فقه
إن من تفصيل الكتاب أن لفظ الفقه حيث وقع في الكتاب المنزل فإنما للدلالة على أبسط مستويات الفهم و وأولى درجات العلم أي على فهم مقاصد الكلام ودراية المعنى جملة قبل التفصيل، وهكذا لم يفقه بنو آدم أي لم يفهموا تسبيح السماوات السبع والأرض ومن فيهن رغم سماعهم بعضه كتسبيح الرعد بحمد ربه.
وكذلك قوم شعيب لم يفهموا ولم تقع منهم دراية ما يدعوهم إليه رسول رب العالمين شعيب من الإيمان بالغيب ومن الإسلام بامتثال التكاليف ومنه قوله ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنْكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ أي لم يفهموا أنه يخوفهم من عذاب ماحق يستأصلهم كما استأصل المكذبين قبلهم رسل رب العالمين، ولم يفهموا أن ذلك التخويف ليس هزلا ولا تسلية وإنما هو وعد حسن غير مكذوب سيقع بهم إذا وافق الأجل الذي جعل الله له وهو الميعاد، ولم يفهم قوم شعيب دلالة أمر شعيب إياهم أن يستغفروا ربهم ثم يتوبون إليه ووقوعه على الأمر بالإيمان بالغيب الذي منه انتظار اليوم الآخر يعني تكليفهم أن يسألوا ربهم أن يغفر لهم في يوم الحساب ما سلف من كفرهم إذ الإيمان بالله واليوم الآخر هو الخطوة الأولى من الإيمان ثم يسلمون أي يتبعون إيمانهم بالغيب بالتوبة إلى ربهم أي الرجوع إليه بالعمل الصالح في الدنيا، هذا الكلام الفصيح الصريح من قول شعيب رسول الله لم يفهمه قومه كما في صريح قولهم ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ﴾ في سورة هود.
وسأل موسى ربه أن يزيل العقدة من لسانه ليفقه الناس كلامه، وكانت العقدة من لسانه حين يضيق صدره تمنعه من النطق بالحروف كما يبتغي وكما يتأتى للسامع تبيّنه، وهكذا عيّره فرعون بالعقدة من لسانه وأن السامع لا يكاد يتبين منه الحروف وتأليف الكلمات منها.
وكان القوم بين السدين لا يكادون يفهمون مقاصد الكلام ودلالاته أي هم شعب متخلف بعيد عن البحث العلمي المجرد وعن استعمال السمع والبصر للتأمل والفكر، وهكذالم يرفعوا رأسا بما مع ذي القرنين من العلم والحكمة وإنما سألوه أن يعيذهم ببناء سدّ من إفساد يأجوج ومأجوج، ويعني أن ذا القرنين عرض عليهم الإيمان ولكن لم يفقهوا حديثه وعلموا تمكنه فسألوه بناء السدّ فبناه لهم ولم يعذبهم عذابا نكرا.
وتضمنت سورة الإسراء أن الكفر بالآخرة حجاب يحول بين صاحبه وبين الاستماع إلى القرآن استماعا يتأتى من خلاله فقه مقاصده ودلالاته.
وتضمنت سورة الأعراف التكليف باستعمال أدوات العلم وهي الفقه بالقلوب والإبصار بالأعين والسماع بالآذان وأن تعطيلها إنما يقع من أهل النار الذين كانوا في الدنيا كالأنعام بل هم أضل.
وتضمنت سورة الأنفال أن الذين كفروا لم يفقهوا أن حرصهم على متاع الحياة الدنيا قد أوهنهم وصيّر عشرة منهم بواحد من المؤمنين الذين هم أحرص على متاع الآخرة وكذلك الذين أشركوا يحرصون على حياة ويودّ أحدهم لو يعمّر طويلا ليستمتع بالحياة أكثر إذ لا يرجو لقاء الله ورحمته في اليوم الآخر.
وإن المنافقين كما في سورتهم لا يفقهون أي لا يفهمون الكليات العامة في الدين رغم وضوحها:
ـ فمنهم الذين شهدوا وهم يخاطبون النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله، ولم يفهموا أن الله يعلم الغيب والسر وأخفى وأنه عليم بذات الصدور ومنه ما يخفونه من التكذيب وما يظهرونه تقية من الإسلام، ولم يفهموا أنهم سيعذبون في الآخرة على أيمانهم التي اتخذوها جُنّة يتقون بها أن يعاملوا في الدنيا معاملة الكفار.
ـ ومنهم المتخلفون عن غزوة تبوك اتقاء حرّ الصيف ولم يفقهوا أن نار جهنم أشد حَرّا، فرغبوا بأنفسهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـ ومنهم المقيمون مع الخوالف من النساء والصبيان وأهل الأعذار تخلفا عن الجهاد مع النبي الأمي إذ قد طبع على قلوبهم فلا يدخلها شيء من الإيمان ولا ينتفعون بالكتاب المنزل.
ـ ومنهم المعرضون عن الاستماع إلى القرآن وعن تدبره فانصرفوا انصرافا هربا من سماع القرآن، ولو فقهوا رشدهم لما انشغلوا عن سماعه وتدبره والاهتداء به ليزدادا به إيمانا.
ـ ومنهم الذين منعهم النبي الأمي من الجهاد معه بعد نزول سورة التوبة طاعة لله الذي أمره بذلك كما في قوله ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ التوبة، وحسب المنافقون قليلوا الفقه والفهم في الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منعهم من الخروج معه ومع سراياه وبعوثه حسدا أن يصيبوا من الغنائم ولم يفهموا أنه بسبب حرف التوبة الذي أنزل قبل حرف الفتح كما في قوله ﴿قُل لَّنْ تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ﴾ الفتح.
ـ ومنهم الذين لم يفقهوا كما في سورة الحشر أن الله أحق أن يرهب منه وأن يخاف أكثر من الذين آمنوا.
ـ ومنهم الذين لم يفقهوا أن خزائن السماوات والأرض هي لله وإذن فلن يضيّع مَن عند رسول الله.
ـ ومنهم الذين لم يفقهوا كما في سورة النساء أن الحسنات والسيئات أي النعم والمصائب هي قضاء وقدر قد كتبه الله من قبل.
إن الفقيه حسب التراث الإسلامي هو الفروعي الذي حفظ المتون الفقهية ويكاد يحيط بالألغاز والافتراضات الفقهية في العبادات والمعاملات.
ولم يقع في الكتاب المنزل ولا الحديث النبوي ذم المنافقين والكفار على جهلهم تلك المسائل الفقهية وألغازها وافتراضاتها الفلسفية أو الوهمية.
وإنما تضمن الكتاب المنزل في هذا السياق قوله :
ـ ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ الأنعام
ـ ﴿وَهُوَ الذِي أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا اْلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ الأنعام
ـ ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ التوبة
ويعني أول الأنعام أن الله قد جعل من الشهب والصواعق آيات أي دلائل وقرائن على أن الله قادر على أن يبعث على أهل الأرض عذابا من فوقهم، وجعل من الخسف والزلازل والبراكين آيات على أن الله قادر على أن يبعث عليهم عذابا من تحت أرجلهم، وجعل من سنن الصراعات والحروب آيات على أن الله قادر على أن يجعلهم شيعا اختلفوا في الحق وتفرقوا عنه يذيق المغلوب منهم بأس الغالب.
وصرّف الله ذلك للناس ليفقهوه ويفهموه ليعينهم على أن يهتدوا بالقرآن العجب إلى الرشد وإلى التي هي أقوم يوم يستقر النبأ العظيم ويصبح شهادة معلومة للناس.
ويعني ثاني الأنعام أن الفقهاء من الناس هم الذين سيفقهون من تفصيل الكتاب المنزل المستقر والمستودع في بني آدم.
ولقد كنت أحسب والله أعلم أن المستقر في بني آدم هو من استقرت فيه ولم تتجاوزه إلى ذرية من بعده سلالات آبائه وأمهاته أي هو العقيم الذي لا يلد.
وأن المستودع هو من جعله الله مستودعا لذرية أخرى سيخلقها الله منه أي هو الذي يلد.
وكذلك كل دابة في الأرض يعلم الله مستقرها ومستودها كما في حرف هود، فالله يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور وهو المستودع والله أعلم، ويجعل من يشاء عقيما وهو المستقر والله أعلم، ولن يموت المستودع قبل أن يخرج الله منه ما استودع فيه من الذرية.
ويعني حرف التوبة تصنيف المؤمنين في آخر حياة النبي إلى فرقتين فرقة تخرج في السرايا والبعوث وهم الذين ينفرون، وفرقة تتفقه في الدين من النبي وهم الذين سينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، ينذرونهم بما علموه من الوحي الذي تنزل في غيابهم.