سأستهل مقالي هذا بحكايتي مع المرحوم “الحاج أبو رياض” الذي وافته المنية في اليوم التالي مباشرة لهذه الحكاية. فقد زارني منذ عدة أشهر في يومٍ كنت فيه موعوكا، وكان المرحوم قد عوَّدَني على أن يُشَرِّفني بالزيارة كلما كنتُ على غير ما يرام، فيعمل على مداواتي بحكمته.
سألني في غضون الحديث المتشعب الذي دار بيننا فقال: “كم يساوي مجموع 1/4 “رُبْع” + 1/5 “خُمْس” + 1/6 “سُدْس”؟!”.
ورغم يقيني بأن وراء سؤال الحاج “أبو رياض” درسا قاسيا أو حكمة بليغة، تصرفت على أساس أنه يختبر قدرتي في الحساب الذهني الذي أعتبر نفسي بارعا فيه. فقلت بعد لحظةٍ جمعتُ فيها الكسور الثلاثة التي سألني عن مجموعها: “المجموع يا عم “أبو رياض” هو 37/60 “سبعة وثلاثون على ستين”.
ابتسم “أبو رياض” بوداعته المعهودة، وقال وهو يهز رأسه بالنفي: “أخطأت يا عم “أبو عبيدة”.
فسألته بعد أن عدت إلى يقيني بأنه يجهزني لدرس أو حكمة: “إذن اسحب الصاعق يا عم “أبو رياض”، بس دير بالك على شوية هالعقل المتبقيات”.
واصل ابتسامته، وقال بيقين بعد أن قطَّب جبينه: “المجموع يا عم “أبو عبيدة” هو – 3 “سالب ثلاثة”.
شعرت بأن جرعة البلاغة في الحكمة، أو القسوة في الدرس، ستكون شديدة، فالتزمتُ الصمتَ منتظرا التوضيح. فواصل وهو يبتسم: “بما أن أيَّ ثورة لم تكتملْ، هي ثورة سالبة، إذن، رُبْعُ ثورةٍ في تونس + خُمْسُ ثورةٍ في مصر + سُدُسُ ثورةٍ في اليمن = ثلاث ثورات سالبة، أي أن “1/4″ + “1/5″ + “1/6″ = “- 3″”.
وعندما حاولت سؤالَه عن الحالة الأردنية، أَسْكَتَني بإشارة من يده كأنه فهم مقصدي، وقال على الفور: “مائة حراك” في الأردن، إما أن تكون “مقدمة لثورة”، وإما أن تكون “مقدمة لنكسة”، فإن فَهِمَتْ هذه الحراكات المائة أن عليها الاستسلام لقانون التطور، وقبول التحول لكيانات سياسية “مؤطَّرَة” و”مُبَرْمَجَة”، لأجل قيادة التغيير، فهي “مقدمة لثورة”. وإن هُيِّئَ لها أنها قادرة على صنع ثورة وقيادتها وتوجيهها وهي على حالها، دون أن تتحول إلى ما ذكرته لك، فهي “مقدمة لنكسة”.
ثم تواصل الحديث بيننا، وأشعرني الحاج “أبو رياض” بأن النظام في الأردن يلاعبنا بذكاء مستغلا فينا العناصر التالية..
* فهو يناغش في بعضنا “العطش المزمن” إلى “نجوميةِ قيادة الشارع”، فيعمل على تغذيتها في هذا البعض، إلى أن تصبح هدفا في ذاته، فتسقط أمامها كل ثوابت التغيير.
* ويناغش في البعض الآخر “العجز المزمن” عن الانتقال من اللون الأسود “حيث لا ألوان، إلى اللون الأبيض “حيث كلُّ الألوان”، عبر طيف الألوان اللامتناهي، مُزَيِّنا لهذا البعض أن العالمَ لونان فقط هما “الأسود” و”الأبيض”، ليجعل هدفهم هو فقط تكييف كلِّ الألوان لتذوبا في هذين اللونين.
* فيما يناغش في البقية الباقية منا هذا المُرَكَّب العجيب الناتج عن تفاعل “الألفة” مع “القمع” مع “التسول” مع “الخوف” مع “الكذب” مع “عشق المجلود لجلاده”.
لتكون النتيجة: حراك “يُفَعْفِط”، وشعب “يُفَرْفِط”، ونظام “يُبَلْبِط”.
وفي اليوم التالي توفي الحاج “أبو رياض” في مفاجأة فجعتني وأفقدتني عزيزا حكيما معلما.
تذكرت هذه الحكاية وأنا أراقب ما يحدث في كلٍّ من مصر وسوريا.
في مصر، منذ أن أصدر الرئيس “محمد مرسي” إعلانه الدستوري المثير للجدل، ودفع البلاد باتجاه الاستفتاء على الدستور الذي يقول المعارضون أن فيه ما يربو على الـ 15 مادة ما تزال محلَّ خلافٍ وانعدامٍ للتوافق عليها. وفي سوريا، مع اقتراب عدد ضحايا معادلات الدم اليومي من حاجز الخمسين ألف ضحية.
وتراءى لي بهذا الخصوص أن المصريين يدفعون ثمن ثورةٍ “لم يستكملوها”، بعد أن منحوا بقايا النظام الذي قبروا بعضَه، تفويضا باستكمالها، عبر منح “الشرعية الثورية الدستورية” لـ “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” أو ما عرف بـ “المجلس العسكري”، فوقعوا في خطإٍ فادح راح يستدعي – يوما بعد يوم – ما نراه يعبِّرُ عن نفسه في أحداث مصر حاليا.
وتراءى لي أيضا أن السوريين يدفعون ثمن ثورة “عسكروها”، بعد أن منحوا النظام المستبد الفاسد بأكمله فرصةَ استخدام السلاح بأوسع معانيه، دفاعا عن دولة وشعب ووطن، كان من السهل اتهام الثوار بأنهم يريدون تدميرها بمجرد إطلاق أول رصاصة ضد أول جندي.
من يتابع الحالة المصرية بعد إسقاط الرئيس “مبارك” يلمسُ حقيقةً لا مفر من الاعتراف بها، وهي أن “نصف الثورة عبارة عن ثورة سالبة” كما قال المرحوم “أبو رياض”. فما أنجزه المصريون بحلول الحادي عشر من شهر شباط 2011 هو “إسقاط الرئيس مبارك” فقط لا غير، مع وقوع ثوارهم في خطإ كبير راحوا يدفعون ثمنه وما يزالون يدفعونه حتى الآن، هم ومصر والشعب المصري، وهو أنهم أبقَوا على مؤسساتٍ كثيرة من مؤسسات النظام السابق كما هي دون أن يتمَّ المساس بها، لا هي بوصفها مؤسسات إن كان هدمُها وحلُّها هو المطلوب، ولا القائمين عليها وعلى تسييرها وإدارتها، إن كان تغيير هؤلاء هو المطلوب. لا بل هم قاموا بتفويضها كي تستكملَ الثورة نيابة عنهم.
وهذه المؤسسات هي “الجيش” كجزءٍ مهم من “السلطة التنفيذية”، و”السلطة القضائية” كاملة، إلى درجة أن “السلطة التشريعية” بأكملها ومؤسسات مهمة من السلطة التنفيذية مثل “جهاز أمن الدولة”، فضلا عن الحزب الحاكم السابق الذي مثل الحاضنة السياسية لنظام مبارك وهو “الحزب الوطني”، لم تسقط ولا تم كَنْسُها إلا من خلال “الجيش” الذي مُنِحَ الشرعية الثورية الدستورية، وذلك بعد أخذٍ وردّ وشدٍّ ومد وجزر، كادت معها تلك المؤسسات أن تفلتَ من مصير الكنس، وأن تحافظَ على نفسها كما هي، لولا الضغط الشعبي في الشارع، وهو الضغط الذي جعل مصر تعيش حتى الآن واقع الثورة المجتزأة التي راحت فصولها تتتابع فصلا في إثر فصل، لتدارك تداعيات الخطإ القاتل الذي وقع فيه الثوار عندما أوقفوا ثورتهم في منتصف الطريق، وكلفوا من يُفترض أنهم جزءٌ لا يتجزأ من النظام السابق باستكمال نصفها الباقي.
أي أن الفترة الممتدة من 25 يناير وحتى 11 فبراير لم تنجزْ إلا أمرا واحدا هو “إسقاط الرئيس”، مبقية حتى على رئيس وزرائه الأخير الذي ناجز الثورة حتى آخر رمق، وهو “الفريق أحمد شفيق”، ومُحيلةً باقي المهمات الأخطر بالنسبة لمصير أيِّ ثورة لبقية النظام، قائلة لتلك البقية بكل بساطة: “أرجوك أن تنظفي البلاد منك أيتها البقية!!!”.
إن أيَّ مؤسسة من مؤسسات الدولة التي كانت قائمة وفق هياكل محدَّدَة، ولتنفيذ إستراتيجيات تتناسب مع سياسات الدولة في عهدٍ سابق، ما كان لها أن تبقى على ذلك النحو، إذا شِيءَ الحديث عن تغيير ثوري كامل يخفِّف حدِة المناكفات في العهد الثوري الجديد، ويعيد بناء الدولة بناء ثوريا جديدا، ويضمن تحقيقَه لبرامج الثورة وتكريسَه لمشروعيتها غير القابلة للجدل أو المناكفة. لأن أيَّ مؤسسة من مؤسسات العهد السابق إذا بقيت دون المساس بها، ودون الإطاحة بالقائمين عليها، أو دون تحجيم دورها وتقليص صلاحياتها إلى أبعد الحدود، ستعتَبِر نفسَها – وهذا حقُّها في معركة صراع البقاء – جزءا من مشروعية النظام الجديد، وجزءا من نتاج الثورة، وبالتالي فلن يكون من حقِّ أحدٍ أن يتعامل معها خارج إطار مشروعيتها، لتغدوَ حتى مناكفاتُها ومشاكستُها أعمالا شرعية لا يحق لأحد الاحتجاجَ عليها.
لذلك رأينا أن الجيش المصري ممثلا في “المجلس العسكري” الذي قاد البلاد منذ الإطاحة بالرئيس السابق وحتى انتخاب رئيسٍ جديد، كان ينطلقُ في أدائه “التشريعي” و”التنفيذي” من مشروعيته الثورية التي حصل عليها من ميدان التحرير، ومن كافة ميادين الثورة، ليتصرف أحيانا كثيرة بما كان يبدو واضحا أنه حفاظٌ على ما يمكن الحفاظ عليه من فلول وبقايا النظام السابق ومؤسساته ومنظومته السياسية والثقافية والطبقية، ولم يكن يستجيب لغير هذا التوجه إلا بعد مظاهرات مليونية في الميدان تدفعه إلى ذلك.
فظهر الشعب المصري وكأنه يمارس السياسة دائما وبشكل مستمر من خلال المليونيات، عبر تعامله مع كل قرار مهم كان يريده أن يُنَفَّذ بثورة جديدة تحشد في الشارع ما يكفي لإسقاط نظامٍ بأكمله. وبدا هذا أمرا مفهوما في ظل تداعياتِ حقيقةِ أن “المجلس العسكري” كان يمثل “فلولا فعلية” للنظام السابق، أكثر من أنه كان يمثِّل حاضنة للثورة بعد رحيل الرئيس مبارك.
وبقي التجاذب بين الثوار والمعارضة والشارع من جهة، ومؤسسات “السلطة القضائية” من جهة أخرى، على مدى الأشهر التي كانت السلطتان التشريعية والتنفيذية خلالها بيد “المجلس العسكري”، خافتا بل ومختفيا، بسبب التناغم بين قضاءِ وجيشِ نظامٍ لم يتغيَّر فيهما شيء على الإطلاق، إلى أن تم تحييد الجيش بالكامل، بعد الانتخابات، لتظهرَ على السطح مناكفاتُ “السلطة القضائية” للسلطتين التنفيذية والتشريعية الجديدتين، بدءا من المشادات والتجاذبات مع “المحكمة الدستورية”، مرورا بتلك التي قامت بها “المحكمة الإدارية”، و”نادي القضاة”، وليس انتهاء بما آل إليه الصدام بين السلطة الجديدة والقضاء ككل بعد “الإعلان الدستوري” الأخير.
وبقدر ما كان “المجلس العسكري” يتحرك في اتجاه إفقاد الثورة في الشارع قدرتَها على استكمال برامج كنس بقايا النظام مؤسسيا وقانونيا بالتحالف الخفي مع “السلطة القضائية”، بقدر ما إن هذه الأخيرة حاولت مع زوال الغطاء العسكري عنها، أن تفعلَ ما كان يفعله المجلس العسكري سابقا. ولكنها وبسبب افتقارها إلى القوة المادية، واقتصار قوتها على مشروعيتها ومكانتها المعنوية التي لم تمسهما الثورة بسبب خطأ الثوار القاتل، راحت تحاول الاستقواء في معركتها ضد النظام بالعناصر والمكونات الهامة التالية..
1 – تفعيل الخوف التاريخي لدى المعارضة والعديد من القوى الثورية من “الإخوان المسلمين” بسبب دينية ولا مدنية الدولة التي يؤمنون بها حسب موروثهم الفكري المعروف، والنجاح بالتالي وبسبب كل ذلك في توصيف المسألة في حال عدم مناجزة الرئيس “مرسي” وتنظيم الإخوان، بأنها تنازلٌ عن مدنية الدولة لصالح دينيتها وبشكل “قُطبي”، نسبة إلى “سيد قطب” صاحب مبدأ “المفاصلة الشعورية” المُؤَسِّس لكلِّ أنماط الفكر الانعزالي والتكفيري لدى فصائل الإسلام السياسي.
2 – فشل الرئيس “محمد مرسي” في المائة اليوم الأولى التي وعد فيها بتحقيق بعض الإصلاحات، مُوَرِّطا نفسَه بتسرُّعِه فيما يستحيل الوفاء به في دولة مثل مصر، ما تزال لم تتحرَّر بعد من بقايا النظام السابق الأكثر فاعلية، وهي “الجيش” و”القضاء”.
3 – عدم راديكالية القوى السياسية التقليدية، ممثلة في أحزاب “الناصريون” و”الوفد” و”الغد” وغيرها من تلك التي كانت تتحرك ضمن حواضن النظام السابق الذي منحها شرعيته، لتمنحه ديكوره الديمقراطي الآسن. مع ضرورة التأكيد في هذا الصدد ولهذا السبب ومن باب الإنصاف، على أن صورة تلك المعارضة عن “الإخوان المسلمين” – بمن فيهم الكثير من الثوار – هي ذاتها الصورة النمطية التي رسَّخها في الأذهان النظام العسكري منذ خمسينيات القرن الماضي، خاصة إذا علمنا أن كلَّ المعارضة التقليدية كانت تتبنى ثقافة النظام إزاء الظاهرة “الإخوان المسلمين”.
4 – خيبة الأمل لدى الثوار من أن تؤول ثورتهم إلى ما آلت إليه من تجاذبات يتحكَّم فيها من كانوا يحرصون على ألا يسيطروا عليها ويقفزوا على منجزاتها، وهم الإخوان المسلمون تحديدا، وتيارات الإسلام السياسي عموما.
5 – فلول وبقايا النظام السابق المتمترسين وراء ما بقي من “سلطة قضائية” ومن فاسدين يتحركون في الخفاء هنا وهناك، لاستعادة مواقعهم ونفوذهم ضمن معادلات الوضع الجديد، عبر العمل على تفريغه من الكثير من مضامينه الثورية.
6 – أخطاء الإخوان المسلمين عامة والرئيس مرسي خاصة، وبالتحديد عندما أحاط نفسه في الإعلان الدستوري المكمِّل الجديد بهالة من التفرد تمنع أحدا من ملاحقة قراراته قضائيا، معطيا كل المبررات للتخوفات المشار إليه، مادام بالإمكان أن يحقق الغاية التي ادعى أنها تقف وراء تحصينه لقراراته، بغير هذا الأسلوب الدكتاتوري غير المسبوق.
7 – الجدل الدائر حول الدستور الجديد من الناحية الإجرائية التي تقف حاليا وراء الجانب الأكبر من التشكيك في مشروعيته، مادامت مشروعية المضمون قائمة إلى حد كبير بتوقيع كافة الأعضاء حتى المنسحبين منهم من الجمعية التأسيسية، على قبولهم بمعظم مواده باستثناء عددٍ محدود منها لا يتجاوز الـ 15 مادة.
8 – استغلال علاقات بعض رموز القوى العلمانية التقليدية، بالولايات المتحدة وبالغرب، لتقوية الموقف المناهض لمرسي وجماعته في سياساته وقراراته، مثل شخصية “محمد البرادعي”، الذي بدا واضحا من خلال ممارساته وسلوكاته، أن عدم الوقوع في أيَّ شبهة قد تمس بالعلمانية المطلقة للدولة، مقدمةٌ عنده حتى على عودة رموزٍ من النظام السابق إلى السلطة وإلى الواجهة.
ليس ما نقوله دفاعا عن “الإخوان المسلمين”، فأخطاؤهم أجلى من أن تمكِّنَ أحدا من الدفاع عنهم، بل هو نقدٌ للثوار المصريين، لأن الإخوان المسلمين أنفسَهم كانوا – رهانا منهم على قوتهم وقدرتهم وعلى قواعدهم وعلى براجماتيتهم المعهودة – هم الأكثر استعجالا على إيقاف الفعل الثوري على الأرض فورا عند استكمال إنجاز أول خطوة من الثورة، وهي إسقاط الرئيس وعزله وترحيله، وإحالة ما تبقى منها – أي من الثورة – إلى حالة التجاذب التي يمكنها أن تنشب في شارعٍ ليس فيه سوى بقايا النظام من جهة، وهم – أي الإخوان المسلمون – لجهة اعتبارهم أكثر القوى السياسية تنظيما وجماهيرية من جهة أخرى، فهم متأكدون من أنهم سيخسرون الكثير من فرصِ تواجدهم الفاعلة في المرحلة التالية للثورة، إن أتيحت لها فرصة استكمال نفسها عبر استكمال كنسِ كافة مؤسسات النظام ورموزه السابقين بنفسها ودون تفويض أحد بذلك.
وبما أن الثوار لا يمكن لأحد أن يعقدَ معهم الصفقات التي تساومهم على مشروعهم الثوري في حال استكماله، فقد كان من الضروري تجميدُ وضعِ الشارع المصري عند نقطةٍ يكون فيه الثوار، وتكون فيها ثورتهم أضعف من الإخوان المسلمين فيه – أي في الشارع – ويكون فيها النظام مترنحا بين جزءٍ منه نُحِر، وجزءٍ منه باق يبحث عمن يَقْوَى به، ويكون قادرا على فرض إرادته على الأرض.
أي أن “الإخوان المسلمين” أرادوا أن تقف “الثورة” عند نقطة تمثل إنجازا كبيرا بالنسبة للثوار، وفي الوقت نفسِه يكون فيها وضعُ كلٍّ من الثوار والنظام أضعف منهم، أي من “الإخوان المسلمين” الذين سيستطيعون الاستفادة عندئذٍ من الطرفين اللذين لن يستغنيَ أيٌّ منهما عنهم. فلا الثوار سيجدون أنفسهم قادرين وحدهم على استكمال ثورة باتت منقوصة، فيعتمدون على الإخوان بوصفهم شركاء الشارع لضمان استكمال ثورتهم، ولا النظام سيجد نفسه قادرا على إعادة التوازن لنفسه بعد أن قُصِمَ ظهره، فيقايض الإخوان ليكونوا “صمامَ التثبيط” لإرادة الشارع، الذي لم يكن الجيش ينوي الاستجابة لتطلعاته في استكمال عملية تطهير البلاد، على نحوِ ما كان يريده ذلك الشارع.
كان رحيل الرئيس مبارك هو تلك “النقطة المركزية” التي وجب وقوف الثورة عندها، والتي مثلت أكبر خدعة لثوار مصر وللشعب المصري من ثمَّ، عندما تمَّ اعتبارها هي نقطة التجسيد المركزية للثورة. وكان التمهيد لهذه النقطة يسير على قدم وساق منذ الأيام الأولى للثورة وللحشود الهائلة في ميدان التحرير، عبر الترويج لحلٍّ دستوري، رأى الجميع أنه هو ما يجب التفكير فيه، فتورط فيه المثقفون والقضاة وتورطت فيه الأحزاب السياسية، بمن فيهم “الإخوان المسلمون”، على ما شاهدنا جميعا خلال يوميات الثورة المصرية..
نقول.. كان الترويج لذلك الحل الدستوري هو بداية الأزمة التي ألمت بثورة المصريين، وحققت للباحثين عمن يساعدهم على القفز على هذا الإنجاز التاريخي في منتصف طريقه كلَّ طموحاتهم. الإخوان المسلمون وجدوا “المجلس العسكري” في الدستور، بعد أن اقتنع الجميع بأنه – أي الجيش – رمزُ مصرَ التاريخي الذي يحق له السمو حتى على ثورتها ضد نظامٍ كان هذا الجيش يدافع عنه ويحميه ويرتع في أحضان فساده وإفساده حتى آخر لحظة.
ترى، هل تلجأ ثورةٌ ثارت على نظامٍ بأكمله وطالبت بإسقاطه، إلى دستور ذلك النظام لتبحث فيه عن حلول تناسب مرحلة جني ثمرات ما بعد الثورة؟!
ترى، هل يحق لثورة طالبت بإسقاط النظام، أن تختزلَ النظام الذي يتجسَّد قانونيا وسياسيا في السلطات “التنفيذية” و”التشريعية” و”القضائية” بكل مؤسساتها ورجالاتها ورموزها، في “رئيس الدولة” الذي هو في مصر رأس السلطة التنفيذية فقط، لتعتبرَ نفسَها قد أنجزت مهمتها بمجرد عزل ذلك الرئيس عن السلطة، وتسليمها إياها – أي تلك السلطة – لجيشه الذي كان يحميه منذ أيام فقط، وبالشكل الدستوري الذي وُضِع ليحمي النظام وجيشه ومؤسساته عند الأزمات؟!
أيُّ ثورة هذه التي تبدأ بالبحث عن قناديل تضيء لها الطريق بعد إسقاط الرئيس، في قوانين وتشريعات ودستور النظام نفسه، وعبر قُضاتِه وجنرالاته أنفسِهم؟!
المصريون لم يسقطوا النظام في 11 فبراير 2011، بل هم أسقطوا الرئيس، والرئيس فقط. وتدارك باقي النظام ومؤسساته الأمرَ، ودَسْتَرَ الحدثَ بأن تعامل معه على اعتبار أنه أزمةٌ ألَّمَت بالبلاد، ولم يخرج هذا الباقي في تعامله مع هذا الحدث الجلل عن إطار ما يقتضيه الدستور القائم. فالدستور المصري وضع حلولا لحالة عزل الرئيس أو غيابه أو تغييبه عن السلطة لسببٍ أو لآخر، وكان من بين الحلول تشكيل “المجلس العسكري” الذي يتولى السلطة بدل الرئيس الغائب. وهذا ما قبلت به الثورة وما استدرج إليه الثوار بعدما تحركت كافة القوى السياسية وعلى رأسها الإخوان المسلمون في هذا الاتجاه. إن استلام “المجلس العسكري” للمشروعية الثورية الدستورية منذ 11 فبراير 2011، كان مؤامرة أجهضت الثورة المصرية وحالت دونها ودون استكمال مسيرتها حتى النهاية، لتظهر لواحق الزلزال وتوابعه على النحو الذي شهدناه على مدى السنتين الماضيتين.
وإنه لكي لا يكون مردودُ الفعل الشعبي المصري في الشارع مردودا ثوريا بكل ما تقتضيه كلمة ثورة من معاني ودلالات – حتى لو أعلن الجميع أن ذلك الفعل هو ثورة، من باب عدم جرح الكرامة الشعبية الغاضبة التي تعتبر نفسها ثائرة، وهي بالفعل كانت كذلك – فقد تمكن النظام المصري الذي تم تغييب رئيسه، من إعادة إنتاج نفسه بشكل دستوري جَلِيٍّ وواضح. فاستلم النظامُ بدون رئيسه، السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبقيت السلطة القضائية كما هي بلا أدنى مساس بها، ما منحها قدسية جعلتها تتغوَّل لاحقا وبشكلٍ قميء حتى على السلطة التنفيذية وقبلها السلطة التشريعية.
وراح “المجلس العسكري” يعمل على تخفيف حدَّة النَّفَس الثوري في الشارع المصري من خلال تفريغ الحدث من مردوده الثوري عبر الحرص على تمرير قرارات، وانتهاج سياسات متناقضة مع فكرة الثورة وأهدافها، ولم يجد من قوة قادرة على إعطائه مكسبا هنا ومكسبا هناك، سوى “الإخوان المسلمين” الذين حصلوا بالمقابل على مكافآت كثيرة، مهدت الطريق أمامهم ليكونوا الرقم الأول والصعب والأهم في مرحلة ما بعد المجلس العسكري. ليكتشف المصريون من خلال مواجهاتهم المتتابعة مع المجلس العسكري أنهم لم يستكملوا ثورتهم، وأنهم بصدد استكمالها، وأن الإخوان المسلمين بدأوا ينسلخون عنها مقدمين أجندتهم ومشروعهم الخاصين على أجندة ومشروع الثورة.
ومع كل يوم كان يمر من عمر التجاذبات التي أعقبت عزل الرئيس مبارك واستلام المجلس العسكري للسلطة وحتى الآن، كان الثوار يحاربون على جبهتين واسعتين وخطيرتين ومتوحشتين هما، جبهة “الإخوان المسلمين” ومشروعهم البلدوزري المندفع والمسنود بالسلفية، و”جبهة الوصوليين والانتهازيين الآخرين” ممثلين في الأحزاب التقليدية وفي فلول النظام الذين راحوا يلعبون على وتر انسلاخ الإخوان عن رزنامة الثورة ليحظوا هم بعطف ومساندة الثائربن، بهدف التمكن من تصفية حسابات تاريخية مع الإخوان، هي في الأساس تصفية حساباتٍ قائمة على استمرار الاستغراق في ثقافة النظام السابق.
لو أن الثورة المصرية تواصلت إلى أن فرضت على “الجيش” وعلى كافة المشاركين في الثورة “مجلس قيادة ثورة” يتولى قيادة المرحلة الانتقالية يكون الجيش تحت ولايته المطلقة، وإلى أن فرضت تأسيس “محكمة ثورية” تلغي العمل بالدستور وبكافة القوانين القائمة أيا كانت، واضعة قانونها المؤقت الخاص ووثيقتها الدستورية المؤقتة، التي كانت ستغني عن كل مهازل “الإعلانات الدستورية” وملاحقها ومكملاتها، لما كان أمام الجيش من سبيل غير تنفيذ أوامر وتعليمات وسياسات قادة مصر الجدد، عبر مجلسهم الثوري، ولما كان أمام كافة المؤسسات القضائية، ومن أيِّ مستوى كانت إلا أن تلتزمَ رغم أنفها بتنفيذ قوانين الثورة كما هي ودون أيِّ تدخل، لأن الحديث عن “عراقة القضاء المصري”، وعن “سلطة القضاء” و”استقلاليته”، ستفقد قيمَتَها، لأن المشروعية ستكون قد تكرسَّت في الشوارع وفي الميادين لـ “محكمة الثورة”، وليس لا لـلقائمين على إدارة “المحكمة الدستورية”، ولا لأولئك القائمين على إدارة “مجلس الدولة”، أو “نادي القضاة”، أو “مجلس القضاء العالي”، أو “المحكمة الإدارية”، ولا حتى لـ “النائب العام” نفسِه، ولا لغير تلك المحاكم التي كانت ستخضع للأمر باعتباره أمرا يتعلق بمشروعية جديدة، ليسوا أصحاب الحق في التمرد على قوانينها وقراراتها. ولن يكون ذلك ماسا لا بعراقة القضاء المصري، ولا بهيبة السلطة القضائية، ولا بمكانة النائب العام، ولا بأيِّ شيء من هذا القبيل، لأن كل ذلك كان سيمارس وينفَّذ وفق قوانين الثورة ومشروعيتها الجديدة، لتعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية بعد الانتهاء من كنس النظام وفلوله وبقاياه، ووضع الدستور الجديد وانتخاب السلطات بناء عليه، بدون كلِّ تلك التجاذبات.
كما أن الثورة لو أنها تواصلت حتى النهاية التي هي إنجاز ما ذكرناه من “مجلس قيادة ثورة” و”محكمة ثورية”، رافضة وصاية الجيش، الذي بدا واضحا أن الجميع في الميادين كانوا ينتظرون إشارته بتشكيل “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” وعزل الرئيس، ليعودوا إلى بيوتهم مطمئنين إلى أنهم أنجزوا ما خرجوا لإنجازه..
نقول.. لو أن الثورة المصرية وصلت حتى تلك النهاية المنتجة فعلا، ولم تقف عند هذا الإنجاز الأعرج، لما ظهر في الواقع هذا التجاذب الذي نراه اليوم بين الإخوان وبين غيرهم بشكل يؤسِّسُ كلُّ طرفٍ فيه لمشروعيته وأحقيته، لأن “مجلس قيادة الثورة” سيكون توافقيا بين الثوار الحقيقيين والفاعلين في الميدان، ولأن الكثيرين كانوا سيتساقطون في الطريق ليجدوا أنفسهم خارج المشروعية الثورية ذاتها بلا أيِّ قيمة شعبية، أو بقيمة محدودة ومحدَّدة في الشارع لا يمكنهم التَّبَجُّح بامتلاكهم ما هو أكثر منها، ولأنه – وهذا أهم ما في هذا الجُزئية – لن تكون هناك فرصة أمام أيِّ قوة لأن تقفز على الثورة، لأنها ستكون من القوة بحيث أنها فرضت نفسها حتى على الجيش، فألزمته بأن يكون تحت ولاية مجلس قيادتها الثورية، وعلى القضاء الذي ستكون ألزمته بأن ينفذ إرادتها متمثلة في “وثيقتها الدستورية المؤقتة”، وفي “قوانينها الثورية” التي ستساعدها على إعادة إنتاج الدولة بكافة مؤسساتها في قوالب وأفكار الثورة، ومن خلال مُخرجات مشروعيتها الجديدة.
إن ما يجري في مصر حاليا هو محاولة من “مرسي” ومن “الإخوان المسلمين” لأن يفعلوا وحدهم وبدون شراكة أحد، ما لم تفعله الثورة قبل 11 فبراير 2012، لأنهم وجدوا أنفسَهم مضطرين الآن لمواجهة القضاء، بعد أن واجهوا الجيش وتمكنوا من تحييده وكنسِه من طريقهم، وذلك ليكتسبوا مشروعية تعميم مشروعهم السياسي بأُفُقِه الذي يعتبره الآخرون ضيِّقا وغير آمن على مستقبل المدنية والديمقراطية في مصر، وهذا هو مبعث القلق والتوتر لدى شرائح واسعة من المصريين، لأنه إن تحقَّق بالشكل المطروح من قبل الرئيس ومن قبل جماعته كما يفهمهم الآخرون، فسوف يعني أن الإخوان المسلمين الذين استغلوا حالة الفراغ الناجمة عن “نصف الثورة” فقفزوا لاستكمال نصفها الثاني بمعرفتهم وبطريقتهم، سوف ينفردون بمصر ويشكلونها على طريقتهم.
ومهما ادعى الرئيس مرسي ومن ورائه الإخوان وأنصارهم غير ذلك، فالغاضبون في الميادين وفي الشوارع لن يجدوا أنفسهم معنيين بالتجاوب مع أيِّ تطمينات، لأن الذي يريد أن يستكمل ثورة ناقصة بشكل صحيح، تداركا لخطإ تم الوقوع فيه، فإنه يستكملها مع شركائه الحقيقيين في الشارع، ولا يتجاوزهم ويفاجئهم على النحو الذي يصر هؤلاء على اعتبار أن مرسي وجماعته يتبعونه بمكر ودهاء واستعلاء في هذه المرحلة لتمرير مشروعهم السياسي.
وبصرف النظر عما سيؤول إليه الوضع في الشارع المصري، فإن ما يحدث هو نتيجة محتَّمَة كانت واضحة لبصيرة كلِّ من تابع الأحداث من بدايتها، بعد أن أيقن منذ وقتٍ مبكِّرٍ أن المصريين أوكلوا لبقايا وفلول النظام استكمال ثورتهم التي استطاع “الإخوان المسلمون” أن يقفزوا عليها، بنجاحهم في عدم السماح لها بالتواصل إلى أكثر من عزل الرئيس، ليتموضعوا بقوتهم بعد ذلك حيث يريدون، وعلى المسافات التي يفضلون من كلٍّ من الثوار و”فلول النظام”، وليعملوا بعد ذلك منفردين على استكمال ما يريدون استكمالَه من تلك الثورة المنقوصة حسب متطلبات مشروعهم السياسي.
خلاصة القول إذن أن أيَّ ثورة ستجد نفسَها في مرحلة حساسة من مراحل سيرورتِها أمام كُلاَّبٍ قاتل ثنائي الحراب يستهدف الإجهازَ عليها. حربتُه الأولى النظام الذي يعمل على إفشالها بكلِّ ما أوتي من قوة، وحربته الثانية كافة القوى السياسية ذات المشاريع الضيِّقَة، والمستعدة للقفز على الثورة حتى لو تحالفت مع النظام في منتصف الطريق لتأمين تمرير مشروعها أو أيِّ جزء منه، خاصة إذا رأت أن الثورة في حال تحقيقها لذاتها وإنجازها لمشروعها بأكمله، فإنها ستخلُق حالةً مجتمعية جديدة لن تتيحَ لها – أي لتلك القوى السياسية – أكثر مما يتيح لها التحالف مع النظام ضد الثورة وقواها في حال الإجهاز عليها والتخندق مع النظام ضدها.
يجب على الثورة أن تتجنب الوقوع في حبائل هكذا مشاريع إجهاضية استباقية. ولن يتم لها ذلك إلا بالالتزام بالأمور التالية..
* تثبيت أعلى سقف مطالب لها تكون قد توصلت إليه لجهة الأسفل وليس لجهة الأعلى. بمعنى أن تكون سقوفها قابلة للزيادة والارتفاع دائما، لكنها غير قابلة للنقصان والتراجع.
* بما أن تلك السقوق تثبيتا أو ارتفاعا لا تتم إلا وفق تحركات مدروسة جيدا، فإن رفض أيِّ عرض من عروض النظام يكون أقل من تلك السقوف، يجب أن يمثِّلَ سياسة ثورية واضحة ومعلنة وغير قابلة للمساومة عليها أو للتراجع عنها. فالنظام هو الذي يتراجع لأنه يقايض الثوار على ما ليس من حقه، بينما الثوار لا يقايضون على شيء، وإنما يسترجعون وطنهم وحريتهم ومصيرهم وحقوقهم وحقوق شعبهم.
* عدم الانخداع بما قد تقوم به القوى الانتهازية صاحبة المشاريع والأجندات الضيِّقَة، وعدم الالتفات إليه إطلاقا، فهي كلما ابتعدت عن خندق الثورة، كلما وضعت نفسَها في خندق النظام. وكلُّ جهة تتحرك على هذا النحو وتفكر بهذه الطريقة، أقل شأنا من أن يؤخذَ موقفها في الاعتبار، وهي التي يجب أن تعي أنها ملزمة بأن تتخندق في خندق الثورة إن كانت تريد الحظوة بوجود فاعل لها في الدولة الجديدة.
* عدم القبول إطلاقا بأيِّ حلٍّ ينطوي على التحرك في فضاء الدستور والتشريعات القائمة، بل وحتى في فضاء المؤسسات القانونية والقضائية المنطواة ضمن “السلطة القضائية”، فذلك الدستور وتلك التشريعات والمؤسسات منذ لحظة إعلان أن الفعل الشعبي أصبح فعلا ثوريا، لم تعد لها قيمة، وأصبحت فاقدة للشرعية، وبالتالي فكل ما بُنيَ عليها فهو فاقد للشرعية.
* يجب على الثورة ألا تسمحَ بتمرير أيِّ صيغة تنطوي على إعادة إنتاج النظام بشكل جديد ومخادع، وألا تقبل بمخرجات أيِّ إجراء ينطوي على ذلك. فالجيش والأجهزة الأمنية وكافة مؤسسات الدولة يجب أن تؤول إلى سلطة الثورة ومؤسسات الثورة ويجب أن تكون تحت ولايتها المطلقة بلا أدنى مساومة على ذلك.
فماذا عن الأردن؟!
الحراك الشعبي وكل من دار أو يدور أو سيدور في فضائه وفي فلكه، في حال تنفيذه لنصيحة “الحاج أبو رياض” رحمه الله، بالتأطُّر و”التبرمج” و”التوحُّد” والخروج من دوائر “المناطقية” و”العشائرية”، هو جنين الثورة الأردنية القادمة. يقابله النظام بفساده واستبداده ووظيفيته وطبقيته البشعة من جهة، وتقابله القوى السياسية كاملة، ما كان منها تقليديا تاريخيا أو حديثا ومستجدا، من جهة أخرى.
لقد وصل سقف الحراك الشعبي بعد مرور عامين من عمره، فشلت خلالها كلُّ المطالب الإصلاحية، إلى المناداة بـ “حكومة إنقاذ وطني”. فيما النظام ما يزال يتلاعب بواقع العروض من وقت لآخر، بحسب المستجدات التي ما تزال أقلَّ بكثير من أن تفرضَ عليه رؤية لا يريدُها. أما القوى السياسية بمختلف فصائلها وتشكيلاتها وأطيافها، فهي الطرف الثالث الذي ستتلوَّن معظم مُكَوِّناته لأجل مشاريعها السياسية الضيِّقَة غالبا، وإن يكن على حساب الحراك ومشروعه عالي السقف. الأمر الذي يجعل التقاء تلك المُكَونات القابلة للتلون والتشكل الحرباوي مع النظام في خندق واحد أمرا مُرَجَّحا حينا، ومع الحراك إذا تطلبت مصالحها ذلك أمرا مُرَجَّحا حينا آخر. وعلى الحراك الشعبي أن يقودَ فعلَه النضالي بشقيه “السياسي” و”الميداني”، بسقفه الذي توصَّل إليه وهو السقف غير القابل للتراجع عنه وإن كان قابلا للارتفاع فيه، وعيناه على الساحة أمامه بمكونيها السابقين “النظام” و”القوى السياسية”. فكلما استطاع أن يشدَّ القوى السياسية إليه في مواجهة النظام فَعَلَ، وإلا فإن تلك القوى تحكم على نفسها بالخسران.
في سياق حديثنا عن الحالة الأردنية، يجب أن ندرك العناصر التالية..
* على الحراك الشعبي أن يعيَ نقطة بالغة الأهمية بناء على الحقائق التي ثبتناها سابقا عند تحليلنا للمشهد المصري، ألا وهي أن “الحراك الشعبي” بما هو “حراك شعبي” ما يزال غير مؤهل لأن يحقِّقَ شيئا يتعلق بشكل الدولة التي يطمح إليها، أو لأن يفرضَ على النظام رؤيته التي أسَّسَ لها، وهو من ثمَّ يستهدف الوصول إلى الحالة الثورية القادرة على تغيير أدواتها ووسائل فعلها الجماهيري، للتحول إلى قوة ضغط حقيقية تجبر النظام على الاستجابة لرؤيتها تلك. وبالتالي فإن ما يجب أن يكون واضحا، هو أن الحراك ما تزال أمامه مهمة طويلة ذات طابع تعبوي وتنظيمي وحشدي وتثقيفي، تستهدف إعداد القاعدة الشعبية الواسعة للانتقال بالحالة الأردنية من وضع “الحراك” إلى وضع “الثورة”.
* إن المناداة بـ “حكومة إنقاذ وطني”، يعني أن أفقَ الحلول غدت مسدودة خارج إطار هذه المؤسَسَة، حتى لو لم تتوفر لها القاعدة الشعبية التي تمنحها المشروعية في الوقت الراهن. ما يعني أن المناداة بها بوصفها طريقا وحيدا وأوحدا للحل في الأردن، وسقفا أعلى غير قابل للتراجع عنه إلى ما دونه تحت أيِّ ظرف، هي المشروع الثقافي والسياسي والتعبوي للحراك الشعبي في طريق تطوير نفسه باتجاه “الثورية”.
أي أننا نعمل وسنعمل على إعادة إنتاج الوعي الشعبي الأردني الجمعي داخل إطار حتمية “حكومة الإنقاذ الوطني” كمخرج وكحل للحالة الأردنية، حتى لو لم يتسنى تحقيق ذلك إلا بعد عقد من الزمان، في ظل الطبيعة الوظيفية والطبقية المتوحشة للنظام في هذا البلد، وأن أيّ حلٍّ يُعرض في أيِّ مرحلة خارج أطرها، هو وهمٌ وتسويفٌ وترحيلٌ ليس إلا.
إن الحراك منذ هذه اللحظة وإلى أن يتمكن من التحوُّل والتطوُّر إلى حالته الثورية المرتقبة، لن يكون معنيا بتغيير إستراتيجيته المتمثلة في “المناداة بحكومة إنقاذ وطني”، إلا إذا أثبتت سيرورة التجاذبات بين مختلف مُكَوِّنات المشهد الأردني، أن ما سوف تنفذه تلك الحكومة في حال تشكيلها واستلامها زمام الأمور في البلاد، قد تمّ تنفيذه بالفعل على أرض الواقع.
ولأن هذا الأمر مستبعد إلى درجة الاستحالة، بسبب أن النظام الوظيفي الطبقي المتغوِّل لن يفعلَ ذلك، ولأن قصارى ما يمكنه أن يفعلَه تحت وطأة التفاقم التدريجي للضغط الشعبي، قبل أن يصبح هذا الضغط ضغطا قادرا على الإجبار على التغيير، هو إعادة إنتاج الدولة الوظيفية الطبقية بشكل جديد يُقَلِّص من محصِّلَة خسائر النظام دون ان يغيِّرَ من جوهر الدولة، فإن الحراك الشعبي يستطيع الاطمئنان إلى أن إستراتيجياته ستتواصل حتى النهاية، وعليه الانتباه من ثمَّ إلى أن مناورات النظام ومحاولاته تغييرَ جلده مع كلِّ تطور في قدرات الحراك وفي فاعليته السياسية والميدانية والتنظيمية، سوف تكثر وتتوالى تباعا.
* إن النموذج المصري كشف لنا عن خطأ وقعت فيه الثورة المصرية عندما تنازلت عن دورها المفترض في استكمال “كَنْسِ” كافة مؤسسات ورموز ورجالات النظام السابق، واقعة في الشَّرَك بعد أقل من ثلاثة أسابيع من عمرها. كما أن النموذج السوري كشف لنا عن خطيئة وقعت فيها الثورة السورية عندما تمَ استدراجها بسهولة إلى مربع العنف والدم، فعسكرت نفسها بعد أقل من ثلاثة أشهر من عمرها، مُفْشِلَةً مشروعَها الثوري الشعبي، مُحَوِّلَة إياه إلى حرب حقيقية مسلحة ضد النظام. وإنه بين ضرورة عدم الوقوع في خطإ الثورة المصرية، وعدم الاستدراج إلى خطيئة الثورة السورية، على الحراك الأردني أن يقودَ نفسَه ويطوِّرَ في أدواته بشكلٍ مستمر إلى أن ينجزَ ثورته بأرقى الأشكال الحضارية للثورات.
رحم الله “الحاج أبو رياض”، وألهمنا بعده حسن الإصغاء والفهم والتدبُّر.