جمع المخنث السّالم و جمع المسترجل السّالم
(أو المقالة الانشطارية للدفاع عن اللغة العربية في الجزائر)
الجزء الأول
1- في البدء:إن الغراب و كان يمشي مشيـة = فيما مضى من سالف الأجيال
لا أعرف،ـ فيما اطلعت عليه، لغة من لغات العالم قديمها و حديثها، الميتة منها و الحية، تعرضت للعداء و الخصومة و المحاربة كاللغة العربية، و لعل السبب المباشر لهذه المحاربة و تلك الخصومة و ذلك العداء أنها لغة ترتبط ارتباطا وثيقا بالإسلام الحنيف و قبله بالقرآن الشريف، إذ لا يجوز فصل أحد هذه الأركان الثلاثة عن أخويه دون إلحاق الضرر بهما كذلك، و لو كانت بلا علاقة مع القرآن و الإسلام لتركت لحالها أو ربما عني بها كما عني باللغات الأخرى الحية منها و الميتة، و مادام أولئك الأعداء و الخصوم عاجزين عن تحطيم الإسلام العتيد مباشرة، و قد حاولوا و يحاولون دائما، و ماداموا عاجزين كذلك عن إبعاد المسلمين عن القرآن المجيد، لم يبق لهم إذن سوى اللغة العربية يحاربونها و يعادون أهلها عساهم بطول الأمد و توفير العدد أن يصلوا إلى غاياتهم و يحققوا أهدافهم فيضروا بالقرآن و يضربوا الإسلام غير مباشرة عن طريق محاربة اللغة العربية فاللغة هي الثور الأبيض الذي يجب أكله أولا لكن هيهات، هيهات لما يمكرون!
2) وصف العربية:
اللغة العربية بحر واسع عميق بل محيط شاسع سحيق، هذه حقيقة يعترف بها كل من درس العربية دراسة جادة مستبصرة متأملة غير واقفة عند حروفها و حوافها، و يقر بها أيضا من خاض غمارها و غاص في أعماقها باحثا عن خباياها مستكشفا خفاياها سواء أكان الدارس من العرب أو من غيرهم من الأمم ممن تجردوا للحق و لم يعمهم التعصب المقيت و لم يصمهم الحقد البغيض فوجدوا فيها ما ينطق الحمائم الشجية و ما يسكت البهائم الجشية بفصاحتها و بيانها و خصائصها، فكم من أعجمي أغتم غير فصيح صار حجة في العربية يستفتيه العرب فيها و يسترشدون بقوله بل إنهم لا يقطعون فيها برأي إلا بحكمه لما سحرته هذه اللغة و أسرته بقدرتها على التعبير عن خوالج الخاطر و هواجس النفس، ألم يكن في لسان سيبويه إمام النحاة الفارسي الأصل حبسة لا يستطيع الإفصاح بسببها؟
تأملت هذه اللغة العظيمة، وأنا العاشق لها الولهان بها، فتعجبت من سعتها و عمقها، فهي واسعة حتى أن المحيط الهادئ ليبدو إزاءها بركة صغيرة حقيرة، وهي عميقة حتى أن جب المارياناس (شرق جزر الفلبين) ليبدو بجانبها كالفنجان الضئيل أو كالقدح التافه! و تذكرت قول شاعر النيل حافظ إبراهيم، رحمه الله، على لسان العربية إذ قالت:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن = فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
فصدقته عن معرفة و أيدته عن قناعة و لم أكرر قوله عن هواية فكتبت هذه المقالة عن دراية.
3) أعداء اللغة العربية:
و تعجبت من أولئك الذين يعادون اللغة العربية من أبناء العرب و هم بها جهلة و لادعاءات الخصوم نقلة، كيف يصدق فيهم المثل السائر"الناس أعداء ما جهلوا" و عجبت منهم كيف يرغبون الناس عنها بدلا من ترغيبهم فيها، و عدت إلى نفسي و قلت:"كيف يرغبون الناس فيها و هم لها أعداء و لأصحابها خصماء؟ و قد تنكروا للغتهم و راحوا يتمسحون بأهداب لغة أخرى لا تطال العربية لا في سعتها و لا في عمقها، لغة استعار أهلها من العربية مفردات لا تكاد تحصى أو تعد؟" و ما عساني أن أقول عن هؤلاء القوم سوى أنهم يهرفون بما لا يعرفون عن لغة غيرهم و ينقلون مزاعم الناس عن لغتهم الأصلية كأنهم رجع الصدى أو كأنهم في الماء القذى، أو أنهم قد بلغوا من الصغار مبلغا لا يحسدهم عليه امرؤ يملك ذرة من العقل و ذرتين من الكرامة، أي امرؤ يحافظ على ماء وجهه، و إن إنسانا بدون ماء وجه هو و المهانة سيان، بل هو المهانة نفسها تحركها رجلان!
و قد خاصم العربية صنفان من الناس، فأما الأول منهما فهم خصومها من أبناء العرب، و هم المستلبون حضاريا و المستغربون ثقافيا، و هؤلاء لا يزالون يعانون من عقابيل الاستعمار الذي رحل عن أرضهم لكن آثاره لا تزال حاضرة في نفوسهم و بادية على ألسنتهم، و هم الذين رباهم الاستعمار على عينه، فهو يرعاهم و يحميهم، و من مظاهر حمايته لهم دفاعه عنهم و تكريمه إياهم و التكفل بهم ماديا و معنويا تعليما و تثقيفا و توظيفا، و يكفي هؤلاء معرة أنهم ينتسبون إلى غير قومهم و يلحقون أنفسهم بغير آبائهم شأنهم في هذا كله كشأن الأدعياء اللصقاء، و أما الصنف الثاني فهم خصومها من غير أبنائها، فهؤلاء خصوم طبيعيون و أعداء تقليديون، عداؤهم للعربية و للعرب غريزة فيهم أو هو في حكم الغريزة لتأصله و حدته، و هؤلاء لا كلام لي عنهم و لا معهم إلا إذا ظهرت عليهم بوادر الإنصاف، فهنالك يكون لنا معهم شأن آخر فلكل حدث حديث و لكل تصرف موقف و لكل سلوك مسلك.
4) ألوان الجموع في اللغة العربية:
إن ما يشد دارس اللغة العربية لكثير فيها، و قد شدني إليها قدرتها على تلبس الحالات التي تعرض للإنسان في الحياة كلها، سواء في تعامله مع عالمه أو مع باقي العلمين، و إنها لتخص كل معنى مبنى حتى قال علماؤها: "الزيادة في المبنى زيادة في المعنى". و تأملت أنواع الجموع فقط، فتعجبت لعدتها و كثرة أوزانـها و تنوع صيغـها (1)، فهناك جمع المذكر السالم و الملحق به، و جمع المؤنث السالم و الملحق به، و جموع التكسير بجموع القلة (أربعة أبنية) و جموع الكثرة (ثلاثة و عشرون بناء) و جمع الجمع، و منتهى الجموع (اثنا و عشرون وزنا) إضافة إلى الجموع النادرة و الشاذة (واحد و ثلاثون وزنا بل تزيد) و هناك اسم الجمع، و اسم الجنس الجمعي، واسم الجنس الإفرادي...إلهي! ما هذا كله؟ هذه الجموع وحدها فقط فما بالي بباقي اللغة العربية بخصائصها في نثرها و نظمها، و بترادفها و تضادها و مشتركها و إلحاقها و بحذفها و استغنائها و إتباعها و جوارها، وفي نحوها و صرفها و بلاغتها بيانا و معاني و بديعا ؟! ثم يأتي جاهل يدعي المعرفة فيقول إن اللغة العربية لغة ميتة لا تصلح إلا للمتاحف؟ فإن لم يكن هو الميت فعلا لتفسخه ثقافيا و انحلاله إنسانيا فهو في حكم الميت بجهله المركب لأنه لا يدري و لا يدري أنه لا يدري، و الجهل أخو الموت! إن اللغة العربية لغة حية و فيها حياة الأمم و الحضارات، و إن تعلمها ليزيد في المروءة و فيه رفعة للهمم.
5) جمعان جديدان:
تأملت حال الناس اليوم و تنوعهم و اختلافهم شكلا و مضمونا، و رأيت أن العربية قد وسعتهم لفظا و معنى، و قد لاحظت فشو بعض الأجناس التي كانت نادرة في وقت ما، و كانت تعتبر شذوذا في المجتمعات، و الشاذ يحفظ و لا يقاس عليه كما يقول أهل اللغة، أما اليوم فقد جعل منها انتشارها ظواهر عادية أو هي في حكم العادي، قد تبدو كأنها الأصل المطرد و غيرها الشاذ النادر فتألّمت ! و وددت لو أنني أجد في اللغة العربية جموعا لتلك الأجناس تدل بمبانيها على معانيها، أو تشير بصيغها إلى صورها، و من تلك الأجناس جنس المخنثين و هم المتشبهون بالنساء من الرجال، و جنس المسترجلات و هن المتشبهات بالرجال من النساء و لاسيما في أوساط المثقفين و أشباههم عندنا ! و أخذت أفكر في ذلك الصنف من الذكور الذين يشبهون الرجال و ليسوا رجالا، كيف يمسخون أنفسهم جنسا لا هو بجنسهم الأصلي و لا هو بالجنس الذي يحاولون الدخول فيه و اللحاق به، فأصبحوا بين هذا و ذاك كالغراب الذي حاول تقليد القطاة (نوع من الحمام البري) في مشيتها فأضل مشيته و أخطأ مشيها و صار معروفا بمشيته المضطربة المميزة له بين مشيات الطيور الأخرى، كما قيل :
حسد القطا و أراد يمشي مشيها = فأصــابه ضرب من العقال
فـأضل مشيته و أخطأ مشيهـا = فــلذلك كنّوه "أبا مرقـال"
و إن حال الغراب في نظري لأهون بكثير من حال أولئك حيث لم يغير جنسه إلى جنس القطاة بل ما حاول إلا تقليد مشيتها فقط، فهو بهذا لأعقل منهم و أرشد!
و ذلك الصنف من النساء اللواتي تجردن من أنوثتهن تجردَهن من قمصانهن فصرن جنسا مأفونا ازددن نقصا إلى نقصهن، بل صرن جنسا معفونا تعافه النساء الحقيقيات قبل الرجال.
و رحت أطلق العنان لخيالي و قلت في نفسي:" لو سألت اللغة العربية عن ألفاظ تكون جموعا لهذين الجنسين لعلي أجد عندها بغيتي!"
فقصدت مجلسها العامر و كان مُغتصًّا بالعلماء و الباحثين و المحبين العاشقين مثلي، و كانت هي تتصدر المجمع الكريم مستوية على عرشها الملكي في كمال و جلال جميلة أنيقة يعلو محياها السمح طمأنينة الثقة في النفس و سكينة الأنس بالجلساء، و رغم ذلك كله كان في عينيها النجلاوين مسحة من الحزن الدفين المكظوم و المفهوم، فلما رأيتها في أزهى حلة و أبهى خلة جرأتني بشاشتها على مساءلتها بعدما حييتها بأدب و قدمت لها فروض الولاء و الوفاء قائلا:
- كيف تجمعين، يا سيدتي، المخنثين من المثقفين؟
فأجابتني عفوا و هي تبتسم ابتسام الأم الرءوم : المثقفونات!
فقلت لها متعجبا : ما هذا الجمع الغريب؟
فقالت و هي تضحك : إنه جمع المخنث السالم!
فضحكت لضحكها، ثم قلت بعدما استهواني الفضول و راق لي الحديث : و كيف تجمعين المسترجلات من المثقفات؟
قالت : المثقفاتون!
فقلت لها : و ما هذا الجمع الآخر؟
قالت : هو جمع المسترجل السالم! و ضحكنا معا هذه المرة و استأذنتها إذ راق لي المقام و أغراني تواضعها على إتمام مقالتي هذه عندها فأذنت لي كريمة و هذه حالها.
إنني أعتذر إلى اللغة العربية و إلى علمائها الغُيُرِعلى هذه الجرأة إذ أنطقتها بما ليس فيها، و ما قصدت إلا ممازحتهم و التنادر على أولئك الممسوخين فكرا و ثقافة و الذين تنكروا لجنسهم فما بلغوا قصدهم و لا هم حفظوا أصلهم، و قد سبقني إلى هذا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله تعالى، ريئس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وقته و خليفة الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى، حيث تنادربالمخنثين في أحد مجالسه الأدبية فصاغ الجمع الأول و نسجت على منواله و قفوت أثره في طريقته، و تقليد الكرام فلاح، فصغت الجمع الثاني، و بعد هذه الفذلكة الطريفة يتبادر إلى ذهني حقيقة أخرى و هي إن كانت اللغة العربية قادرة على صنع النوادر و اختراع المُلح (جمع مُلحة) في المزاح المباح فهي على صنع الأسماء في العلوم و المخترعات أقدر، و قد وسعت كتاب الله لفظا و غاية فكيف تعجز عن وصف آلة أو تنسيق أسماء لمخترعات؟ على حد قول حافظ إبراهيم رحمه الله.
6) مسوخ ثقافية:
ورد على ذهني و أنا بصدد الحديث عن المخنثين و المسترجلات خاطر سانح عن أولئك الجزائريين المثقفين (؟!) الذين أصلهم عربي و لسانهم عربي و لغة وطنهم الرسمية العربية، و مع هذا كله تراهم يتكلمون بلغة يوحنا مريم لوبان (جان ماري لوبان)، إنني أذكر هنا هذا الشخص المقيت لأنه يمثل أبشع صور التمييز العنصري الحاقد المعاصر، و بغضه للأجانب عموما و للعرب خصوصا جعل منه مثلا يضرب و لا أذكره لذاته فهو أتفه من أن يقدر و أحقر من أن يعبر فيذكر في مثل هذه المقالة، أقول كأن أولئك الممسوخين يبتغون التشبه به في لغته و عنصريته و بغضه للعرب، و تراهم نصبوا أنفسهم دعاة للتفرنس كأن بينهم و بين فرنسا نسبا أو رحما، و وجه الشبه بين أولئك المخنثين و المسترجلات و بين هؤلاء المتفرنسين يكمن في محاولتهم الخروج عن الفطرة التي فطروا عليها إلى حالة أخرى مخالفة للطبيعة و مناقضة لها، فلا هم بقوا على فطرتهم و لا هم استطاعوا إدراك غايتهم، و إن أولئك يمارسون "الترافيستيزم" الجنسي (التخنث و الترجل) و هؤلاء سقطوا في "الترافيستيزم" الثقافي و اللغوي دون شعور منهم أو بشعور، و "الترافيستيزم" في أصله تزييف للحق و تشويه للحقائق و مسخ للفطر! هذا و إن الكلام جاء هنا عرضا و الحديث ذو شجون كما يقال و لم أقصد إليه قصدا إنما القصد ما يأتي بعد حين.
(يتبع)