ظروف نشأة "الإسلام السياسي" ومُكَوِّناته الكبرى..
إن "الإسلام السياسي" المعاصر تنازعته وما تزال تتنازعه ثلاثة تيارات حضنتها رعتها ونمَّتها جميعها "بريطانيا الاستعمارية"، وورثت هذه المهمة من بعدها زعيمة الإمبريالية التي ورثت تركة الاستعمار التقليدي وهي "الولايات المتحدة الأميركية"، ما جعل الأداء السياسي لتلك التيارات حتى وهي تتطور مُحاوِلَةً التَحَرُّر من وقت لآخر، بشكل أو بآخر من أيديولوجية راعيتها "بريطانيا"، لا يبدو أداء أصيلا، بل مجبولا إلى حدٍّ كبير بمكوِّنات تلك الأيديولوجيا.
وقد نشأت تلك التيارات ثم نمت وتطورت، في ظروفٍ كانت الأقاليم التي نشأت ونمت وتطورت فيها تتطلب وفق الإستراتيجية البريطانية – وبعدها الأميركية – واحدا من الأمرين التاليين أو كليهما مجتمعين..
1 – العمل أيديولوجيا وسياسيا للانفصال عن الكيان القومي الكبير القائم، في كيان قطري صغير مستهدف، أو للتأسيس لكيان أممي أكبر من الكيان القومي عندما تكون قوميته هي المستهدفة، بهدف بلبلةِ مشروعيةِ الدعواتٍ القومية القائمة، عبر القفز – وفي الحالتين – على "فكرة الوحدة القومية" تجاوزا أو تراجعا، عندما تكون هذه الوحدة مطلبا يسنده الحراك السياسي، وذلك بسبب خطورة بقاء الكيان القومي الموحَّد موحدا، وخطورة تحول الكيان القومي المجزأ إلى كيان موحَّد، على مستقبل المصالح الإمبراطورية البريطانية وبعدها الأميركية. ويكون ذلك القفز إما بـ "الأممية الإسلامية" القائمة على "عالمية الإسلام" في مواجهة "وحدة قومية مستهدفة"، وإما بـ "الخصوصية الإسلامية" القائمة على "الانعزال الطائفي" لضرب وحدة قومية قائمة.
2 – الهجوم من الناحية العقدية والفكرية على أيِّ حراك مناهض للرأسمالية تحت عناوين مكافحة الإلحاد ومحاربة الكفر ومقاومة الخارجين عن المِلَّة، ليتم الالتقاء مع الرأسمالية اقتصاديا فيما اعتُبِرَ خندقا للدفاع عن الدين، من خلال التأسيس لرؤية اقتصادية لا تختلف في الجوهر عن الرؤية الرأسمالية الحاضنة لاقتصاد السوق، وإن اختلفت عنها في بعض الأمور الشكلية قِشْرِيَّة الطابع.
وقد تمَّ تجسيد ذلك الالتقاء، في اختزال الرؤية الاقتصادية التي أُطْلِقَ عليها "إسلامية" في عنصرين، أحدهما شديد التضليل، والآخر ممعن في التبسيط والتسطيح..
* تجلَّى العنصر الأول في ممارسات الرسول الكريم عليه السلام ذات الطابع القانوني "المدني" و"التجاري" و"المالي" المتناسب مع ظروف المجتمع العربي "القبلي البداوي شبه الحضري" قبل أربعة عشر قرنا. وهي الممارسات التي لا تصلح لإقامة رؤية اقتصادية على أساسها، بل يُفترض فهمُها في ضوء رؤية مؤَصَّلَة من خارجها، لفهم كيفية تطبيق الرسول الكريم لأُسُسِ تلك الرؤية.
* فيما تجلَّى العنصر الثاني في اعتبار..
- أن محاربة "الربا" الذي تمَّ اختزاله في "الفائدة البنكية"، بدل إسقاطه على كلِّ معاني الاستغلال الاقتصادي.
- وأن الاستغراق في فكرة "الزكاة" التي تمَّ حرفها عن معناها الحقيقي، لتصبحَ مجرد ضريبة محدودة عديمة الفعالية، بدل أن تكون إطارا لتحريك الاقتصاد بأكمله.
– وأن تكريس جوهرية "الصدقة" التي حُصِرَت في مساحات الفعل الخيري التطوعي، بدل تقنينها وتفعيلها لتتحول إلى منظومة فعاليات اقتصادية مساندة.
هي مجتمعة مُكَوِّنات الرؤية الاقتصادية الإسلامية التي اعتمد عليها الإسلام السياسي وتبناها، متغاضيا وغير مهتم بمناقشة كبريات المعضلات الاقتصادية التي ولَّدَت الصراعات الكبرى في العالم، مثل "الطبقية"، و"الملكية"، و"توزيع الثروة"، و"الاستثمار والادخار"، و"نظرية الإنتاج"، و"قواعد تقسيم العمل"، و"دور الدولة في التخطيط الاقتصادي"، و"التأمينات الاجتماعية"، و"العلاقة بين القطاعين الخاص والعام"، و"بناء الموازنات العامة للحكومات".. إلخ.. فظهر وكأنه اقتصادٌ رأسمالي قلبا وقالبا في معالجته لهذه المعضلات، عندما تبنى الموقف الرأسمالي في معاداة الموقف الاشتراكي والشيوعي منها، مادام "الفعل الخيري التطوعي" الذي تعبِّر عنه "الصدقة" موجودا في المجتمع الرأسمالي، ومادامت "الفائدة البنكية" التي عبَّر عنها "الربا" قابلة لأن تُنَظَّم بشكل يُفَرِّغُها من معاني الاستغلال التي تنطوي عليها أحيانا، ومادامت "الزكاة" كما تمَّ توصيفها هي أبسط أشكال "الضريبة" التي تمكَّن الاقتصاد الرأسمالي ذاته من القفز عليها طارحا نماذج أكثر منها خدمة للمجتمع.
ولهذا السبب رأينا تيارات الإسلام السياسي الثلاثة التي نتحدث عنها، تبحث عن ذاتِها، وتبرِّرُ كينونتَها التاريخية، وتحشدُ من حولها المؤمنين..
* إما لمحاربة "الإلحاد" المناهض للإيمان والمتناقض معه، عندما يكون العدو المُفترض هو "الشيوعية الملحدة"، و"الاشتراكية المعادية للطبقية"، عبر ربط واقعية الملكية بـ "الإله" وبـ "الأديان" التي يُعتبر "الإسلام" ذروةَ سنامها. لتجد هذه التيارات نفسَها تحارب من خندق "الرأسمالية"، مختبئة وراء محاربة "الإلحاد" و"اللاطبقية" للدفاع عن "الليبرالية الاقتصادية الرأسمالية" باسم الدفاع عن الإيمان.
* وإما لمحاربة "العلمانية" المناهضة للدين والمهمِّشَة له، عندما يكون العدو المُفترض هو الدولة "القومية"، عبر التأصيل الديني الإسلامي لـ "العزلة الطائفية"، عندما تُراد زعزعة استقرار أمة قومية قائمة، أو عبر التأصيل الديني الإسلامي لـ "الأممية الدينية"، عندما يراد إفشال مشروع قومي قيد التشكًّل. لتجدَ هذه التيارات نفسَها تحارب مجددا من خندق "الرأسمالية"، مختبئة هذه المرة وراء محاربة "العلمانية" و"اللادينية" للدفاع عن "المشروع السياسي العالمي للرأسمالية" باسم الدفاع عن الدين.
وإذا كان الإنجليز قد نجحوا في إفشال مشروع "الجامعة الإسلامية" الذي دعا إليه "جمال الدين الأفغاني" وتلامذته من أمثال "محمد عبده" و"محمد رشيد رضا" وغيرهما، وهو المشروع الذي كان يستشعر المؤامرة الاستعمارية التفتيتية ضد الدولة العثمانية، فحاول العمل على إفشالها عبر الحفاظ على تماسك الأمة ووحدتها، من خلال ترحيل كافة تناقضاتها القومية إلى ما بعد زوال المؤامرة الاستعمارية القادمة وإفشالها، بالبقاء داخل لحمة الجسد الواحد..
نقول.. إذا كان الإنجليز قد نحجوا في إفشال مشروع "الجامعة الإسلامية" هذا، عبر استبدالِه بمشروع "الانقلاب الهاشمي" الذي أطلقوا عليه اسم "الثورة العربية الكبرى"، فإنهم وبعد أن حققوا عبر هذا الانقلاب ما يريدونه، دفعوا نُخَبا عربية من تلك التي شعرت بـ "نكسة ضياع الخلافة"، وساندوا أخرى، بعدما تجسَّدت تلك النخب وتشكَّلت – عندما أصبحت الأرضية السياسية والفكرية ناضجة لها كلَّ النضوج – لتعيدَ جميعُها إنتاجَ مشروع "الجامعة الإسلامية" بأشكالٍ جديدة تتناسب مع الوضع التفتيتي الراهن، وفي قوالب فكرية وعقدية ملائمة لمواجهة أنماطٍ أخرى من ردات الفعل على الانتكاسة التي سببها "الانقلاب الهاشمي"، كان واضحا أنها ردات فعلٍ ستستنسخ "فكرة القومية الأوربية"، و"مبدأ الشيوعية السوفيتية".
أما تيارات الإسلام السياسي الثلاثة التي نشأت وتبلورت وتطورت في حاضنة الأمرين المشار إليهما سابقا فهي..
* التيار الأول هو "الإسلام السياسي الهندي" بشقيه "الباكستاني" و"المصري" وامتداداتهما.
* التيار الثاني هو "الإسلام السياسي السعودي" بطبيعته "السلفية المهادنة" التي فرَّخت لاحقا وفي ظروفٍ لا تخرج عن هذا السياق نفسِه "السلفية الجهادية".
* التيار الثالث هو "الإسلام السياسي الشيعي"، بشقيه "الشيعي العروبي" و"الشيعي الصفوي الفارسي".
وقد مارست التيارات الثلاثة ما حقق للبريطانيين ثم للأميركيين من بعدهم الهدفين السابقين على أكمل وجه في غالب الأحيان، ولن نقول في كلِّ الأحيان، من باب الإنصاف وتوخي الدقة والموضوعية، بسبب أن أعلى مستويات التناغم والتطابق بين ظروف نشأة تلك التيارات وظروف سيرورتها التارخية من جهة، ومصالح الأجندات البريطانية ثم الأميركية في حاضنة "الرأسمالية" المناهضة للشيوعية وللقومية العربيتين من جهة أخرى، لا تنفي وجود نوع حقيقي من التناقض الخفي بعيد المدى بين الحليفين التاريخيين – الإسلام السياسي والرأسماالية العالمية – كان يظهر ويتجسَّد من وقت لآخر، عبر فصيل منشَقٍّ متسرِّعٍ هنا، أو جماعة متشدِّدَة لا تتقن المجاملة، تعلن العداء على رحمها الذي ولدت منه هناك.
وبنظرة بانورامية نلقيها على واقع "الإسلام السياسي" حاليا، نجده يتحكم في مساحة واسعة من "الجغرافيا" و"الديموغرافيا" العربية والإسلامية.
فـ "السلفية المهادنة" تتحكم في منطقة الخليج العربي عبر التزاوج التاريخي الآثم بين "الوظيفية السعودية" و"سلفية محمد بن عبد الوهاب".
و"الإسلام السياسي الشيعي" بشقه العربي يهيمن على العراق، ويمتلك نفوذا فاعلا في لبنان، محاولا إثبات الذات في البحرين، متحالفا بشكل عميق مع شقه "الصفوي الفارسي" المهيمن في إيران.
فيما "الإسلام السياسي الهندي"، بشقه الباكستاني يهيمن على مسلمي آسيا غير العرب، وهو بشقه العربي ممثلا بالدرجة الأولى في "جماعة الإخوان المسلمين"، قد بدأ يثبت وجودَه في مصر وتونس وليبيا والمغرب، بعد أن كان قد أثبت وجودَه في اليمن، وهو يحاول أن يتسيَّد الساحة السورية وإلى جوارها الساحة الأردنية.
دون أن ننسى محاولات "الإسلام السياسي" المنشق عن "السلفية المهادنة" ممثلا في "السلفية الجهادية" التي تعمل عبر مختلف بُناها التنظيمية على تخليقِ نهجِ مواجهة عدمي وغير منظم ولا ممنهج ضد "الولايات المتحدة" من جهة، وضد بعض "الأنظمة الوظيفية"، بشكلٍ موسمي وحسب الطلب من جهة أخرى، ومحاولات "الإسلام السياسي" المنشق عن "الإسلام السياسي الهندي المصري"، ممثلا في "تنظيمات الجهاد" التي اعتبرت أن مهمتها تنحصر في خلق حالة مواجهة مع الكيان الصهيوني "إسرائيل".
الانقلاب الهاشمي وتأصيله الأيديولوجي والسياسي للإسلام السياسي..
كانت البداية في سيرورة "الانقلاب الهاشمي" على الدولة العثمانية، وهو ما أُطْلِقَ عليه زورا وبهتانا مصطلح "الثورة العربية الكبرى"، حين تجلت مُكونات الإستراتيجية البريطانية قبل ظهور "الإسلام السياسي"، والتي كشفت عن كونها نهجا ثابتا، يتجسَّد كلما دعت الحاجة إليه، تحقيقا للمبادئ المشار إليها سابقا.
فهناك في قلب ذلك الفعل التاريخي الأكثر غرابة ومدعاة للاستهجان، بسبب خروجه عن كافة قواعد الشرف والأخلاق والكرامة والوطنية، تأسَسَت وتأصَّلت وتكرَّست كلُّ الجينات التي التقطها "الإسلام السياسي" لاحقا بتوجيه بريطاني عالي المكر والدهاء، لتغدوَ هي كأفكار، وبه هو كإطار، مادةَ فِعلِه وحراكِه منذ نشأ وحتى الآن، مع إقرارنا بوجود استثناءات قليلة خرجت عن القاعدة لا لتلغيَها بل لتؤَكِّدَها.
فلنحاول قراءة ما ندعيه في حيثيات الانقلاب الهاشمي، بصفته التجربة البريطانية التي أسست لكلِّ التجارب اللاحقة لها، بعد أن اتخذت هذه التجارب – للضرورة – إطار "الإسلام السياسي".
إن الاتجاهات "الجينية" السياسية القائمة في كروموزومات تجربة "الانقلاب الهاشمي"، تم توريثها للأجيال التي أعقبت صُناَّعَ ذلك الانقلاب، بعد أن غدت أُطُرا أيديولوجية لممارساتِهم السياسية على امتداد الساحة العربية عامة، والمشرقية منها بالدرجة الأولى، إلى أن امتدت تأثيراتها الجينية السامَّة تلك، لتطال عديدَ مناطقِ تواجدِ المسلمين في هذا العالم.
إذ أننا باستقرائنا لأهم الجينات السياسية التي ورَّثَها الانقلاب الهاشمي لرواد الفعل السياسي من الذين مردوا على الاندماج في "الخريطة السايكسبيكوية" وتداعياتها القطرية والوظيفية منذ تسعين عاما، نستطيع استخلاص الاتجاهات التالية كاتجاهات غير مسبوقة في تاريخ الفعل السياسي والقومي العربي بل والإسلامي أيضا..
1 – استسهال فكرة الاستعانة بالأجنبي والاستقواء به لأجل تحصيل الحقوق أو لضمان السلامة والحماية، حتى غدت الثورات التي يُفترض أنها قامت لمواجهة الباطل ولمقارعة تعاون الأنظمة مع الأجنبي ضد مصالح الوطن والمواطنين، تبحث عن مساندين لها في منطق الاستقواء هذا، وكأنه أصبح جزءا لا يتجزأ من الموروث الجيني الذي خلَّفه انقلاب الهاشميين في الأمة. فنحن نعتقد جازمين أن كلَّ ما شهدته الساحة العربية، وما لا تزال تشهده من مظاهر الاستعانة بالأجنبي وبالعدو المستعمر، للتعامل مع أنظمة سياسية داخلية، بهدف تغييبها أو إسقاطها والحلول مكانها، هي من الموروثات الجينية لثقافة "الهاشميين" التي دشنت في التاريخ العربي الحديث هذه المعادلة النشاز في التعاملات الوطنية.
2 – استسهال فكرة الانفصال عن الدولة الأم – أو عن الدُّوَل الأمهات إن صح التعبير – دون توفر أيِّ دواعٍ لذلك بالمفاهيم القومية المُؤَسِّسَة للانفصال عادة، على حساب النضال الوطني برفقة باقي فئات وشرائح وطبقات المجتمع لتحصيل حقوقٍ أكثرَ في إطار النظام السياسي الواحد. إلى درجة امتداد هذه الظاهرة لتعمَّ معظم المسلمين في العالم، بحيث غدا نهجُ انفصال المسلمين عن غيرهم من مواطني الدول التي يعيشون فيها، مطلبا راح يؤَصَّلُ دينيا كي يَتَّسِم بالمشروعية عالية القداسة.
ولعل تجربة انفصال "باكستان" عن "الهند" في منتصف القرن العشرين بقيادة "محمد علي جناح" ذي التوجهات الدينية والسياسية المريبة، وانفصال "العرب" عن "تركيا" في العقد الثاني منه بقيادة "الحسين بن علي" الأكثر مدعاة للريبة سياسيا، هما النموذجان الانفصاليان الأكثر كارثية على الصعيد العالمي، والأكثر تأثيرا سلبيا في واقع المسلمين الذين فقدوا بهذين الانفصالين الفاجعين إمبراطوريتين كُبْرَيَيْن من إمبراطوريات المسلمين، كان من المؤكَّد أنهما ستكونان مركز الثقل السياسي والاقتصادي والعسكري في القارتين الآسيوية والإفريقية، ناهيك عن ثقلهما العالمي.
مع ضرورة التنويه في هذا المقام إلى أن التجربتين المريرتين بتداعياتهما الكارثية حصلتا في منطقتين هامتين من العالم الإسلامي، برعاية استعمارية بريطانية، فمهَّدتا لتغيير خريطة العالم، لتتوالى بعد ذلك مظاهر الدعوات الانفصالية في كل مكان فيه مسلمون، حتى لو كانوا بمثابة أقليات. وليست "البوسنة والهرسك"، و"كوسوفو"، ومحاولات "الشيشان"، ومحاولات "حركة مسلمي مورو في جنوب الفلبين"، وقضية "كشمير".. إلخ، إلا ظواهر امتدادية للفكر الانفصالي الانعزالي الذي مهَّد له "انقلاب الهاشميين"، ودشَّنَه بفصل العرب عن الأتراك، ليلحق به "انقلاب الجناحيين" عن الهنود – نسبة إلى "محمد علي جناح" – مدشِّنا إياه بانفصال باكستان عن الهند.
وفي الدعوات الانفصالية لم يعد الانفصاليون العرب أو المسلمون يفرقون بين وضع هم فيه أقلية وآخر هم فيه أكثرية. بل لعل أماكن "أكثرياتهم" كانت أكثر استهدافا بالدعوات الانفصالية المدعومة من القوى الاستعمارية، وذلك عبر دفعهم إلى الاستقواء على الأقليات بالرغبة في الهيمنة الدينية والتغييب الثقافي. ولنا في السودان بوصفه آخر نماذج استقواء المسلمين بشكل دَعَمَ انفصال الأقليات، مثالا صارخا على ما نقوله. أما في أماكن أقلياتهم، فقد كانوا يُدفعون إلى الانفصال لزعزعة استقرار الدول الكبيرة، بمطالبتهم بحقوق لم يكونوا مستعدين لمنحها لغيرهم في البلدان التي هم فيها أكثريات. ولنا في "الشيشان" الروس، وفي "مسلمي البوسنة والهرسك" و"كوسوفو" و"مورو" في الفلبين، نماذج على هذا النوع من أنواع استشعار الأنا الطائفية والدينية الممعنة في شوفينيتها في أماكن لم يكونوا يعانون فيها لأسباب دينية وتحت عناوين طائفية ومذهبية.
إن ما يلفت الانتباه في ظاهرة الانفصال أنها تشبه "القنابل العنقودية" في مبدأ تواصل التَّشَظِّي. فعندما تنجح أمة من الأمم في الانفصال عن أمة أكبر، فإن الكتل العرقية والاثنية الصغيرة المكوِّنَة للأمة المنفصلة أو للأمة التي تمَّ الانفصال عنها، تجد في ما حدث للأمة الأكبر مبررا شرعيا لمطالبها الانفصالية، التي ستبحث لها عن دعمٍ لدى كلِّ أصحاب المصالح والارتباطات المحليين والخارجيين، فضلا عن الحرص على إيجاد ذلك الدعم في المُؤَطِّرات الأيديولوجية لشرعية الشظايا الجديدة، التي سيتم البحث عنها في كل الخرافات والأساطير والمذاهب والأديان.
ولعل هذا التشظي العنقودي هو الذي رافق حالات الانفصال الكبرى التي شهدها القرن العشرون. فرغم أن "انقلاب الهاشميين" كان يريد بانفصاله عن الأتراك إنشاء دولة عربية قوية وكبيرة وموحدة في الجزيرة والهلال الخصيب كما يُنْسَب إلى قائد الانقلاب، إلا أن انفراط العقد العثماني العربي، أُتبِع على الفور بتشظٍ شهدته الكتلة العربية، ما يزال يشكِّلُ حالةَ الشدِّ القصوى في اتجاه ممانعة النهضة والوحدة والتحرر عبر تَرَسُّخ أبشع حالة قطرية وظيفية شهدها العالم.
وعندما انفصلت باكستان عن الهند، عادت الكتلة الإسلامية الجديدة للتشظى إلى "باكستان الغربية" و"باكستان الشرقية/بنغلاديش"، و"كشمير" ما تزال حتى اليوم تمثل العقدة المفصلية في النزاع الهندي الباكستاني. وعندما انفرط عقد الاتحاد السوفياتي بانفصال روسيا الاتحادية وانكفائها على نفسها وتخليها عن زوائدها الأوربية والآسيوية، راحت الكيانات الاثنية والطائفية الصغيرة في روسيا ذاتها تبحث لها فيما حصل للاتحاد السوفياتي عن مرجعية تُشَرْعِن بها دعواتِها الانفصالية وعلى رأسها دعوات "الشيشان أنغوش". وبعد ذلك وعندما تشظت "يوغوسلافيا" منتجة كيانا إسلاميا ممسوخا هو "البوسنة والهرسك"، عادت الشظايا الصغيرة، تبحث عن أطر جديدة لتشظٍ أصغر.. وهكذا دواليك.
إنها الطبيعة العنقودية للتشظي المصطنع غير القائم على تطورات تاريخية منطقية، والمناجز للمصلحة الحقيقية التي تشكلها حالة الوحدة، والتي دشنها "انقلاب الهاشميين" بذلك التحالف المشبوه مع الاستعمار البريطاني في مطلع القرن العشرين.
3 – تأصيل وتأطير الهويات القُطْرِيَّة، على حساب النزوع إلى الوحدة القومية. بحيث أصبح الحفاظ على الكيان القطري المُؤَطَّر بالهوية القطرية يحظى بالأولوية والقداسة، وتهون لأجله كلُّ القيم والمبادئ، ويتم البحث عن مُؤَطِّراتِه حتى في الحجارة والأوثان، وأكاذيب التاريخين القريب والبعيد. وفي سبيل الحفاظ على هذا الكيان تُسْفَك الدماء وتُسْتَنفر الشريعة وتُسْتَخدم، وتُشْحَذ سيوف العشيرة والقبيلة، ويُخَوَّن الأبطال، وتتهاوي الأمة الواحدة التي تغدو بلا معنى ولا قيمة، أمام معنى وقيمة الكيان القُطْري والهوية القطرية. ومن يتابع تاريخ العرب على مدى السنوات التسعين الأخيرة، يستطيع تَلَمُّسَ هذه الظاهرة بكل وضوح في الموروث السياسي للكيانات القُطْرِيَّة الوظيفية التي خلَّفَتْها لنا "سايكس بيكو" عندما حظيت بدعم "الانقلابيين الهاشميين"، عبر بقائهم في خندق التحالف مع بريطانيا، حتى بعدما اكتشفوا ما ادَّعَوا أنه خدعة وقعوا فيها.
إن "الانقلاب الهاشمي" الذي انطلق من مكة المكرمة في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، لم يأت جراء تراكم تاريخي في الحراك الجماهيري باتجاه التغيير الثوري، كما هو حال الثورات التي تُحًرِّرُ شعوبا وتُنْتِجُ حقوقا، والتي تترتب عليها بالتالي أنماطٌ جديدة من الشرعيات على أنقاض أنماطٍ سابقة ومترهلة منها، بقدر ما جاء جراءَ قراراتٍ فوقية اتخذتها وتحركت في ضوئها "القيادة المكية" في ذلك الوقت، ليكون "انقلابا عسكريا" واسع النطاق، يتناسب مع ظروف تلك المرحلة وتلك الجغرافيا، مدعوما بقوة أجنبية استعمارية بامتياز، لإسقاط نظام سياسي وسلطة شرعية، هما في أسوإ الأحوال، أقل سوءا وتدميرا ورهنا للمصير وللمستقبل، من الحليف الاستعماري الذي تم التعاون معه.
ولقد فرض "الانقلاب الهاشمي" الذي أُطْلِقَ عليه – بلا أدنى مُسَوِّغات منطقية – اسم "الثورة العربية الكبرى"، تساؤلين جوهريين يؤشران إلى عدم شرعيته أخلاقيا، ويدلان على عدم امتلاكه أيَّ سند أيديولوجي سياسيا، ليس من حيث المبررات والأسباب فقط، بل ومن حيث النتائج المتحققة على الأرض أيضا، ما يجعل الاستنادَ إليه في التأسيس لـ "المشروعية" التاريخية، ارتكازا هشاًّ يُحْسَب على الدولة التي تعتمدُ عليه وليس لصالحها.
فعلى صعيد المبررات والأسباب فرض ذلك "الانقلاب" التساؤل التالي:
"ما هو الحد الفاصل بين المؤامرة "الخيانة"، والمبادرة "الحق"، في فكرة انفصال العرب عن الدولة العثمانية في تلك الحقبة من الزمن، وفي ظروف الحرب العالمية الأولى التي كانت تستهدف تلك الدولة، وهي الفكرة التي قام ذلك الانقلاب لإنجاز أهدافه من خلال حيثياتها؟"
أما على صعيد النتائج، فقد فرض "الانقلاب الهاشمي" التساؤلَ التالي:
"أيُّ أشكال النظم السياسية العربية أنتجها ذلك الانقلاب، وأيُّ أنماط الحُزَم الثقافية رسَّخها وكرَّسها في واقع العرب، وهو الذي ما قام إلا لتحقيق غايةٍ جوهرية مؤداها، إنجاز "نظام عربي قومي" في الجزيرة والهلال الخصيب، وتحرير العرب مما تمَّ وصفه بالاحتلال أو الاستعمار العثماني، كما يُنْسَب إلى قائده المخدوع، قبل أن يصبح مخلوعا؟"
الحدُّ الفاصل بين "الخيانة" و"الحق" في انفصال العرب عن العثمانيين..
في الإجابة على هذا التساؤل، إنما نحاول تلمُّسَ فضاءِ مشروعيةِ الخروج على السلطة العثمانية والتمرد عليها من جهة أولى، ومشروعية الاستقواء بالأجنبي المستعمر لإنجاز هذا الخروج من جهة ثانية.
فهل كان من حق العرب أن يتمردوا على العثمانيين وأن يتحالفوا مع الإنجليز ضدهم؟!
أي، هل أن العرب من موقع كونهم المواطنين الأكثر عددا، والمقيمين على رقعة الأرض الأوسع مساحة والأهم إستراتيجية والأكثر ثراء وغنى، في دولة المسلمين الأكبر والأكثر استهدافا من قبل الاستعمار الأوربي آنذاك، من حقهم أن يخرجوا في تلك الظروف الحساسة والحرجة، وعلى ذلك النحو "المريب" و"غير النبيل" على دولتهم وحكومتهم، أيا كانت الأسباب والحجج التي سيقت لتبرير هذا الخروج؟!
سنترك الوقائع والأحداث والحقائق هي التي تتحدث..
إن الحياة الاقتصادية للشعب التركي لم تكن تتميز عن حال العرب بوجه عام. ولا كان للتركي حتى داخل الجيش والمؤسسات الإمبراطورية ما هو ممنوع على العربي. والباشا العربي ونظيره التركي كانت لهما المزايا الإقطاعية والسياسية نفسها، فيما الفقير التركي ونظيره العربي كانا يعانيان المعاناة الطبقية نفسِها، ويرزحان تحت نير الاستغلال نفسه من قبل الفئات والطبقات نفسِها عربية كانت أو تركية.
كما أن "آل عثمان" كعائلة مالكة تحت مسمى "الخلافة"، لم يكونوا يختلفون في بداية القرن السابق عما كان عليه "بنو العباس" أو "بنو أمية" أو "السلاجقة" أو "البويهيين" أو "المماليك" أو غيرهم في أزمنتهم الغابرة، من حيث السلطات والمزايا والصلاحيات، بل ربما أنهم كانوا أكثر إنسانية وتقدمية وحضارية منهم، إذا أخذنا في الاعتبار مسألة المشاركة في السلطة عبر المؤسسات الاستشارية والنيابية الدستورية التي كانت موجودة في الدولة في ذلك الوقت، أسوة بالدول الإمبراطورية الأوربية، وكنتاج طبيعي للتطور الإنساني الذي كان على الإمبراطورية العثمانية أن تواكبَه وتستجيبَ له في بعض جوانبه على الأقل، من باب التجاوب مع الحضارة والمدنية والقيم الإنسانية، وإن يكن بنَمْذَجَةٍ تتناسب مع التصورات الدينية الإسلامية السائدة في الدولة في تلك الفترة من الزمن.
"كما أن الحكومة التركية في "الأستانة" لم تمارس ضد العرب قمعا – في الحالات والأوضاع الطبيعية – أكثر مما مارسته ضد غيرهم من الأقوام المنضوين تحت لواء الإمبراطورية، بما استدعته سلطة الإمبراطورية ونمط تعاملها مع رعاياها بوجه عام، إلا في فترة متأخرة، وبالتحديد بعد إعلان العرب انحيازَهم ضدها إلى جانب أعدائها في حرب عالمية، وبعد أن وصل لخصومها والمتمردين على شرعيتها من العرب مالٌ وسلاحٌ من دولة تعلن الحرب عليها.
إن عدد العرب الذين أعدمهم "جمال باشا" ربما تجاوز الثلاثين بقليل، وهو بمفهوم أنظمة الحكم العربية بعد مائة عام من ذلك التاريخ، رقم لا يبرر الخروج والتمرد على الدولة والتحالف مع أعدائها، خاصة إذا علمنا أن عددا كبيرا من هؤلاء كانوا ضباطا في الجيش التركي نفسه"، وهو ما يستوجب التعامل معهم في حالات الخروج والتمرد والتعاون مع الأجنبي، بما يستدعيه العرف والشرف العسكريين من شدة وقسوة في التعامل. يذكر أن قائد الجيش التركي نفسه في تلك الفترة كان عربيا ولم يكن تركيا، وهو "شوكت محمود"(1).
إن مقارنة حالات القمع والإعدام تلك، بما تفعله أيُّ دولة عربية قُطْرِيَّة راهنة عندما تتعامل مع من يختلف معها في الرأي أو في الموقف السياسي، أو يطالب بإصلاح نظامها أو تقليص صلاحيات حكامها، وليس عندما يتعامل مع أعداءٍ أثناء الحرب، تجعل من تركيا بعد مائة عام نظاما سياسيا أكثر تحضرا وتقدمية من معظم الدول العربية المعاصرة. "هذا فضلا عن أنه كان لتركيا قبل مائة عام "مجلس تشريعي"، للعرب فيه ثلث أعضائه، كما كان لها دستور صدر عام 1908"(2)، أسَّسَ لحياة دستورية قابلة للتطور والنمو، بحيث كان من الممكن في ضوئه وعبر دخول المنطقة مرحلة الوعي والعلم والمعرفة والتبادل الثقافي الإنساني مع الثقافات والحضارات الإنسانية، أن يغدوَ هو الأرضية التي يتحول الأتراك في تلك الإمبراطورية من خلالها إلى أقلية تحت حكم العرب!! "ماذا لو علمنا أن الدول العربية اليوم، وبعد مائة عام، بعضها لا يملك لا مجلسا تشريعيا ولا دستورا. ومعظم من يملك أحدهما أو كليهما فإنه يعطله بشكل دائم باسم الطوارئ التي لا ينتهي أمدها"(3).
ومع ذلك لا يستطيع أحد أن ينكرَ على مواطني أيِّ دولة، الثورة ضد النظام والتمرد على السلطة السياسية التي تحكمهم، إذا كان هناك ما يستوجب ويستدعي الثورة والتمرد، بهدف الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، رفعا لظلم، أو تحقيقا لعدالة، أو دعوة إلى ممارسة حرية مفقودة، أو مكافحةً لفسادٍ مستشرِ.. إلخ. بل لا يمكن على الدوام رفض كل المطالب الانفصالية عن الدولة الأم من قبل فئات اثنية أو قومية محددة، إذا كانت هناك ظروف ومعطيات موضوعية تدفع في هذا الاتجاه وتساعد عليه وتتطلبه.
ولكن هل هذا هو ما فعله الهاشميون في انقلابهم الذي أطلقوا عليه اسم "الثورة العربية الكبرى"؟!
لو أن العرب سعوا إلى إقامة دولتهم أو دولهم المستقلة عن تركيا عبر فعاليات ودعوات انفصالية، قبل حاجة بريطانيا إلى أن يكون هناك مشروع عربي مُؤَسَّس على فكرة إقامة دولة عربية منفصلة عن الإمبراطورية العثمانية، لإضعاف تلك الدولة أثناء المواجهات العسكرية عبر تفجيرها من الداخل، فإن التاريخ سيحكم لهم، ولن يكون عليهم بالضرورة. "إلا أن ما حصل هو خلاف ذلك تماما، ففي الوقت الذي لم يكن فيه العرب قد تحركوا بعد باتجاه بلورة سياسية لطموحهم القومي، فإن الدول الأقوى ذات المصالح رأت أن تنشئَ قوة عربية داخل الدولة التركية موالية لها، فكان "الهاشميون" الذين يمتلكون شرعية عربية ودينية هم تلك القوة"(4).
وإذن فنحن عندما نستحضر الظروف الموضوعية التي تحرك عبرها "الهاشميون" في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين متحالفين مع الإنجليز ضد الدولة العثمانية، لإنجاز انقلابهم غير المُؤَسَّس في قوالب أيديولوجية ناضجة، لا يمكننا الوقوع في شَرَكِ الاعتقاد بأنهم كانوا يتحركون على قواعد من الشرعية الأخلاقية أو الدينية أو القومية، فليس هكذا تتكون القوميات، ولا على هذا النحو من الاستقواء بالمستعمر الأجنبي ضد السلطة السياسية الداخلية الشرعية تنشأ الدول. وما من فئة من أيِّ شعب أو أمة لجأت إلى هذا الأسلوب في تحصيل ما تعتقد أنه حقوقَها المشروعة، إلا ووُصِمَت على الفور من قبل باقي أفراد وفئات الأمة، بالخيانة والارتباط اللاأخلاقي بالأعداء. لذلك فلا يمكن وصف قادة "الانقلاب الهاشمي" سوى بالعملاء، وبالطابور الخامس، ممارسين أكبر عملية خداع أوقعوا فيها كلُّ من حمل السلاح إلى جانبهم ضد الدولة العثمانية "الأم".
إن التوصيف الحقيقي لما حصل، هو الإسهام عن قصد في تمزيق أوصال الدولة الواحدة، لتنشأ على أنقاضها مجموعة من الدول أو الدويلات الهزيلة، والتآمر على السلطة السياسية وعلى قواتها المسلحة، وهي في قلب المعركة ضد أعداء الأمة، بل ورفع السلاح ضد إخوة في الدين والتاريخ المشترك، من خندق الأعداء والمستعمرين الذين لم تكن أطماعهم الاستعمارية خافية على عاقل مُتَبَصِّر بما يحدث في العالم وفي الإقليم.
وإذا كان التحالف مع بريطانيا لتحقيق هدفٍ ما جاءت إلى المنطقة، لا هي ولا فرنسا، إلا للحيلولة دون تَحَقُّقِه في أيِّ مستوى من مستوياته، هو في حد ذاته دليل على أن قادة ذلك الانقلاب لم يكونوا في مستوى الوعي السياسي والتاريخي الذي يتطلبه تحقيق هدف قومي وحدوي عربي كبير كهذا، في ظل موازين القوى التي كانت سائدة في تلك المرحلة، فإنهم – أي قادة ذلك الانقلاب – في استمرارهم في التحالف غير المفهوم وغير المُبَرَّر مع بريطانيا، بعد أن اكتشفوا حقيقة توجهاتها الاستعمارية للمنطقة هي وفرنسا، عقب انكشاف تفاصيل اتفاقية "سايكس بيكو"، التي تقاسم الفرنسيون والبريطانيون بموجبها المنطقة العربية التي كانت وحدتُها والتي كان تحريرُها هدفَ خروج القيادة المَكِّيَّة على السلطة العثمانية أساسا، كما يُنْسَب إلى زعيم تلك القيادة، وتفاصيل "إعلان بلفور" الذي منح حقوقا ليهود العالم في فلسطين برعاية بريطانية، في غفلة من تلك القيادة..
نقول.. إن استمرار التحالف قائما بين الهاشميين وبريطانيا بعد تجلي كل ذلك الخذلان والخداع البريطانيين، وعدم تغيير الخنادق والتحالفات بما يتناسب مع هذا الكشف الخطير، يكشف عن خلل كبير لا في الوعي فقط، بل في التوجهات والأهداف وربما في النوايا المسبقة أيضا. وهو ما نعتبره واحدا من أكبر الخطايا التي وقع فيها قادة "الانقلاب الهاشمي"، فكان أول مظهر من مظاهر الفساد الأيديولوجي في بُنْيَة الأنظمة العربية القائمة على مُخْرَجات ذلك الانقلاب، هو ارتكاز مشروعيتها إلى مرجعية التحالف بين "انقلاب تآمري" و"اتفاق تقسيمي" و"غزو استعماري"، أُريدَ لنا أن نقتنع بأنه كان "ثورة" أولا، مع أنه لم يكن سوى شكل غريب من أشكال الانقلابات والتمردات المتحالفة مع المستعمرين ضد السلطة المركزية. والذي أريد لنا أن نقتنع بأنه كان "ثورة كبرى" ثانيا، مع أنه كان في واقع الأمر "انقلابا صغيرا" و"صغيرا جدا" بما آل إليه حاله.
في واقع الأمر لا يمكن لوطني أردني أو عربي أن يعتبرَ التحالفَ مع البريطانيين ضد العثمانيين، أمرا مرجعيا يُستَنَدُ إليه في البناء الأيديولوجي للدولة الأردنية أو لأيِّ دولة عربية. فالتحالف مع استعمار قوي متطلع انكشف خداعه وتضليله وتآمره، ضد ما قد يكون لدى البعض استعمارا مريضا يتهاوى – مع أنه ليس كذلك بكل المقاييس – هو بكل تأكيد جهل خطير بمعطيات السياسة الدولية وحقائق التاريخ، هذا إذا سلمنا بحسن النوايا.
كما لا يمكن لوطني أردني أو عربي أن يعتبرَ السذاجة السياسية، باستمرار التحالف مع من كشَّر عن أنيابه ليستولي على الأرض العربية، ويتقاسمها مع شركائه الاستعماريين الآخرين، مستخدما العرب وانقلابَهم ذاك دروعا متقدمة لتحقيق أهدافه، مرجعيةً يُعْتَمَدُ عليها في أيِّ حراك وطني تحرري وحدوي معاصر، ويُسْتَنَدُ إليها في تأطير البناء الأيديولوجي للهوية الوطنية وللدولة القومية. والتجارب القائمة على فكرة الاستعانة بعدو قوي له في أرضنا أطماع معروفة وواضحة، للتخلص من عدو ضعيف يتهاوى، ليست عنا ببعيد.
أيُّ أنماط الحُزَم الثقافية رسَّخها وكرَّسها الانقلاب الهاشمي في واقع العرب..
إننا نحاول في الإجابة على هذا السؤال قراءةَ صفات "المولود" العربي الذي أنجبته رحم الانقلاب، وكيف قامت تلك الرحم من ثمَّ بتوريث جيناتها القائمة على مبدإ "الوظيفية" المستقوية بالأجنبي والتابعة له والخادمة لأجنداته، إلى كل أجِنَّتِها التي تغتذي عبر حبلٍ سُرِّي يربطها بها، منذ نجح الحلفاء وعلى رأسهم البريطانيون في تثبيت خريطة "سايكس بيكو" مستخدمين "الانقلاب الهاشمي" أداة فعالة لتحقيق ذلك.
يجب أن نعترف ابتداءً بأمرٍ غايةٍ في الأهمية مفادُه، أنه لن يعرفَ الحقيقة من ينتظر "مهديا" و"مسيحا" ليخلصاه وينقذاه. ولن يُحررَ وطنا ولن يحقق نهضة ولن يوحِّدَ أمة وأرضا، من يبنى مصيرَه على انتظار تحقُّق الأساطير. فليعتبر كلُّ واحدٍ منا نفسَه "مسيحا" و"مهديا منتظرا"، وليمارس بنفسه ما ينتظر منهما أن يمارساه نيابة عنه، عندئذ سيكتشف أن الروايات التي تحدثت عنهما – إن صحت – إنما كانت تتحدث عن يقظتهما في قلبه وفي عقله، أي أنها كانت تتحدث عنه هو شخصيا، عندما يتقمَّص صفاتِهما النبيلة والعظيمة التي أشارت إليها تلك الروايات.
إلى ماذا يقودنا هذا الاعتراف؟! وعن ماذا سيكشف لنا، في سياق موضوعنا الذي نحن بصدده، والمتعلق بصفات المولود العربي الذي أنجبته لنا رحم "الانقلاب الهاشمي"؟!
لن تتسنى لنا فرصة استكشاف ذلك، ما لم نؤَسِّس له بالرؤية التالية..
إن الصهيونية الدينية بضلعيها "المسيحي البروتستانتي" من جهة، و"اليهودي الأشكينازي" من جهة أخرى، عمِلَت على صهينةِ العالم سياسيا، بدءا بالمسيحيين الكاثوليك والأرثوذوكس، ومرورا بالمسلمين، وانتهاء بأتباع الديانات الشرقية.
ولأن معظم أهل الأرض باستثناء المسيحيين والمسلمين واليهود – بصفتهم أتباع ديانات سماوية ذات مصدر واحد – ليست لديهم أيُّ مرجعيات ذات طبيعة دينية، يمكنها أن تمثل أرضا خصبة للترويج للصهيونية "الدينية"، فقد كان من الطبيعي أن ينصبَّ الجهد هناك في جانبه السياسي، فيما انصب الجهد هنا حيث أتباع الديانات السماوية الثلاث، في جانبه "الديني" تمهيدا لبلورة جانبه "السياسي".
فالمسيحيون والمسلمون واليهود على حدٍّ سواء، لديهم معتقدات متشابهة للغاية فيما يتعلق بمعارك وأحداث ما يطلق عليه آخر الزمان – وهي المعتقدات التي تمثل بيت القصيد في مآل الديانات الثلاث – فملاحم "آخر الزمان" عند المسلمين، هي نفسها معركة "هرمجدون" عن المسيحيين واليهود، وستحدث في فلسطين عند "باب لد" قرب "الرملة". و"المسيح" الذي سيغير وجه العالم، ويحكم بالعدل، ويتخلص من الشر والكفر والوثنية، سوف يأتي ليحققَ ذلك، سواء في المعتقدات اليهودية أو الإسلامية أو المسيحية، وإن كان سيأتي عند اليهود ليخلصهم من المسلمين والمسيحيين، وسيأتي عند المسيحيين ليخلصهم من اليهود والمسلمين، فيما سيأتي عند المسلمين ليخلص الأرض من اليهود والمسيحيين!!!
إنها عقيدة واحدة عنصرية وبغيضة، قائمة على إقصاء الآخر، وعدم الاعتراف بمشروعية شراكته في الحياة الآمنة، ولا بحقه في النعيم الدنيوي والأخروي، عندما يقاس النعيم بمعايير استحقاق دينية لاهوتية. ومع الأسف فإننا نحن المسلمون استنسخنا هذه العقيدة من الإسرائيليات ومن معتقدات المخلِّصين في الديانات الوثنية، ونسبناها إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، لأن الوضاعين والكذابين في تاريخنا لم يكونوا قادرين على نسبة ذلك إلى القرآن الكريم ذاته، وهو الكتاب الذي خلا خلوا تاما وقاطعا من أيِّ إرهاصات أو إشارات لمثل هذه المعتقدات "الآخر زمانية" شديدة العنصرية والشوفينية.
في واقع الأمر إن الصهيونية تمكنت من الانتشار السرطاني سياسيا على مستوى العالم، لأن البطش والجبروت الأنجلوساكسوني البروتستانتي "الرأسمالي الاحتكاري"، امتلك كلَّ الأدوات – منذ الهيمنة البريطانية وحتى الهيمنة الأميركية – التي تُمَكِّنُه من السطوة السياسية الشاملة. وعندما نقول "الصهيونية" لا نقصد اليهود، لأن اليهود بصفتهم الدينية الصرف، ليست لهم سطوة ولا قيمة ولا أهمية، خارج الحاضنة الصهيونية الرأسمالية الاحتكارية. وإنما نقصد عندما نذكر الصهيونية، الإمبراطورية الرأسمالية الاحتكارية التي ورثتها الإمبراطورية الأميركية عن الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، والتي جعلت من اليهود، وبالتالي من الصهيونية اليهودية، الواجهة الأمامية لممارسة كلِّ شرورها في العالم عبر منطقتنا العربية.
منذ أن تزاوجت "الرأسمالية العالمية" بـ "الصهيونية البروتستانتية" وحصل التلاقح التاريخي بينهما، وُلِدَت "الصهيونية اليهودية" كقناع يخفي حقيقة الرَّحِم الذي ولدت منه، وذلك بغرض إخفاء جوهر المعركة وجوهر الصراع وجوهر التناقض، ليصبح تناقضا عربيا/يهوديا – مادامت الصهيونية قد تجلت عبر يهوديتها – بدل أن يكون تناقضا عربيا/إمبرياليا رأسماليا احتكاريا، وبالتالي أميركيا – في الوقت الراهن – من منطلق أن التناقض إذا كان بين العرب والصهيونية، فجوهر الصهيونية ومصدرها ومُخَلِّقُها هو هناك في قلب تلك الرأسمالية التي بدأت بريطانية وفرنسية، لتؤول إلى إمبريالية أميركية.
بناء على ما سبق يمكننا القول بأن الغايات الصهيونية تبقى مخدومة، وخنادقها تبقى آمنة، مادامت قد نجحت في إقناعنا عبر الإعلام والثقافة، وعبر عشرات الكتب والمؤلفات، وعبر الأغاني والأفلام والبرامج التلفزيونية، بأن معركتنا هي مع اليهود بالدرجة الأولى، بصفة الصهيونية صهيونيتهم، لأنها تمثل اليهود وتعبر عنهم وعن حقوقهم الدينية والتاريخية، وأنها ليست شيئا آخر غير ذلك.
ولن تبدأ كفة الميزان في الاعتدال لصالحنا، إلا إذا بدأت كفة ميزان المعرفة في الاعتدال لصالح الحقيقة، التي تؤكد على أن معركتنا ليست مع هؤلاء، بل هي مع كل من يقف في خندق "الظلم العالمي"، الذي تمثله وتقوده "الإمبريالية العالمية البروتستانتية الأنجلوساكسونية" بالدرجة الأولى، بصرف النظر عن لون أو جنس أو عرق أو دين أو هوية عابرة.
وإلى كل من تخدعه أساطير الهيمنة اليهودية على الإعلام والمال والثقافة، نتوجه بالسؤال التالي..
ترى، هل يُعَدُّ "الوليد بن طلال" بثرائه الفاحش الذي لا يخدم سوى الشيطان ورأس المال العالمي، وبقنواته التلفزيونية الماسخة لكل عناصر الثقافة العربية والإسلامية بل وحتى الإنسانية، وقبلَه عدنان خاشقجي في الثمانينيات، ومثلهما معظم أباطرة النفط من سفهاء هذا العصر، نماذج لرؤوس المال والثراء الإسلامية؟! وبمعنى آخر، هل أن هذا النوع من أصحاب المال والنفوذ، هم أصحاب مال ونفوذ مسلمون يخدمون الإسلام ويحسبون عليه ويصنفون في خندقه وفي خندق العرب والعروبة؟! أم أن مالَهم لا دين له؟!
إن الإجابة واضحة وقاطعة، ومثل هؤلاء كلُّ أثرياء ومليارديرات وأساطين المال والإعلام والثقافة اليهود في العالم، لا يصح النظر إليهم بصفتهم يهودا، وإلى النفوذ والمال الذي يمتلكونه بصفته نفوذا ومالا يهوديين، بل يجب النظر إلى كل ذلك من زاوية "أين يصب وماذا يخدم"؟!!
ومن هذا المنطلق، فإن الكل، بمن فيهم "الوليد بن طلال" وأثرياء "آل سعود" وغيرهم من أمراء نفط الخليج، وكومبرادور الأنظمة الوظيفية هنا وهناك، يصبون في خندق الإمبريالية العالمية ومراكز رأس المال العالمي. وبالتالي فاليهودي والمسيحي والمسلم – بحكم هوية واقع الحال – الذين يخدمون الهدف الإمبريالي نفسه، لا يمكن النظر إلى أيٍّ منهم من حيث دينه ومن زاوية هويته الدينية، بل من زاوية الأيديولوجيا التي يحملها مالُه، وتلك التي يخدمها ثراؤُه، ويوَظف لأجلها نفوذُه.
إن ظاهرة خطيرة بدأت تتكشف في واقعنا العربي تتمثل في بزوغ عهد "الصهيونية العربية"، وهي اختزال لمفهوم "الصهيونية الإسلامية"، لأن هذه الأخيرة تتجلى أكثر ما تتجلى عند العرب تحديدا. وفي حقيقة الأمر فإن هذه الظاهرة كانت موجودة منذ زمن بعيد في موروثنا الثقافي وتراثنا المعتقدي، ولكنها كانت ظاهرة كامنةً وغيرَ مُفَعَّلَة. ولأننا حين نتحدث عن ظاهرة نطلق عليها اسم "الصهيونية العربية" أو "الصهيونية الإسلامية"، إنما نكون بصدد عرض مسألة غاية في الخطورة، فمن الضروري أن نعيد التذكير في هذا السياق بأن الفكر الصهيوني الذي انبثقت عنه "الصهيونية العملية" ذات الامتدادات العالمية، ليس فكرا يهوديا في الأساس، بل هو فكر مسيحي ظهر في قلب المسيحية الأوربية.
لا بل إن اليهود في أوربا قد حاربوا هذا الفكر عشيَّة ظهوره في قلب حركة الإصلاحات الدينية التي شهدتها أوربا عقب انقضاء ظلمة القرون الوسطى وبدء معالم عصر النهضة، ووقفوا ضده وفي مواجهته قرونا طويلة، ولم يستسلموا له أو يتجاوبوا مع متطلباته الاستعمارية الأوربية، إلا مع منتصف القرن التاسع عشر على مستوى بعض النخب الثقافية، ولم يصبحوا أداة من أدواته السياسية إلا مع انعقاد مؤتمر "بازل" في أواخر القرن التاسع عشر، عندما حصل ذلك التزاوج بين الخطط والإستراتيجيات الاستعمارية الأوربية عامة والبريطانية منها خاصة، وبين طموحات النُّخب اليهودية التي رأت في هذا الفكر تعبيرا عن ولائها للرأسمالية العالمية بالدرجة الأولى.
وإذا كان الفكر الصهيوني إنجازا رأسماليا مسيحيا صِرفا، تحرك به اللاوعي الأوربي عشية وصول العثمانيين إلى "فيينا" ومحاصرتها مرتين، في سياق إعادة إنتاج الذهنية الدينية الأوربية بشكل يتيح لها تجاوز المهانة التاريخية التي شعر بها الأوربيون الصليبيون عقب اندحار آخر الحملات الصليبية عن المشرق العربي بعد مائتي عام من التواجد الاستيطاني الاستعماري هناك، فلن نكون مجانبين للصواب إن أكدنا على أن كلَّ ما من شأنه رفد المشروع الصهيوني الراهن بمقومات البقاء والاستمرار، ومساعدته على استكمال مهمته الاستعمارية في المنطقة بوصفه المُكَمِّلَ الإمبريالي له، هو قطعا وجه آخر لصهيونيته.
فإذا كانت الصهيونية في الأساس مسيحيةً أوربيةً منشأً وسيرورةً وتطوراً، لأنها تخلَّقت في قلب الكنيسة الأوربية، وقامت على "إعادة صياغة فكرتي أرض الميعاد والعصر الألفي السعيد"، في العهدين القديم والجديد على حدٍّ سواء، على أيدي مصلحين دينيين مسيحيين أوربيين، بشكل مَهَّدَ لإعادة استعمار المشرق العربي بعد عدة قرون من ذلك، فإن نجاح المسيحية الأوربية في التأصيل لها – أي للصهيونية – لتكون مطلبا ومعتقدا يهوديا تُحسنُ الرأسمالية الاختباء وراءه في حملاتها الاستعمارية، وهي تروِّج للمعتقدات المسيحية واليهودية الجديدة، لا يقل أهمية عن نجاحها في إعادة إنتاج المنطقة العربية المشرقية سياسيا واقتصاديا وثقافيا بعد صبِّ "المسألة الشرقية" – كما كانت الأدبيات الدبلوماسية والسياسية لدى النُخب الأوربية تطلق عليها – في قوالب جديدة ساعد عليها انهيار "الرجل المريض"، وذلك على قاعدة تَقَبُّل الصهيونية والتعامل معها، باعتبارها أمرا طبيعيا يمكن التعايش معه وقبوله بل والدفاع عنه إذا تطلب الأمر ذلك.
لا قيمة لأيِّ محتوى ديني للفكرة الصهيونية، فمثل هذا المحتوى ليس أكثر من أكذوبة تهدف للتجييش البشري للفكرة وإخفاء مضمونها السياسي الإمبريالي، لأنها في الأساس فكرة استعمارية أوربية استخدمت الدينين المسيحي أولا واليهودي ثانيا، وهي تحاول الآن وبمساعدة قوى السَّفَة والتَّصَهْيُن العربية استخدام الدين الإسلامي، للتغطية على المشاريع الاستعمارية الأوربية في المنطقة العربية. فقيمة الفكرة إذن هي قيمة سياسية أولا وآخرا. وبالتالي فصفةُ "صهيوني" إذ انطبقت على أولئك الذين قبلوا سواء من اليهود أو من المسيحيين، أن يكونوا أداةً للفكرة الصهيونية في جوهرها الاستعماري، موافقين من ثمَّ على تجيير معتقداتهم الدينية من جهة، ومستعدين دوما للتخندق في الخندق السياسي المتماهي مع تلك المعتقدات من جهة أخرى..
نقول.. إن صفة "صهيوني" إذ انطبقت على أمثال هؤلاء، فلا معنى إطلاقا – مادمنا نتحدث عن أطر ومقدمات ونتائج سياسية في الجوهر – لِتَجَنُّب وصف الإنسان العربي ذي المرجعية الدينية الإسلامية أو غير الإسلامية، والذي يتبنى تلك المعتقدات وإن يكن من منظوره الخاص، أو ذلك الذي يقبل التخندق في الخندق السياسي المتماهي مع الأهداف والإستراتيجيات التي ما خُلِقَت الصهيونية ولا وُجِدَت "إسرائيل" إلا لتحقيقها، بأنه عربي صهيوني، أو بأنه يمثل ما نطلق عليه "الصهيونية العربية".
لا يوجد هناك أيُّ مُسَوِّغ علمي أو عقلي يُلْزِمنا بقبول التفريق بين "إسرائيل الصهيونية"، و"الأنظمة القطرية الوظيفية"، وفصائل "الإسلام السياسي"، المعتنقة لـ "الصهيونية الدينية"، والتي توظِّفُها لتكون إطارا معتقديا لمشروعها السياسي، بالقول بأن الأولى وحدها هي "الصهيونية"، في حين نتجنب وصف الثانية والثالثة بأنهما "صهيونيتين"، رغم أن الجهات الثلاث تعتنق المعتقدَ الدينيَّ نفسَه، بكل حتمياته التاريخية القائمة على الأساطير والخرافات الآخر زمانية ذاتِها.
كما أنه لا يوجد هناك أيُّ مُسَوِّغٍ علمي أو عقلي يلزِمُنا بقبول التفريق بين "مراكز الرأسمالية العالمية" و"الأنظمة الوظيفية" وفصائل "الإسلام السياسي" الأوسع انتشارا وتأثيرا، بالقول بأن الأولى وحدها هي "الإمبريالية"، في حين نتجنب وصف الثانية والثالثة بأنهما إمبرياليتين، رغم أن الجهات الثلاث تعتنق المعتقدَ الاقتصادي نفسَه، بكل رأسماليته المتغوِّلَة"، لتؤديَ في نهاية المطاف المهمة نفسَها، خدمة لتمرير العلاقات نفسِها، ودفاعا عن المنظومات السياسية والاقتصادية نفسِها، في المنطقة نفسِها، مستهدفةً المجموعات البشرية العربية نفسِها.
فمادامت الصهيونية ليست دينا، بل مشروعا سياسيا تستَّر وراء الدين، وجيَّش لنفسه بشريا في حاضنة الدين، فإن كلَّ من يسهم بدوره ومن موقعه السياسي في تمرير الإستراتيجيات التي نشأ لأجلها ذلك المشروع، هو حتما وبالضرورة جزءٌ لا يتجزأ منه.
وإنه على هذا الأساس ومن هذا المنطلق يجب التعامل مع منظومات التجزئة القطرية الوظيفية العربية التي لا تتعارض سياساتها وبرامجها ورؤاها مع سياسات وبرامج ورؤى الإمبريالية العالمية التي تستخدم الصهيونية لتمرير تلك الرؤى والإستراتيجيات والبرامج، باعتبارها منظوماتٍ صهيونيةً بكل ما لهذه الكلمة من معاني ودلالات، والتعامل معها من ثَمَّ على هذا الأساس.
كما أنه على الأساس نفسه يجب التعامل مع فصائل "الإسلام السياسي" التي لا تتعارض برامجها ومشاريعها الاقتصادية، وحتمياتها التاريخية، مع الشمولية والعنصرية والاقصائية المنطواة في معتقدات الصهيونية من جهة أولى، ومع الرأسمالية وآليات اقتصاد السوق المدمِّرَة لقواعد العدالة المجتمعية محليا وإقليميا وعالميا من جهة ثانية. وإلا فإن هناك خللا في التصور، وانحرافا في مسار الصراع، وخطأ مستفحلا في تشخيص جوهر التناقض الناشئ في المنطقة منذ رُسِمَت بقلمي "سايكس" و"بيكو"، في حاضنة الإعلان البلفوري وصكوك الانتدابين البريطاني والفرنسي.
ترى، كيف يمكننا تصديق أن أكبر وأوسع فصائل الإسلام السياسي التي كشفت سيرورة المرحلة الراهنة في الواقع العربي، عن مركزية ومحورية وجودها وهيمنتها وقيادتها، وهي جماعة "الإخوان المسلمين"، قابلة لأن تجسِّد مستقبل الأمة العربية "أيديولوجيا" و"سياسيا" بالشكل الذي تطمح إليه تلك الأمة وهي تُؤَسِّس لمشروع نهضتها ووحدتها وتحرُّرِها، وكلُّ أعضاء هذا الفصيل ما يزالون يعتبرون رجلا مثل "سيد قطب" – وهو المفكر الذي نحترمه جدا وننحني أمام بطولته الفائقة وهو يستشهد مرفوع الرأس، وإن خالفناه في معظم طروحاته الفكرية التي أنتج من خلالها الإسلام في قالب أسّس لكل الانفصالية والانعزالية والاستعلاء – هو مرجعهم، ورمزهم ومُشَكِّلُ طريقتهم في التفكير، ويعتبرون كتبه من ثمَّ هي نموذج المؤلفات التي يقيمون في ضوء محتوياتها أفكارَهم، وخاصة كتابي "معالم في الطريق" و"في ظلال القرآن"، وهو الذي أسَّس بمقولة "المفاصلة الشعورية" – التي أتعب نفسه كثيرا في ترسيخها وإثباتها قرآنيا وتاريخيا – لكلِّ مقدمات الفكر الانعزالي عن الآخر، والتكفيري له، والاستعلائي والاستقوائي عليه؟!
وكيف يمكننا أن نتفهَّم مستقبل الأمة لو قُدِّر لفصيل من فصائل "الإسلام السياسي" هو الفصيل "السلفي الوهابي" أن يكون صاحب كلمة فاصلة وهامة في صياغة ذلك المستقبل، ونحن نراه يتنطنط من خندق محاربة الإلحاد في الحضن الأميركي، إلى خندق محاربة أميركا التي تقف ضد المسلمين، ليقيم كلَّ معتقداته على أن الله سيجمع اليهود في فلسطين لنقتلهم يوما ما بمساعدة الحجر والشجر وبرمح المسيح، هذا إذا لم يكن أصلا قد وقف في خندق "الوظيفية" متبنيا الرأسمالية بكلِّ حذافيرها إذا وفقط إذا تحررت من الفائدة البنكية؟!! من هم هؤلاء، وما هي هويتهم الفكرية، وما هو مدى وعيهم بحقائق الوجود الكبرى؟! وكيف نستطيع فهمهم أصلا ونحن نرى هذا القدر من التناقض يلف معتقداتهم وسلوكاتهم ومواقفهم الاقتصادية والسياسية، قبل أن نستطيع بناء أيَّ تصور حول مستقبلنا في ظل هيمنتهم؟!!
وأيُّ قدر من الظلام سيعم الأمة حاضرا ومستقبلا على كلِّ الصُّعد لو قدر للإسلام السياسي "الصفوي الفارسي" أن يقود الأمة وأن يعيد بناء سيرورتها على حيثيات "الفقه الجعفري" و"المذهب الشيعي" الممعن في نكوصيته اقتصاديا وسياسيا وثقافيا.. إلخ؟!!!
هل يستطيع من اعتنق "المفاصلة الشعورية" عقيدة إسلامية، أن يتقن فن التعايش مع الآخر إذا لم يغيِّر هذه العقيدة؟! وهل من السهل أن نطمئن على مستقبل "الدولة المدنية"، و"الديمقراطية التعددية التشاركية" اللتين نصبو إليهما، ونحن نسلم أنفسَنا للسلفية بأيٍّ من أشكالها؟! وأيُّ مصير ينتظر نظامنا المجتمعي وعدالتنا وحريتنا ووحدتنا، إذا كانت لأيٍّ من هؤلاء اليد الطولى في تقرير مستقبل هذه الأمة وفي تحديد شكل مصيرها؟!!
ما لم تحسم كلُّ فصائل الإسلام السياسي موقفَها بوضوحٍ تام من القضايا الثلاث الكبرى المذكورة تاليا، على نحوٍ يتماهى مع التطلعات الحقيقية للأمة العربية في النهضة والوحدة والتحرر، فإنها غير مؤتمنة على مستقبلنا، وهي مرشَّحة لأن تعيدَنا إلى المربعات الأولى في كلِّ قضايانا، وعلى رأسها "مربع الشمولية" في قضية "شكل الدولة"، و"مربع الرأسمالية" في قضية "نموذج الاقتصاد"، و"مربع اللامواطنة" في قضية "شروط التعايش". لا بل إنها مرشَّحة لأن تقودَنا إلى استحضار مفاهيم انقرضت واندثرت، من مثل "أهل الذِّمَّة"، و"جزية الصَّغار"، و"المستبد العادل"، و"أهل الحلِّ والعقد"، و"أمير المؤمنين"، و"بيعة المنشط والمكره"، التي لا يصلح أيٌّ منها لأن يؤسِّسَ منفردا أو متفاعلا مع غيره، لدولة مدنية ديمقراطية تعدُّدِيَّة تشارُكِيَّة معاصرة قائمة على المواطنة..
* الاعتراف بمفهوم الدولة المدنية القائم على لادينيتها، وعلى عمق دلالة التعددية والتشاركية والمواطنة في هذه الدولة التي يجب أن تكون كلُّ المذاهب والأديان والطوائف والاثنيات فيها، متحركة تحت سقوف مدنيتها ومواطنيتها وتعدديتها لا فوق تلك السقوف.
* الاعتراف بالعلاقة المحتمة والمصيرية بين "النهضة والوحدة والتحرر" من جهة، وفكرة "الأمة العربية القومية" في حاضنة مواجهة ومقاومة "المشروع الإمبريالي الصهيوني الوظيفي" بكل فضاءاته من جهة أخرى.
* الاعتراف بالتناقض الحقيقي والجوهري بين الأمة العربية ومتطلباتها الاقتصادية الرافعة لمشروع النهضة والتحرر والوحدة، وبين الرأسمالية العالمية كنظام اقتصادي. والاعتراف بالتالي ومن هذا المنطلق بألاَّ قيمة لأيِّ رؤية اقتصادية لا تتأسَّس على جوهرية هذا التناقض، وهو الأمر الذي يجب معه أن يُعاد بناء كلِّ المفاهيم والفلسفات والأيديولوجيات الاقتصادية على أساسه، دون أن يعني ذلك أن يكون البديل هو الاشتراكية والشيوعية، بل إن البديل ينشأ من إعادة قراءة واقعنا العربي قراءة معمقة "متطلباتٍ" و"أداءً" و"أدوارا".
الهوامش..
1 – (كتاب "مقدمات النظام العربي"، الجزء الأول: "قبل مؤتمر بال وبعد أوسلو"، تأليف "كمال العزة"، منشورات "شركة مطبعة الندى"، عمان، 2001، ص 82 – 83).
2 – (نفس المرجع السابق).
3 – (نفس المرجع السابق).
4 – (نفس المرجع السابق، ص 71).