبداع. وهي ثورة هادئة لاتكاد تجذب إليها الأنظار على الرغم من خطورتها ودلالاتها ونتائجها البعيدة المدى، بفضل ما تنطوي عليه من إمكانات ضخمة للتغلب على كل فوارق الزمان والمكان التي قد تعوق عمليات نشر المعرفة بسرعة ودون تكاليف تذكر، كما أنها تؤدي إلى تغيير موازين القوى - إن صح التعبير - في مجال الإعلام لأنها تسمح للأطراف المختلفة المشاركة في العملية الإعلامية بفرص متساوية للاتصال، بمعنى أنه يمكن لكل طرف أن يقوم بعمليتي الإرسال والاستقبال في وقت واحد، وذلك بعكس ما هو عليه الوضع في وسائل الإعلام الأخرى، حيث يؤدي كل طرف دورًا محددًا لا يتعداه. فالتلفزيون (يرسل) والمشاهد (يستقبل)، بينما يستطيع المرء عن طريق الإنترنت أن يرسل ما يشاء من رسائل، في الوقت الذي يستقبل كل ما يرد إليه من مختلف أنحاء العالم.



سرعة التواصل



بيد أن هذا لا يستلزم بالضرورة اختفاء التلفزيون أو أن يحل الإنترنت محل الصحف وإن كان سيؤدي إلى حدوث تغييرات جوهرية في طبيعة الإعلام والمعلومات، وسرعة الحصول عليها ونشرها، خاصة أن هناك من يتحدى أنه لايمكن أن يمر أكثر من عشرين دقيقة على وقوع أي حدث، مهما كان صغيرًا في أي مكان من العالم، دون أن يتم نشره على الشبكة الدولية. ويكفي أن نشير هنا إلى أن محرك الأبحاث الشهير جوجل Google يرجع بصفة دائمة ومستمرة إلى أربعة آلاف وخمسمائة مصدر من مصادر الأخبار، يستمد منها المعلومات التي يتولى نشرها لحظة تسلمها مع الإشارة طيلة الوقت إلى جميع المصادر التي أوردت تلك المعلومة وهو ما تعجز عن فعله وسائل الإعلام الأخرى. وفي أحد المؤتمرات الأخيرة ذكر مدير البحوث والتنمية في Yahoo أن حجم الشبكة العامة يستوعب أربعين بليون صفحة وأنه يضاف إلى هذا العدد في كل لحظة عدة آلاف جديدة من الصفحات... والطريف في الأمر هو أننا أصبحنا ننظر إلى هذا الوضع على أنه أمر مسلم به، ولا يستدعي الدهشة أو يستحق الإعجاب.



وليس المهم هنا وفرة المعلومات وتنوعها بقدر ماهو إمكان الوصول إليها في الوقت والمكان اللذين يحددهما الشخص نفسه، بعكس الحال بالنسبة لوسائل الإعلام الأخرى من صحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية تلتزم بأوقات معينة ومحددة تصدر فيها أو تبث أثناءها فقط برامجها المحددة، ويتعين على القارئ أو المستمع أو المشاهد أن ينتظر حتى يحين موعد نشر أو بث البرامج المتعلقة بالموضوعات المطلوبة، حتى وإن اقتضى ذلك مرور بضعة أيام. فمستخدم الإنترنت هو الذي يتحكم في تحديد المعلومات ومصادر الحصول عليها، واختيار الوقت الذي يناسبه هو في الحصول عليها، بينما تتولى وسائل الإعلام الأخرى هذه المهام حسب سياساتها ونظرتها الخاصة، ودون أدنى اعتبار لرغبات أي طرف آخر. ويعتبر هذا النقص أو العيب نوعًا من التحدي الذي تحاول تلك الوسائل التقليدية التصدي له، بأساليب وطرق مختلفة لم تفلح تمامًا في التغلب عليه.



ويزيد من صعوبة الوضع بالنسبة للإعلام القديم أن الجماهير لم تعد تقنع بالحصول على المعلومات والأخبار بالرجوع إلى مصدر واحد وإنما ترجع إلى مصادر متعددة، بل وإلى كل ما هو متاح لها وهو ما يوفره الإنترنت، وذلك حتى تتمكن من مقارنة المعلومات والأخبار للتأكد من صحتها وصدقها، ويتيح الإنترنت الفرصة لمناقشة ونقد ماتقدمه المصادر العديدة والرد عليها، وتبادل الآراء والأفكار حولها، مما يعني أن الإعلام الجديد لم يعد أحادي التوجيه وإنما أصبح مفتوحًا للمناقشة والتوجيه من كل الأطراف المعنية، حتى وإن لم تنتسب إلى الصناعة الإعلامية. وهذا هو ماكنا نقصده حين أشرنا إلى توازن القوى بين كل أطراف العملية في الإعلام الجديد.



الطرق المزدوجة



إذا كانت العملية الإعلامية تسير في اتجاه أو مسار واحد معين في كل وسائل الإعلام القديمة، أي من المرسل إلى المتلقي وكان ذلك ينطبق على الصحافة مثلما يصدق على الإذاعة والتلفزيون والفيديو والسينما، وأنه لم يشذ عن هذه القاعدة إلا التلفون الذي يسمح بتبادل الأفكار والمعلومات بين طرفي الاتصال، بحيث يقوم كل طرف بدور المرسل والمتلقي في الوقت نفسه, فإن هذه العملية المزدوجة تظهر بأجلى صورها في الإنترنت، مع فارق مهم يميزه عن كل وسائل الإعلام والاتصال الأخرى، بما في ذلك التلفون نفسه. فهو يتيح الفرصة عن طريق البريد الإلكتروني لإجراء ذلك التبادل بين أعداد هائلة من الأشخاص، الذين ينتشرون في كل أنحاء العالم، والذين لا توجد بينهم أي صلة أو علاقة سابقة، وإنما يربطهم جميعا الاهتمام بموضوع واحد مشترك هيأ لهم الإنترنت فرصة مناقشته وفحصه، والإدلاء فيه بأفكارهم المختلفة دون أن يكون هناك سابق ترتيب أو اتفاق أو إعداد، كما يحدث أحيانا فيما يعرف باسم مؤتمرات التلفون التي يتولى فيها عدد معين ومحدود من الأشخاص مناقشة إحدى المشكلات من خلال الاتصال التلفوني بينهم جميعا ودون أن يغادر أي منهم مكانه، وذلك بترتيب خاص سبق الإعداد له في أغلب الأحيان. ولم يكن في الإمكان تحقيق هذا التطور في اتساع رقعة انتشار الإعلام لولا هذه الثورة الرقمية وماترتب عليها من إقرار البروتوكولات المنظمة لاستخدام الإنترنت، وانتشار الكمبيوترات على هذا النطاق الواسع والذي يزداد اتساعها طيلة الوقت مما أتاح الفرصة ليس فقط لتبادل ذلك القدر الهائل من المعلومات المتوافرة من كل أنحاء العالم، وإنما أتاح أيضا مساحة واسعة جدا للمشاركة بالرأي وتصحيح المعلومات إن اقتضى الأمر ذلك.



وهكذا لم تعد العملية الإعلامية مركزة في أيدي هيئة واحدة أو عدد محدود ومعلوم من الأشخاص أو الهيئات، التي تحتكر المعلومات وتتولى نشرها بالطريقة التي تناسبها والصيغة التي تخدم أغراضها الخاصة والوقت الذي تحدده، وإنما أصبحت أكثر ديمقراطية - إن صح التعبير - ومفتوحة أمام الجمع على مستوى العالم للمناقشة والنقد والتعديل والقبول أو الرفض.



الفرد والجماعة



فالإعلام الجديد يجمع على هذا الأساس بين خصائص الوسائل الفردية الشخصية، والوسائل الجماهيرية فالرسالة الواحدة يمكن أن توجه إلى شخص واحد معين بالذات، ولكن يمكن إرسالها هي ذاتها إلى عدد غير محدود من الناس في كل بقاع العالم، بحيث يتلقونها جميعا في اللحظة نفسها، مع إمكان إدخال تعديلات وتغييرات عليها إذا أريد ذلك حتى تتم مخاطبة كل فرد بالطريقة المناسبة. وإذا كان الإعلام القديم أو المألوف إعلامًا موجهًا من مصدر واحد إلى عديد من المستقبلين أو المتلقين فإن الإعلام الجديد الذي يسترشد بالتكنولوجيا الرقمية المتطورة يقوم على الاتصال بين أطراف عديدين يستطيع كل طرف منهم أن يرسل أو يتلقى ما شاء من رسائل، في الوقت نفسه على ما سبق أن ذكرنا. فالإعلام الجديد إذن تواصل بين الكثرة والكثرة، ولا يقف دون انتشاره أي قيود. إنه ساحة مفتوحة أمام الجميع إذ عن طريق ملايين أجهزة الكمبيوتر المرتبطة بالشبكات الدولية يمكن الحصول على قدر غير محدود من المعلومات حول أي موضوع قد يطرأ على البال، وتصنيف تلك المعلومات وإعادة صياغتها في صيغ وأشكال مختلفة حسب رغبات المستفيدين من هذه المعلومات، بل إنه يمكن من خلال هذه التكنولوجيا الرقمية نفسها إصدار الجريدة اليومية الواحدة في صور وأشكال ومحتويات متنوعة تنوع المشتركين فيها واستجابة لرغباتهم، وهذه مسألة سبق لنا معالجتها في مقال سابق (مقال: الصحافة ومستقبلها غير المضمون - عدد فبراير 2006). والشيء نفسه يصدق على التلفزيون، حيث يمكن للمشاهدين التدخل في سير وتسلسل الأحداث مثلا والتلاعب في الحبكة الروائية وتغيير الحل النهائي للمشكلة المطروحة، وهكذا، وهذه كلها تجريدات قد يصعب تحقيقها بغير التكنولوجيا الرقمية الجديدة، ولم تكن تخطر على البال منذ سنوات قليلة فقط.



وتؤلف هذه الأفكار والإمكانات جزءا من الثورة المعلوماتية الجديدة، التي تمثل مرحلة تطورية أكثر تقدمًا من الثورة الصناعية التي ظهرت فوق أنقاض الثورة الزراعية،. ولكن إذا كانت الثورة الصناعية أفلحت في تحقيق الإنتاج الضخم الكبير، المتمثل في مئات الآلاف من القطع المتشابهة والمتماثلة فإنها عجزت عن أن تجعل لكل قطعة مقاييس خاصة بها تميزها عن غيرها، بحيث لا تناسب إلا شخصًا واحدًا بالذات دون غيره من المستفيدين من هذا الإنتاج الكبير، وذلك بعكس ما تحققه الثورة الإعلامية والمعلوماتية الحالية عن طريق التكنولوجيا الرقمية، مما يجعلها تجمع - كما قلنا من قبل - بين الإنتاج الإعلامي على النطاق الواسع مع إمكان توجيهه في الوقت ذاته لتلبية المطالب والاهتمامات الفردية الخاصة.



السيطرة على الإعلام



ويواجه الإعلام الجديد عددًا من المشاكل التي يبدو أنها سوف تتفاقم في المستقبل وتحد من فاعليته، بل وقد يترتب عليها بعض النتائج السلبية التي تتنافى مع رسالة الإعلام الأساسية وهي نشر المعرفة على أوسع نطاق وإتاحتها بغير قيود للراغبين فيها كخطوة أساسية للتقريب بين الشعوب والثقافات. وإحدى أهم هذه المشكلات هي الميل المتزايد للسيطرة على الإعلام وتوجيهه نحو أهداف ورغبات معينة، لتحقيق مصالح خاصة، عن طريق امتلاك وسائل الإعلام، وتركيز هذه الملكية إما في أيدي عدد محدود من أصحاب رءوس الأموال أو الشركات الكبرى لإحراز المكاسب المادية والقوة السياسية من خلال البرامج الموجهة، حتى في المجالات الترفيهية والثقافية. وإما في أيدي الدولة كما هو الشأن في كثير من مجتمعات العالم الثالث، وتسخيرها لخدمة النظام القائم بكل ما يقتضيه ذلك من تقييد لحرية الرأي والتدخل في حيادية الأخبار.



وقد تلجأ الدولة تحت ضغط بعض الأوضاع الداخلية أو الدولية إلى (خصخصة) وسائل الإعلام، ولكن ذلك يحمل معه مخاطر تحكم رأس المال في توجيه السياسة الإعلامية، وتدعيم قوة الشركات الكبرى في مجالات الإنتاج الإعلامي الموجه ونشره وتوزيعه على مستوى العالم وبذلك تتحول (الخصخصة) إلى (احتكار). والخطورة في هذا كله تتمثل في إمكان تزييف الحقائق، أو حتى إخفائها كلية تبعًا لمصلحة الجهات المالكة، إذا كانت هذه الأخبار تتعارض مع مصالح تلك الهيئات أو الشركات. ولذا يتخوف الكثيرون من تراجع بعض جوانب الإعلام الجادة أمام هجمة البرامج السطحية الفجة، التي تخاطب الغرائز وليس العقول والأذهان، وهذا أمر واضح الآن في أفلام السينما تحت دعوى السينما الواقعية، بل وحتى في الصحافة (الجادة) التي أصبحت أكثر ميلا إلى الإثارة والحديث بالتفصيل الشديد عن الفضائح السياسية والمالية والأخلاقية، وحالات الطلاق بين المشاهير والكوارث الطبيعية واليومية، والبيانات الرسمية التي تحمل طابع الدعاية وما إليها، دون أن تشفع ذلك بالقراءة التحليلية الجادة المتعمقة لهذه الأحداث والبيانات. فالخوف إذن هو أن يصبح الإعلام الجديد أداة لنقل وتوصيل رسائل مناوئة للثقافة الراقية والفكر المتفتح المستنير والقيم الرفيعة، وأن يوجه خطابه بدلاً من ذلك إلى ممالأة الجماهير التي ينقصها الوعي بمشكلات العصر وانعكاساتها على المجتمعات التي تعيش فيها، والتي يمكن أن تخضع بسهولة للتأثيرات السلبية لتلك البرامج الإعلامية الرافضة لكل القيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة.



هل هي دعوة للانحلال؟



وتثير هذه التطورات الشكوك حول الدور الذي سوف يضطلع به الإعلام الجديد في عالم الغد. فالكثيرون يعتبرون هذا الإعلام مزيجا من مضيعة الوقت وإهدار الموارد المالية، والدعوة إلى الانحلال الأخلاقي والاجتماعي بما ينشره من برامج وأخبار وأفلام تتعلق بالجنس والعنف والعري والتهريب والإدمان، لجذب أكبر عدد من القراء أو المستمعين أو المشاهدين، بكل ما يترتب على هذه البرامج والأخبار والصور والأحداث من آثار سلبية سوف تزداد ضراوة في المستقبل. ولكن هناك على الجانب الآخر من يرى أن هذه المخاوف فيها كثير من المبالغة، وأن ليس ثمة ما يبررها، إذ ليس من السهل أن يتنازل المجتمع الإنساني عن تراثه وقيمه الراسخة، وأن يتنكر لكل تاريخه الفكري والثقافي الطويل والعريق وأن الاتجاهات السطحية التي تسيطر الآن على السياسات الإعلامية هي مجرد نزعات أو نزوات عارضة لتحقيق أكبر قدر من الربح المادي للشركات الرأسمالية الكبرى التي تحرص على الاستئثار بأكبر مساحة ممكنة من عالم الإعلام الفسيح، وأن هذا كله هو أحد مظاهر العولمة التي لن تلبث أن تنحسر أمام صحوة الشعوب لاسترداد هويتها الثقافية، مما يتيح الفرصة لأن يسترجع الإعلام حريته واستقلاله عن نفوذ أصحاب رءوس الأموال وهيمنة الدولة. ولكن الأغلب هو أن تبقى كل هذه الصور المتناقضة جنبا إلى جنب، وأن يتقبلها كلها مجتمع الغد، الأكثر انفتاحًا وتسامحًا، بحيث نجد الآن من يطلق عليه اسم «مجتمع الإباحة» -Permissive Society, وليس الإباحية.





أحمد أبو زيد