سطوة الخطاب الديني وتمظهر الصراع الحضاري بين الأنا والآخر في رواية "عمر يظهر في القدس" 3-3
رابعا ـ حضارة الآخر/اليهودي :لقد كان للتقدم المذهل الذي وضع في يدي الآخر إمكانية تشكيل العالم وإعادة ترتيبه بما يتناسب مع مصالحه الذاتية،لاسيما من خلال وسائل الاتصال الحديثة التي عملت على التشكيك بأهمية القيم السائدة،بل عملت على نسفها باعتبارها قيما بالية لا تتماشى والتقدم والرقي ؛وأولى هذه القيم هي العقيدة التي يفتقد إليها الآخر/اليهودي،إذ أن التوراة قد أخضعت للتحريف والتزييف من طرف اليهود القدامى"لكن أين التوراة الحقيقية ؟؟لقد أضاعها أحباركم، ثم مسخوا كلمات الله،واخترعوا أقوالا ما أنزلها الله ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ،ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الَّلهِ،فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمُ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) ولم ينج الإنجيل كذلك من العبث وأهواء المنحرفين"(46). ليس هذا فحسب، بل إنهم لا يؤمنون بالتوراة إلا بما يخدم مصالحهم الشخصية الضيقة،فهذه الفتاة اليهودية (راشيل ) تقول لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ " لا أشعر بقيد واحد من قيود الدين،كل ما يهمني من التوراة أنها تجاوبت مع آمالنا السياسية في الوطن والخلاص...وماعدا ذلك فلا أؤمن بشيء.."(47).وعليه فإنه إذا لم تكن هناك عقيدة تنظم حياة هذا الآخر/ اليهودي فإنه لا توجد أيضا قيم أخلاقية سوية تربط بين أفراد هذا المجتمع،وهذا ما يظهر في مشهد اليهوديين( راشيل ) و( إيلي ) اللذين يمارسان طقوس الحب على مرأى من الناس دون خجل و لا حياء ،وقد أبصرهما عمر ـ رضي الله عنه ـ فلم يعجب من ذلك لأنه يعرف طبائع اليهود وسلوكياتهم ، فقال :" يهوديان ؟؟لم تتغير طبائعهم منذ قديم الزمان ،كانوا بالأمس يستترون في بيوت الدعارة والمجون واليوم ينشرون فسقهم علانية..."(48).إن ماضي اليهود كحاضرهم مليء بالدناءة والغدر والحيلة والنفاق،لذلك يقول (هتلر) في كتابه (كفاحي) واصفا اليهود:" إن قذارتهم المادية ليست شيئا مذكورا بالنسبة إلى قذارة نفوسهم،فقد اكتشفت مع الأيام أنه ما من فعل مغاير للأخلاق وما من جريمة في حق المجتمع إلا ولليهود يد فيها واستطعت أن أقيس مدى تأثير (الشعب المختار ) في تسميم أفكار الشعب الألماني وتخديره،وشل حيويته، وبتتبعي نشاطه في الصحف وفي ميادين الفنون والأدب والتمثيل، فقد امتد الإخطبوط اليهودي إلى هذه الميادين جميعا وفرض سيطرته عليها، وسمها بطابعه، فمعظم المؤلفين يهود ومثلهم الناشرون والفنانون...وهذا التغلغل في كل ميدان من ميادين النشاط التوجيهي يشكل طاعونا خلقيا أدهى من الطاعون الأسود وأشد فتكا، ذلك أن تسعة أعشار المؤلفات والنشرات والمسرحيات واللوحات الفنية التي تروج للإباحية المطلقة هي من صنع اليهود "(49). هذا ما قاله هتلر عن اليهود ولا أظنه مخطئا فيما قال؛ إذ أن من أهم طبائع اليهود الإغراء بالمال والجنس والملذات ونشر الأفكار الهدامة للأخلاق ،فقد حرصوا على هدم أركان الأسرة وهَدّ قواعد الأخلاق وأسس الدين وإشاعة الأدب المريض لإفساد الناس، فهم يروجون لكل قلم يمجدهم ويساعد على الفساد ،جاء في البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون "..ومن المسيحيين أناس قد أضلتهم الخمرة وانقلب شبانهم مجانين بالكلاسيكيات والمجون المبكر الذي أغراهم به وكلاؤنا ومعلمونا وخدمنا وقهرماناتنا في البيوت الغنية وكتابنا ومن إليهم ونساؤنا في أماكن لهوهم،وإليهن أضيف من يُسَمَيْنَ ( نساء المجتمع ) والراغبات من زملائهم في الفساد والترف ...يجب أن يكون شعارنا كل (وسائل العنف والخديعة).."(50). فالآخر/اليهودي فاسد العقيدة,معدم الأخلاق،فلا نستغرب إذن عندما نكتشف أنهم يعيشون الطبقية فيما بينهم،وهذا ما تجسده الرواية ؛حيث تجدهم قسمين: يهودا شرقيين فقراء ويهودا غربيين أغنياء،وكل طبقة تعيش في حي خاص بها في القدس؛فعائلة (راشيل) تعيش غير راضية على وضعها حيث تقترح عليها كتابة مذكراتها لشيوع قصتها مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من أجل الكسب المادي :" أرى أن تكتب راشيل مذكراتها وتبيعها لكبريات الصحف ، وتجني من ورائها ربحا كثيرا "(51). إنها قمة الفكر النفعي اليهودي القائم على المصالح الخاصة حتى لو كان ذلك بين الأب وابنته أو بين الأم وابنتها،إن الحياة عندهم تنحصر في ماديتها ولا مكان فيها للأخلاق فهذا والد (راشيل) يذهب بعيدا ويقترح على ابنته الزواج من عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ولو كان ذلك لوقت قصير ،معتبرا (عمر) كنزا ثمينا وصيدا وفيرا :" ألا تسطعين الزواج منه ولو لفترة قصيرة.؟ آه لو أمكن ذلك لبلغت شأوا عظيما، ولدرجنا على بساط من ذهب "(52). وفوق هذا وذاك ،فإن اليهود لا يريدون امتلاك قطعة أرض من فلسطين والاكتفاء بذلك،بل إنهم يسعون جادين جاهدين للامتلاك والسيطرة على العالم العربي كله، متخذين بذلك تفوقهم على الأنا سبيلا لتحقيق هدفهم هذا؛فقد انتهج اليهود طريقا واحدا للتضييق على العرب والتخلص منهم وهو طريق كله وحشية وقسوة، إنها خطة نسف المدن والقرى وهدم أبنية العرب إمعانا منهم في التضييق عليهم، وإجبارهم على ترك البلاد، مثل نسف قرية (إفرت ) قرب الحدود اللبنانية وقرية ( كفر برعم ) وقرية (الريحانية) .يقول الكاتب اليهودي ( هال لهرمان ) في مقال له نشرته مجلة (الكومنتري) الأمريكية : "..إن الجندي الإسرائيلي كان قاسيا في معاملته بلا ريب حتى مع غير المحاربين من العرب إذ نجد كثيرا من القرى العربية التي تهدمت بفعل الديناميت وقد هجرها أهلها وهي قرى لم تمسها الحرب،قد دخلها اليهود وحطموها، ويظهر أن اليهود حيثما شعروا بهجرة العرب تمادوا في تخريبهم ليتأكدوا من أن العرب لن يعودوا إليها"(53) . ولعل شخصية (دافيد حاييم) ـ وهو أحد شخصيات الرواية ـ أكبر نموذج لذلك ؛ إنه مريض بهوس السيطرة على العالم كله بما في ذلك حلفاء اليهود أنفسهم "... ولا يكتفي بدولة إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات ، وتذهب جنوبا حتى تشمل أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية .. لا.. أحلامه أكبر من ذلك بكثير ، إن عقيدته هي أن تكون السيطرة الصهيونية على العالم كله، لقد قرأ بروتوكولات حكماء صهيون ، وتأثر بالكثير منها "(54). وهذه الرؤية تتفق مع ما جاء في البروتوكول الثالث من بروتوكولات حكماء صهيون الذي ورد فيه "...أستطيع اليوم أن أؤكد لكم أننا على مدى خطوات قليلة من هدفنا، ولم تبق إلا مسافة قصيرة كي تتم الأفعى الرمزية ـ شعار شعبنا ـ دورتها ، وحينما تغلق هذه الدائرة ستكون كل دول أوروبا محصورة فيه بأغلال لا تكسر " (55) . وقد سعى الآخر/اليهودي إلى امتلاك القوة العلمية و التكنولوجية والسياسة والاقتصاد .وعلى هذا الأساس تعمقت الهوة بين الأنا / المسلم والآخر / اليهودي الممتلك للحاضر بما يملك من أسلحة عصرية تعمل على تدمير الأنا / المسلم و هو موقف ليس فيه صالح البشرية جمعاء وليس العرب وحدهم ؛ فالشراذم اليهودية جن جنونها بالاستعداد للحرب في كل لحظة حتى ملكت أفتك الأسلحة واخترعت أخطر القنابل والراجمات،ومنها القنبلة الذرية المحرم تصنيعها على الأنا/ المسلم وقد لجأت هذه العصابات الخبيثة عن طريق القوات المسلحة اليهودية إلى الاعتداءات المتكررة على السكان العرب بالضرب والتعذيب و التقتيل والنفي والتشريد ، وتغطرست في هوس وجنون ، فداست على كرامة الأنا / المسلم وقداسته ، وهودت الأرض وابتلعت المسجد الأقصى وسط ولولة الأنا / المسلم وعويله وصراخه المكتوم الذي لا حول له ولا قوة ، فأصبح يعيش في شقاء وتعاسة على أرض أجداده ويقول في حزن وأسى: " القدس تحت نيران الاحتلال .. أخذوا القدس القديمة هي الأخرى, القدس العربية في نكبة (حزيران )، دورياتهم تجوب الشوارع وتقف على نواصي الحارات وتراقب المارة ،وتفتش السيارات، لا يفلت منهم أحد ، حتى النسوة والأطفال والعجائز ، تغيرت الدنيا ، وظاهرتهم أمريكا...العار يفرخ في أرضنا التعسة منذ سنين ..."(56). وقد بلغ من وحشية اليهود في هذه الأعمال الفظيعة ( التتارية ) حتى أن الصحف اليهودية اعترفت بوقوعها ، ذكرت جريدة ( كول هاعام ) اليهودية في عددها الصادر في أول سبتمبر عام 1953م " إن السلطات اليهودية أعدمت ستة عشر شابا من قرية (عيبلون) برصاص الرشاشات بعد أن اختارتهم من بين ذكور القرية وأَجْلَتْ سائر الشباب من القرية وطردتهم عبر الحدود اللبنانية ولم يبق في القرية غير الشيوخ والعجزة ، وقد أحرق الجنود اليهود عائلة ( آل زريق ) من نفس القرية داخل بيتها إرهابا لسائر السكان وترويعا لهم لحملهم على الخروج من البلد "(57).هذا غيض من فيض ـ كما يقال ـ ندرك من خلاله أن حضارة الآخر/اليهودي عكس حضارة الأنا/المسلم التي تسعى إلى ضمان حياة آمنة وسعيدة للبشرية؛ فالحضارة الإسلامية تقوم على أساس النقيض للحضارة الغربية حضارة / الآخر وتصويرها للحياة غير تصوير الحضارة الغربية لها،ومفهوم السعادة فيها مختلف عن مفهومها في الحضارة الغربية كل الاختلاف؛فالحضارة الإسلامية تقوم على أساس الإيمان بالله، وأنه جعل للكون وللإنسان وللحياة نظاما خاصا تسير بموجبه ولا تحيد عنه.وقد أرسل الله سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإسلام دينا ينظم حياة كل الناس ، أما تصوير الحياة في الحضارة الإسلامية ، فإنه يتمثل في فلسفة الإسلام التي انبثقت عن العقيدة الإسلامية والتي تقوم عليها الحياة وأعمال الإنسان ، هذه الفلسفة " التي هي مزج المادة بالروح أي جعل الأعمال مسيرة بأوامر الله ونواهيه هي الأساس لتصوير الحياة ، فالعمل الإنساني مادة وإدراك الإنسان صلته بالله هي القيام بالعمل، ومن كون هذا العمل حلالا أو حراما ، هو الروح ، فحصل بذلك مزج المادة بالروح "(58). أما الحضارة الغربية فتقوم على أساس فصل الدين عن الحياة, وعلى هذا الأساس قامت الحياة وقام نظام الحياة ، أما تصويرها للحياة فهو يقوم على المنفعة ولذلك كانت السعادة عندهم إعطاء الإنسان أكبر قسط من المتعة الجسدية.وكذلك الحضارة اليهودية التي بنيت على أسس من النفاق والتدجيل الفكري والادعاءات المغرضة وتزوير حقائق التاريخ والنظرة العدائية للغير، وهذا ما نجده في البروتوكول السابع من بروتوكولات حكماء صهيون " في كل أوروبا وبمساعدة أوروبا يجب أن ننشر في سائر الأقطار والمنازعات والعداوات المتبادلة ، فإن في هذه فائدة مزدوجة : فأما أولا فبهذه الوسائل سنتحكم في أقدار كل الأقطار التي تعرف حق المعرفة أن لنا القدرة على خلق الاضطرابات ، مع قدرتنا على إعادة النظام، وكل البلاد معتادة على أن تنظر إلينا مستغيثة عند إلحاح الضرورة متى لزم الأمر.وأما ثانيا فبالمكايد والدسائس ، سوف نصطاد بكل أحابيلنا وشباكنا التي نصبناها في وزارات جميع الحكومات ، ولم نحبكها بسياستنا فحسب ، بل بالاتفاقات الصناعية والخدمات المالية أيضا"(59). كما أن حضارتهم حضارة ملؤها العصبية والطبقية حتى فيما بينهم ، و هذا ما نلمسه في الرواية حيث قال ضابط الأمن الكبير لرفاقه: " راشيل جرثومة فساد في مجتمعنا الإسرائيلي وستسبب لنا كثيرا من المتاعب..لا خلاص منها إلا بالموت .. أجل..الموت..هؤلاء اليهود الشرقيين حقراء .."(60).ويصدق عليهم قوله تعالىلاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فيِ قُرَى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُوْن) (سورة الحشر، الآية 14 ).وخلاصة القول ، أن حضارة اليهود حضارة فساد " فنرى اليهود في دولتهم يرتكبون أفظع الجرائم بحيث فاقوا كل أنواع العذاب التي عانوا منها في زعمهم أو عناه غيرهم ، لذلك يحذرهم الله فيقول لهم (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا). وهم قد أساءوا فقتلوا النفس الإنسانية وعذبوها ويتموا الأطفال وسجنوا النساء وهدموا البيوت واغتصبوا الأرض وأقاموا المستعمرات ، وحرقوا الأقصى في 1969/8/21 . والأقصى عند الله عظيم ، ودنسوا مسجد الخليل عليه السلام والخليل عند الله هو الخليل، وارتكبوا جريمة الجرائم في مسجد الخليل يوم أن عمدوا إلى كتاب الله ،القرآن العظيم فمزقوه وداسوه " (61).ــــــــــــــــــالهوامش:46 ـ المصدر نفسه ، ص 86.47 ـ المصدر نفسه ، ص85 .48 ـ المصدر نفسه , ص21 .49 ـ النقاش , رجاء ، محمود درويش شاعر الأرض المحتلة ، الطبعة الثالثة , المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت ، تشرين الثاني ,1972 ، ص 255.50 ـ التونسي , محمد خليفة ، الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون) ، الطبعة الخامسة، دار الكتاب العربي ، بيروت, لبنان,1980 ،ص 109.51 ـ الكيلاني , نجيب ، عمر يظهر في القدس ، ص 127.52 ـ المصدر نفسه ، ص 130.53 ـ عبد المنعم , محمد فيصل ، فلسطين قلب العروبة ، سلسلة ( اقرأ ) رقم 295 ، دار المعارف ، القاهرة, مصر، يوليو1967 , ص120 .52 ـ الكيلاني , نجيب ، المصدر السابق ، ص 215.55 ـ التونسي , محمد خليفة ، المرجع السابق ، ص114 .56 ـ الكيلاني , نجيب ، المصدر نفسه ، ص14 .57 ـ عبد المنعم , محمد فيصل ، المرجع السابق ، ص 121.58 ـ الشطشاط , علي حسن ، المرجع السابق ، ص 16.59 ـ التونسي , محمد خليفة ، المرجع السابق ، ص 127.60 ـ الكيلاني , نجيب ، المصدر السابق ، ص 261 .61 ـ التميمي , أسعد بيوض ، الإسراء وفلسطين ودولة اليهود ، مجلة البحوث الإسلامية ، المجلد الأول ، العدد الرابع ، المطابع الأهلية , الرياض , المملكة العربية السعودية:, محرم 1398هـ /1977 م , ص 249 .