"عبدالمنعم السرساوي" بين شفرة "الإنشاد الديني" و دهشة الإبداع
محمد الشحات محمد
الإنشاد هو لون من الغناء ، و عرفه العرب قديماً ، و هو عبارة عن الترنم بالشعر من خلال الأداء المُمَوسق و النطق السليم ، و قد يصاحب الأداء عازف على الدفّ ، أو يكون المنشد معتمداً على عذوبة صوته و أذنه الموسيقية بالفطرة ، و الإنشاد قدْ يكون مُرتجلاً من المنشد ذاته ، أو يكون في نصوص شعرية يكتبها الشعراء ، وتختلف الألحان لنفس النصوص من بلد إلى أخرى ، وخصوصاً في تلك النصوص المكتوبة باللهجة الشعبية ، أماّ في حالة النصوص المكتوبة بالفصحى ، فمن الغالب التزامها بنفس اللحن على المستوى العام باعتبار أن اللغة الفصحى هي اللغة الأم والمشتركة على مستوى الأقطار العربية .. ، و من الأناشيد الشهيرة نشيد "طلع البدر علينا" الذي استقبل به أهل المدينة الرسول (ص) عندما هاجر من مكة إلى المدينة .. ، و من أهم المنشدين في عهد الرسول الكريم (ص) كان "رباح بن المغترف" ، وكثيراً ما كان الصحابة يطلبون منه أن يُنشد لهم ، و لقد سمع الرسول (ص) هذه الأناشيد في مسجده ، و سمح بها مصاحباً لها الدفّ في الأعياد وحفلات الزفاف .. ، وكان المنشدون يُشاركون في المناسبات المجتمعية مثل استقبال العائد من الحج ، والرحلات ، و أثناء البناء والزراعة ، وفي شهر رمضان و ذكرى المولد النبوي ، و المدائح ، والابتهالات ، والتسابيح ،والتكبيرات ، وحتى عند حدوث اضطرابات و ظواهر في الطبيعة مثل خسوف القمر ،
و إذا كان الغناء العادي تتغير معالمه ، ويحمل أحياناً من الألفاظ و الحركات ما يسئ ، فإن الإنشاد الديني يتميز بالحفاظ على التواصل الإنساني و الكوْني و الطابع القومي للشعوب لأنه أقل عُرضة لمتغيرات الذوق العام والأهواء ، والقائمون عليه يلتزمون بمظاهر الوقار لأنهم إذْ ينشدون ، فقد يُقدّمون سيراً للأنبياء، وقصصاً بأسلوب تطرب له النفس، ويشترط ألاَّ يُُغير المنشدون ومؤلفوا القصائد من طبيعة الشكل الموروث ، بل العمل على إحيائه ، وخصوصاً التراث الصوفي الذي يتناول موضوعات التذكير والعشق الإلهي ، ومدح الرسل ، و الحفاظ على الموشحات والمقامات و الطرائق الموروثة ، و بالتالي ، فإن هذا الفن جديرٌ بالرعاية والاهتمام ..
و في حالة من التنويع الرمزي الشفيف باللهجة الشعبية (العامية المصرية) نشرها المنشد والشاعر "عبدالمنعم السرساوي" في مجموعتة الشعرية "باسم الإله" تزيّنت النصوص بـ "الدراما" و إنطاق مالا ينطق في حوارية فنية تتخطى ثبوت الكتابة ، وإنما تفرطُ من حبات الشعر إيقاعاً جوهرياًّ يتجلَّى في صورة اللغة مع الاحتفاظ بروح الإنشاد الديني
* اعتمد "السرساوي" في أناشيده على أهم تقنيات الحداثة ، والتي تعني بالإشارات السريعة والكثافة المُمَوسِقة في اختراق اللامحدود ..، كما كشف عن روعة قُدرة الموروث في اقتحام لانهائية المعنى و استشراف المستقبل
* يستهل مجموعة "باسم الإله" بقصيدة "الله ياخلق الله" ، والتي يؤكد فيها أنه لا شيء يُغني عن ذكر الله ، و من يلتزم بذلك ، فأولئك هم أولوا الألباب الذين زهدوا في الدنيا ، و أكثروا من العطاء ، و كان التسامح شيمتهم ، فكان الرضا .. ، وينتقل الشيخ عبدالمنعم السرساوي إلى إعلان اشتياقه لأداء الحج ، ويُضفي من وصف الحرمين ورحلة الحجيج نوراً على القصيد حتى يصل بنا إلى يقين العمر ، والذي لامفر منه ، ويذكّرنا بالموت ، وقد أكد بدلالات تنقلاته من مشهدٍ إلى آخر على الفرق بين مَنْ اشتروا الآخرة بالدنيا و غيرهم .. ، ومنْ النص نجد تكرار لفظ الجلالة "الله" ، مع التزام الشاعر بالإيقاع الشعري .. يقول :-
الله .. اللــه .. الله الله يا خـــلق الله
لا عيال ومال ولا جاه يغـنو عـن ذكر الله
و حول الصبر وخصوصاً عند المرض يلجأُ إلى الله ، و إن كان الصبر أو التداوي مجرد أسباب .. يقول:-
إلـهي طبـب جراحـي أنا صاحي وجسمي عليل
وبامـلا بيـدي أقداحي بحلو الصبر صبر جميل
بعفوك يا إله الكون تراضيني
ماليش غيرك بكلمة "كن" تقويني
و مجموعة أناشيد "باسم الله" تعترف بابتسامات الماضي و أسراره الكامنة في الحكايا اللاهبات و الانتصارات و الأشواق ، ولكنها أيضاً تدعو إلى تشكيل جديد ،
كما تثور على المجتمعات الذكورية ، و إن كانتْ المجتمعات الأنثوية كذلك غير مرغوبٍ فيها ، و إنما تُوَجّهُ الدعوة لتلك المجتمعات التي يكون فيها الحبُّ الشرعي هو السلطة التي تنتصر للحق ، و المرأة في مثل هذه المجتمعات لها شخصية عملاقة ، و "الأم" هنا تذكِّرها بماضيها المجيد ..، و قمّة قوة المرأة/ أمه تتمثّل في ضعفها أمام الرجل/ والده، وبالتالي تستطيعُ هنا أن تحوّله من الرجل المتعصب العدواني إلى الإنسان الحاني الحامي لها بأمرها .. ، و إن لم تُحسن المرأة توجيه قدرتها نحو هذا الاتجاه ، فقد تكون النتائج على حساب الأبناء
و حول علاقته بأبيه منذ طفولته ، و كيف كان أبوه رحمه الله يُجلسه معه في جلسات كبار القوم ، و في إطار الأسرة كانا يُنشدان ويمدحان الرسول (ص) معاً .. يقول:-
احـكي لى يـابا راح فين شبابي
كل اللي زيي ماشـافوش عـذابي
واللـي في سـنك دولا صـحابي
عـايش كــإني بـدالك انــت
مغـرم صـبابا الحـقني يـابا
هـات الربـابة نمـدح شـويه
و تنوع أسلوب النص مابين النداء و الخبري لإقرار الصورة القاتمة شكلاً ، لكنّه كُتبَ بلغة بديلة ، وغير المعهودة ، فكان يُحثُّ على قراءة النصّ المستقبلي في صورته الجوهرية لا شكلاً فقط
لأن الشكل فقط يُوحي بأنّ هذه الصورة ستغطي الكون ، وتجعل الشمس تختفي خلف الغيوم التي هي أيضاً لا تُمطر ، و كأن النسيمُ لا يُرسل سلاماً ، والربيع يفقدُ زهوره و ازدهاره..، بينما الحقيقة تؤكد أن النتيجة كانت طيبة حيث وجد الشاعر أبناءه في صورةٍ مُرضية .. يقول:-
واليـوم ولادي أنضـف أيادي
لـك ولـبلادي أحسـن هـدية
و بهذا الإنشاد القصصي يجمع شاعرنا بين الجدّ و الأحفاد ، وهو حلقة الوصل ، و بهذه الثلاثية يرمز لتواصل الأجيال ، و يُرسلُ إسقاطاً على ثلاثية الزمن ، والشاعر هنا يُمثل الحاضر ، بينما الجد (والد الشاعر) يُمثّل الماضي ، و الأحفاد (أبناء الشاعر) يُمثلون المستقبل .. ، وللتفكير في مغزى الجمع بين الأزمنة الثلاثة لابدّ أن يكون التفكيرُ عميقاً وفي المضمون لأن الشكل فقط/ التفكير القشوري السطحي قد يجعل من ذاكرة الشواطئ مسْخاً جديداً .. لا يفرحُ و لا ينتظر العودة بحكاياتٍ و أسرارٍ مثيرة ..!
يقول الشاعر "السرساوي" لابنه ناصحاً :-
اعرف يابني واسمع مني عايزك تبقى أحسن مني
حلمك يكبر كـل ما تكبر ما تقولشي لونك ولوني
اسمع يا ابني قبل ما تبني سيبك م الناس
لجـل ما يبقى ضميرك حي ولك إحساس
اقرا وافهـم معـنى آيـات الإخـلاص
واتـبع راية الحق وسيـبك م الوسواس
و أماّ بجوهر العقلانية يُمكننا إدراك أي فرحٍ هذا الذي تداعى بعد أن ادلهمت خطوب سماء الصيف ، و لماذا أكد على سورة الإخلاص وحذر من الوسواس؟
بحلّ هذه الإشكاليات/الأسئلة الشفرات يتبين لماذا حاول النص توكيد أن الابن هو رأس مال الأب ، ورغم ذلك يرفض الأب احتياجه للابن في أشدّ الظروف .. يقول :-
يا رب إيـــه العـــــمل والفـــــكر ســــايدني
تايه ما بيـــــن المثــــل والخوف على إبني
والدنــــيا ايه غير عـمل يبقى ميراث لابني
والخــلق صـــاعهم جــمل والحق غــالبني
الديــن مــــذلة وثقــــل وعــزولي راقــبني
يـــارب ســـترك أمـــل قويـــني ماتسيــبني
يا كــــافي شــر العــــلل قــــادر تطيــــبـني
رفعـــت إيـــــد الرجــا ما تردنيـــش لابـني
لقد كان الابن/الابنة رمزاً للحب العربي في التشكيل الأسري القائم على روابط قوية ، و كان النشيد المحبَّ الذي استسلم/ استقوى بهذا الحب الأبوي/ الإنساني ، وظلّ يسري فينا حاملاً شعاع الذكر والصبر ، والاستعانة بالله
و إذا كان شاعرنا ذكر والده و أبناءه ، فهو لم ينس أمه ، و أهمية دعواتها له .. يقول:-
ادعي لي يا امه دعاكي حجاب ابنك مايستاهلشي عقاب
ادعي لي يا امه إله الكون ارجع لأهلي وللأحباب
و كذلك لم ينس ابن ابنته رمزاً لميلاد جديد يأتي عن المستقبل .. يقول:-
وارجع أداوي جراح وجراح
والكل يومها يعيش مرتاح
والفرح يبقى هناك فرحين
بولد بنتي الغالية سماح
تكرار عبارة "أرجع أداوي جراح و جراح" توكيدٌ على أن القوة العربية كان يُعتقد أنها ماتتْ من كثرة الجراح ، ولا تلبث حتى تستفيق ، مماّ يُبيّن أنها لم تكنْ أبداً في عدادِ الموتى ، و إنما هي لحظات ترهّل ، ثم تعودُ لتمسكَ بزمام النصر من جديد .. ، و هكذا الحال في هذه الفترة يبدو ترهُّلاً/ موتاً جديداً حتى إذا مايقتنعُ العالم أن الموتَ مُحقّق تعود الصحوة و تعلو صيحات النصر .. ، وبادئاً بالغزل كطبيعة الشعر القديم ، و التي مازالت الأناشيد تحتفظ بهذه السمة .. يقول في مصر :-
أحبك فـــجر صــــحاني وخــــلانــي
(أحــــبك حـــب ربـــاني) بوجــــداني
أناجيكي
يا روح الروح انا فداكي
يا بلدي يا مصر
و من الأناشيد التي تتناول سيرة الرسول (ص) نص "النبي وياه الصديق" ، وفي استقبال شهر رمضان نجد نص "ضيف الله" ، و يخص نصاًّ لمدح النبي رغم أن جميع النصوص لا تخلو من الصلاة و السلام عليه .. يقول في نص "باسم الله" :-
مـدح النـبي بيسر العـين بيـداوي كل قـلب حـزين
نبــينا رحــمة للعـــالمين ونور ضياه من نور الله
و بالتأمل نجدُ أن النصّ يوحي بأسلوبٍ ذكيٍّ إلى عودة الصحوة ، و العشق الإلهي ، ومدح الرسول يِعبّر عن همسات الحنين إلى غدٍ مُشرقٍ يستلهم عناصره من أمجاد الماضي ، وعبق الذكريات/ الذكرى
و يتجاوز النص هنا مسافات الدال و المدلول .. ، فلقد كانت خلايا النص الظاهرة دالة على عكس المقصود/ المدلول من الجوهر .. ، و بهذا المنطلق لقراءة النص ينبغي وجود نوعٍ من الجهد المشاركِ بين المبدع و المتلقي ، وهذا الجهدُ مطلبٌ أساسيُّ ضمن المطالب التي تضمنتها رسالة مجموعة "باسم الله" ، و كما يبدو جلياًّ أن أناشيد هذه المجموعة تجري بين أوصالها أنفاس وصور لشعراء سابقين ، وكذلك فيها التناص مثل جملة "أحبك حب رباني" في النص السابق ، وكذلك نجده في نص "وردة فـ نار" يتكرر التناص في جمل "نزرع ورد مع الصبار" و "ليه تحتار .. دق الزار" ، وغيرها من العبارات ، و إن كانت هذه من سمات الأناشيد للتواصل ، فقد وجب وضع الأقواس حول جمل التناص
و مّنْ يُطالع القاموس اللغوي لهذه المجموعة يلاحظ تكرار عدة ألفاظ بعينها مثل (العمر ، بكاء ، دموع ، جراح ، الصبر ، الموت ،الحيرة ، ..) مِماَّ يعي الإشارة إلى حتمية العدم ، و مَنْ يطالع كلمات مثل (نمدح ، فرح ، الخير ، نقدر ) يُدركُ أن حتمية العدم لا تفقد الأمل ، بل تكون دافعاً للعمل و محاولة إدراك الجمال/الكمال في أدب الرمز الراقي ، و إن كانت النصوص أناشيد نترنم بها وسط الخاصة من الشعوب و مع العموم
و اللغة الشعرية عند "السرساوي" تفتح آفاقاً واسعة للأناشيد و عوالم جديدة للقصص الشعبي ،
و كما أشارت نصوص المجموعة إلى الماضي و الحاضر و استشرفت المستقبل ، فلقد أشارت كذلك إلى تداخل التوقيتات اليومية والفصول و الانفعالات الشعورية ، و تعاون المرأة و الرجل في رسم صورة حيَّة لتشكيل التجديد الإبداعي ،
و تُفجّرُ مثل هذه النصوص إشكاليات مُدهشة في قلب الإنسان المُلْهَم
و من النصوص التي تنوّعت الموسيقى الشعرية فيها نشيد "وردة ف نار" ، ويبدو أن الشيخ عبدالمنعم السرساوي ليس دارساً لتفاعيل الشعر ، و إنما هو يكتب على إيقاع في أذنه ، ويُساعده في ذلك علم التجويد الذي تربى عليه من حيث مخارج الحروف السليمة ، مِمّا كان عوناً له في كتابة الأناشيد ، و لا يهتم بالإعراب قدر اهتمامه بعذوبة اللحن و نقاء الأداء ، ولذلك كتب شعره بالعامية المصرية
و هنا .. ، وعلى نفس السياق أؤكد أن هذه المجموعة من الأناشيد و التي حملتْ عنوان "باسم الله" من أهم الإصدارات التي تعنى بالتراث ، وإحيائه ، و تتسم بالحب في الذات الإلهية ، ولا تغفل أمور الأسرة و الأحبة و القضايا القومية و تكمنُ رسالتها في قلْبِ شفرة الأناشيد الدينية .