بقلم: حازم خيري - مصر
hnnkhairy@yahoo.com
لقد
قيل لي ليس هذا وقت هذه المحاورة ولا مكانها، ويبدو أن الوقت المناسب لأي شيء والمكان المناسب لأي شيء لا وجود لهما على الإطلاق .. ولذلك قررت ـ منذ عدت للكتابة ـ أن أقول ما أريد وقتما أريد وأينما أريد ولو في إمساكية شهر رمضان وليأت الوقت أو لا يأتي سيان!
رحلتي مع أدونيس(*)
بقلم: نجيب سرور
إعداد: حازم خيري
"ولذلك قررت ـ منذ عدت للكتابة ـ أن أقول
ما أريد وقتما أريد وأينما أريد ولو في إمساكية
شهر رمضان وليأت الوقت أو لا يأتي سيان!"
ن.س
تنويه:
في أعداد سابقة من "الكاتب" رأينا نموذجاً من دواوين الشعر التي تهيلها المطابع على الساحة العربية تحت شعارات ورايات التجديد والغضب والتمرد والثورة الخ .. وذلك من خلال ديوان "شهادة البكاء في زمن الضحك" لعفيفي مطر. وهنا نتعرف على بعض المنطلقات الفكرية التي تصدر عنها تلك الموجه بالرغم من إصرار ركابها الأصليين والتابعين على التبرؤ من كل فكر وادعائهم التجاوز والتجرد والتعالي! وسنأخذ نموذجاً لذلك كتاب "الثابت والمتحول" لأدونيس وهو رسالة قُدمت إلى معهد الآداب الشرقية في جامعة القديس يوسف ببيروت لنيل الدكتوراه في الأدب العربي! .. ويعتبر المانفيستو الذي يدين به عدد كبير من الشعراء والنقاد العرب الناشئين والشباب أتباع موجة "التجديد" وإن كنت أؤكد أن أغلبهم اكتفى بقراءة شعر أدونيس دون أفكاره "التنظيرية" وأن القلة القليلة لم تقرأ تنظيراته قراءة جادة متأنية أو قرأتها ولم تحسن فهمها ولم تحاول أن تقرن بين تنظيراته وتطبيقاته الشعرية من خلال دواوينه التي تعمل أجهزة الطبع والنشر والتوزيع على فرضها فرضاً على القارئ العربي أسوة بساعات "ستيزن" و"سفن أب" وسائر المعبآت والمعلبات! .. ولقد قيل لي ليس هذا وقت هذه المحاورة ولا مكانها، ويبدو أن الوقت المناسب لأي شيء والمكان المناسب لأي شيء لا وجود لهما على الإطلاق .. ولذلك قررت ـ منذ عدت للكتابة ـ أن أقول ما أريد وقتما أريد وأينما أريد ولو في إمساكية شهر رمضان وليأت الوقت أو لا يأتي سيان!
الجزء الأول: بروتوكولات الثوابت والمتحولات!
**********
مقدمة تبشيرية: بحثت عن الشاعر أدونيس طويلاً بين دمشق وبيروت، وأخيراً دلني البعض على صالونه الوردي الوثير والجميل، وقد كدت أن أستعير الاسم الأسطوري "حوريس" على وزن "أدونيس" تيمناً بشاعرنا وجرياً على سنته وسنة المشاهير، ولكني عدلت عن ذلك لأسباب خاصة جداً أقلها التواضع! .. والمهم أنني ما كدت أصل إلى باب الصالون الوردي حتى أعطوني نشرة سرية قالوا أنهم لا يسمحون بالدخول إلا لمن يقرأها .. وإذا هي مقدمة كتبها الدكتور بولس نويا اليسوعي لكتاب "الثابت والمتحول"، توحي وتبشر بالكثير من الاحتمالات! وسنعود إليها مراراً في هذه المحاورة! .. وبادئ ذي أحب أن ألفت النظر إلى أن اليسوعية هي فرقة من الفرق الباطنية في المسيحية أسوة بالفرق الباطنية في الإسلام .. وسنكتشف أن لهذه الحقيقة أهمية كبرى في تبيان بواعث وأهداف بحث أدونيس في "الإتباع والإبداع" عند العرب، ومنهج ومقدمات ونتائج هذا البحث، ودوافعه القريبة والبعيدة والخفية والظاهرة والصريحة والمقنعة، خاصة وأن هناك كثيرين من البسطاء والسذج والمتواطئين في وطننا العربي ما يزالون يصرون على التفرقة بين الثالوث الجهنمي الماسونية ـ الصهيونية ـ اليهودية الأمر الذي كشفه وفضحه تفصيلاً أبو العلاء المعري منذ أكثر من ألف عام .. وربي اهد قومي فإنهم لا يعلمون! ..
والمهم أن الأب اليسوعي يصرح بفخر بأن تلميذه أدونيس قد حقق ببحثه هذا حلماً حلم به مرتين في شبابه! الأولى: "عندما قرأت كتاب الكاتب الفرنسي هنري بريمون عن الشعر المحض فتساءلت: هل يوجد شيء من ذلك في الشعر العربي، وكيف يمكن بحث هذا الموضوع بالنسبة إلى الشعراء العرب؟!" .. والثانية: "عندما قرأت تجليات الفكر ـ لهيجل ـ ..... فتساءلت: ماذا يا ترى سيكون كتاب عنوانه: تجليات الفكر العربي الإسلامي عبر تاريخه؟ وما طريقة كتابته؟ وهل يمكن أن نفهم شيئاً من التاريخ العربي الإسلامي إذا لم يكتب هذا الكتاب؟!
ومنذ السطور الأولى يسجل الأب اليسوعي لقاءه بالمستشرق "ماسينيون" وكيف غير هذا اللقاء مجرى حياته فترك الشعر وانصرف إلى التصوف والصوفية! .. والمعروف أن ماسينيون بالذات يفسر التاريخ عامة وتاريخ الفكر العربي والأدب العربي تفسيراً باطنياً! .. ولكن الذي يجب أن يُعرف منذ الآن هو أن جميع الفرق الباطنية في جميع المذاهب والأديان والملل والنحل بما في ذلك الفرق الصوفية هي محض أقنعة للثالوث الجهنمي الأخطبوطي الماسونية ـ الصهيونية ـ واليهودية! .. ولكن من يقرأ ومن يسمع؟! ما علينا! ..
الشعر المحض إذن هو ما حلم به الأب المحترم، والبحث عنه في الشعر العربي هو ما أخذه التلميذ "أدونيس" على عاتقه! .. الشعر ـ الشعر للشعر، في مقابل الشعر ـ الشعر للغير .. أو بتعبير الأب بولس: "الأنا الذات للذات، والأنا الذات للغير، أو الوعي الذاتي للذات والوعي الذاتي للعالم؟!"
فهل يمكن أن يكون هناك شعر محض؟!
وما يسمى كذلك اصطلاحاً أو مغالطة لدى دعاته ومنظريه وأنصاره هل هو فعلاً كذلك؟!
وهل يمكن أن تكون الأنا الذات للذات فحسب ولا صلة لها بالعالم؟
ثم هل يمكن أن تكون الأنا الذات للغير فحسب ولا صلة لها بالذات؟
وهل يمكن أن يكون هناك وعي ذاتي للذات في مقابل وعي ذاتي أيضا للعالم؟ .. وأين يذهب إذن الوعي الموضوعي لكل من الذات والعالم؟!
وهل ما سوف يكتشفه أدونيس في رحلته ـ مع الأب ـ من نماذج أو بوادر أو ظواهر أو استثناءات ـ كما نتوقع أو لا نتوقع ـ تؤكد وجود هذا النوع من الشعر في الأدب العربي كان فعلاً كذلك أم كان قريباً منه أم كان على العكس، أم أن الرؤية قد غامت أمام أدونيس فلم ير غير ما يصر أستاذه على أن يراه في التراث العربي الإسلامي؟!
إن الأب بولس اليسوعي يؤكد في مقدمته أن أدونيس وصل في ذلك إلى نتائج يعتبرها هو نهائية! في دراسة الشعر العربي. وهذا ـ مؤقتاً ـ أمر باعث على الطمأنينة والأمل في وقت يكاد يخنقنا فيه القنوط الثقافي والفكري والنقدي بحيث يراودنا ويلح علينا الانتحار لولا تمسكنا بالأمل في رحمة الله! ..
إن كانت الأحبار تعظم سبتها
فأخ البصيرة كل يوم مسبتُ
المهم أن أدونيس سيأخذ على عاتقه ـ بعد انجاز الرسالة ـ مهمة التبشير بالشعر المحض .. بالشعر للشعر، وأن الأب بولس داعي الدعاة يأمل في أن يضوي تحت جناح أدونيس جيل كامل من الشبان، وذلك حين يقول بالحرف:
"ولهذا أستطيع أن أقول إن معظم فصول أطروحتك إن لم يكن كل فصل منها يمكن أن يصبح منطلقاً لأبحاث أرجو أن يتفرغ لها كثير من الشباب تحت إشرافك وموجهين بتوجيهات منك. هذا فيما يخص صلب الأطروحة"!!
وقد حدث هذا فعلاً وتحقق رجاء الأب بولس في كل أنحاء الوطن العربي، وقامت الأجهزة غير الملوثة بدورها على أتم وجه ـ أقول غير الملوثة ـ وتحت وطأة التكرار والإلحاح والانتشار على طريقة "تعالى إلى حيث النكهة" اعتاد الكثيرون من الناشئين وأنصاف الموهوبين التدخين ليذهبوا إلى حيث النكهة حتى ولو لم يكن "نكهة" على الإطلاق، وكثر الأتباع والمريدون من الشعراء والنقاد .. ولا داعي لذكر الأسماء، حتى وصلنا إلى الشعر ـ الكهانة، أو انكهانة ـ الشعر على يدي الكاهن الصغير عفيفي مطر فيما سبق أن كتبناه بالأعداد السابقة من الكاتب(1)!!
والمبهج حقاً أن الأجهزة المشار إليها قد نشطت بشكل ملحوظ قبل وقبيل وإبان وبعد المتغيرات التى طرأت على الوطن العربي في الآونة الأخيرة، وقلبت كل شيء رأساً على عقب، وجعلت المتحولات ثوابت والثوابت متحولات وزرعت وطننا العربي بالمستوطنات الفكرية والنظرية والفلسفية والشعرية والنثرية والثقافية بعامة مما جعلنا ـ بحق ـ نعيش في عصر المبادرات الفكرية الشجاعة، في الوقت الذي تمت أو تتم فيه المصادرة على أفكار "الخونة" و"العملاء" و"الأبواق" و"الأتباع" وتتم فيه تصفيتهم حتى البدنية تأسيساً وتأصيلاً للديمقراطية وتمهيداً لسيادة القانون والحب والإخاء والأمن والسلام في ربوع الوطن العربي! ولكن هذا موضوع آخر يضيق النطاق عن الخوض فيه!
النقطة الهامة الثانية خاصة بمنهج البحث .. وواضح أن أدونيس سيلزم ـ بتحريض أستاذه ـ المنهج الهيجلي .. منهج المثالية الجدلية!!
والنقطة الثالثة في خلاف مفتعل بين الأستاذ والتلميذ حول دور الرؤيا الدينية في تغلب الإتباع في الشعر أو تسلط الذهنية الجاهلية على العالم العربي ـ بعد الإسلام ـ يقول الأب:
"لكن ربما لم تتوصل هذه الرؤيا(الصحيح هو الرؤية ـ ن.س) إلى فرض ما فرضته إلا لأنها صادفت في بنية الفكر العربي ما ساعدها على تحقيق ما حققته"! .. ولنا هنا بالذات وقفات!
1. الأب المحترم يسوق مسألة الرؤية الدينية هذه كمسلمة مع أنها محل جدل طويل، وسيأخذها التلميذ أدونيس كمسلمة المسلمات في رسالته أو بحثه أو كتابه، وذلك دون أن يفهم منها شيئاً إذا افترضنا حسن النية أو رغم فهمه لها إذا افترضنا التواطؤ!
2. الأب المحترم لا يطمع في مجرد إثبات "دور" الرؤية الدينية في تغلب الإتباع في التراث العربي، وإنما يتجاوز ذلك للطموح إلى إثبات أن السر كامن في بنية الفكر العربي .. أي طبيعة العقل العربي!
3. الأب المحترم يركز على وجه واحد من التراث العربي ويصر على عدم وضع الوجه الآخر ـ النقيض ـ في الحساب وذلك ليؤكد الطبيعة الغيبية في البنية الذهنية العربية .. مع أن للوجه الآخر رصيدا غنيا من المعارك والصراعات العلنية والسرية يعلمها الأب المحترم جيدا كما يعلمها ماسينيون، ورصيداً لا يحصى من الشهداء!
4. الأب المحترم يركز أيضاً على الوجه "الرسمي" للتراث العربي والأيديولوجيات العربية .. أي الوجه المرتبط بالسلطة علنياً أيضاً أو سرياً ـ فلكل سلطة فرقها وتنظيماتها السرية ـ بما في ذلك الفرق الصوفية ومع ذلك فقد كانت هناك دائما الفرق والتنظيمات غير الرسمية والحرب سجال كما يقولون!
5. كل ما سبق يفشي اعتقاد الأب المحترم بالفرق النوعي بين العقل العربي من ناحية والعقل غير العربي من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي يذكرنا برينان كما يذكرنا بيونج وعلم السلالات والأجناس البرجوازي العنصري، مما يوحي بميول عنصرية كامنة في وعي أو لاوعي الأب اليسوعي الصوفي!
6. سنرى كيف أن الأب المحترم يحاول في الظاهر أن ينتشل العقل العربي من الغيبية ليدفع به إلى غيبية أشد وأنكي خاصة إذا كانت الغيبية كامنة في بنية العقل العربي كقدر لا راد له!
7. هل كان العقل العربي غيبيا دائما فيما قبل الجاهلية وفي الجاهلية وفيما بعد الجاهلية؟! وهل يمكن تصور هذا؟ إن هذا ما تفضي إليه منطقيا مقدمات الأب المحترم!
8. هل خلا الفكر غير العربي يوما من الغيبية ـ من أقدم العصور حتى كتابة هذه السطور ـ مما يقوم دليلاً على تأصل البنية الغيبية فيه أسوة بالعقل العربي؟! إننا نعيش في القرن العشرين، ولكن ما أحفل هذا القرن بالمذاهب والفلسفات الغيبية بل لعله يفوق الجاهلية والعصور الوسطى في هذا المجال! دون أن يعني ذلك أن العقل غير العربي ذو بنية غيبية أو دينية!
على أن أخطر ما تضمنته المقدمة ـ وسنعود إليها كلما دعت الحاجة ـ هو قول الأب لتلميذه:
"ذكرت في الأطروحة أن التراث هو بمثابة الأب، ونحن نعلم منذ فرويد أن الابن لا يستطيع أن يكتسب حريته ويحقق شخصيته إلا إذا قتل أباه! .. على الإنسان العربي أن يميت تراث الماضي في صورة الأب لكي يستعيده في صورة الابن! حينئذ دون أن يخرج على دينه سيخلق تراثاً جديداً وحضارة جديدة يكونان تراث الحرية وحضارتها".
هذا يؤكد ما سبق أن قلناه من أن الأب المحترم يعتبر التراث العربي وحيد الجانب، مع أنه يعلم جيداً أن الأمر ليس كذلك، وأنه يتعمد أن يطمس الجانب الآخر ويحرض ابنه أو تلميذه أدونيس وأمثاله من الأبناء والتلاميذ ومريديهم وأتباعهم على أن يتولوا عنه هذه المهمة التنويرية التبشيرية الحضارية! .. إذن فهدف الأب ليس قتل التحفظات ـ لهان الأمر عليه وعلى أدونيس وعلينا، وإنما الهدف هو طمس وقتل وإحراق ودفن ونسيان الوجه الايجابي بالذات وهو الأمل الذي حلم به مرتين وترك لأدونيس أمر تحقيقه .. هو وأمثاله في جميع أرجاء الوطن العربي الكبير والحسير والمنكوب دائماً بأنواع ديدانيه من مثقفيه .. وخاصة من الشعراء!!
علي أننا لا نذهب حتى إلى القول بطمس وقتل وإحراق ودفن ونسيان الوجه السلبي للتراث العربي، فمهما كان من أمر هذا الوجه، ومهما كانت ملامحه بشعة وغيبية ومقززة ومخجلة، إلا أنه يظل الوجه الآخر لتراثنا، ويظل جزءا لا يتجزأ من محصلة هذا التراث، ويظل تقييمه موضوعيا وعلميا أمرا ضروريا لفهم الوجه الايجابي ذاته بطريق المقابلة والمقارنة، ويظل ضروريا لرصد مسارات الصراعات الفكرية على مر عصور هذا الصراع، وهذا يفيدنا كثيرا بالطبع في فهم الصراعات غير الفكرية على الساحات المتغيرة للتاريخ مما يلقي الضوء الكاشف على الصراعات الحاضرة أو المعاصرة في جميع الساحات، ومما يساعدنا على الوعي بذاتنا الوطنية والقومية، ومما هو ضروري ولا بديل له لإمكان فهم شخصيتنا واكتساب حريتنا، ومما ينير أمامنا وأمام أجيالنا اللاحقة الطريق إلى المستقبل ويجعلها قادرة على انجاز مهامها المعاصرة والقيام بمسئولياتها في المستقبلين القريب والبعيد!
أنظروا إلى الدعوة السوداء التي يوجهها الأب المحترم إلى الأبناء لكي يقتلوا آبائهم بأن يدوسوا تراثهم .. تراث الماضي .. محتجا بفرويد بالذات .. أي بالانشطار الثلاثي على الذات الفردية والوطنية والقومية!
وعلى الصعيدين الوطني والقومي نتساءل: كيف يمكن أن يكون قتل أو موت تراث الماضي، هذا التراث الذي هو ـ بسلبياته وإيجابياته معا ـ جزء لتحقيق الشخصية وبالتالي لإمكان اكتساب الحرية .. أقول كيف يمكن أن يكون قتل أو موت هذا التراث ضرورة وشرطاً لاكتساب الحرية وتحقيق الشخصية؟!
ثم على الصعيد الفردي أو الذاتي البحت، كيف يمكن أن يكون الانشطار على الذات بين الأنا الأعلى والأنا والهو ـ ثالوث فرويد الهرمي ـ ضرورة وشرطا لاكتساب الحرية، وتحقيق الشخصية؟! وأية حرية وأية شخصية تلك التي يمكن أن تكسبها أو تحققها ذات هرمية ممزقة تتنازعها قوى ودوافع تفوق قوى الغرائز وتفوق القوى الغيبية ولا راد لها ولا إمكان للتحكم فيها؟! وما عساه يكون فقدان الحرية وانعدام أو تمزق أو تبعثر الذات والحرية والشخصية إذا لم يكن هو بعينه ما يذهب إليه الأب المحترم ويحرض تلميذه وتلاميذ تلاميذه على الذهاب إليه؟!
وإذا افترضنا أن التلاميذ قاموا فعلا بقتل تراث الماضي في صورة الآباء .. فماذا يمكنهم أن يستعيدوا في صورة الأبناء؟! إن الاستعادة في ذاتها تعني الرجوع إلى الماضي .. إلى التراث .. إلى الآباء! .. فكيف يمكن استعادة شيء ثم قتله؟! إن الأب المحترم لا يقصد هذا ويبدو أن مرد اللبس أو التناقض هنا إلى عدم التوفيق في التعبير! فهل يقصد ـ وفقه الله ـ استعادة المستقبل؟ إذن فهو يهذي! .. ولكن الأب المحترم ـ رغم ذلك ـ ينصح الأبناء بقطع صلاتهم بالآباء .. بتراث الماضي كله .. الأرض والعرض والتاريخ الخ ليبدأ منذ الآن في خلق تراث جديد تماما وحضارة جديدة تماما ستكون هي تراث الحرية وحضارتها!
ولكن ما عساه يكون هذا التراث المقطوع الصلات بتراث الماضي والمبتور الجذور؟! وكيف يمكن أن يكون هذا التراث ـ تراث الأبناء والحاضر ـ تراثا قبل أن يصبح ماضيا ويتم تجاوزه أو قبل أن يلحق بجذوره وأصوله ومنابعه، وكيف يمكن لهذا التراث أن يكون تراث الحرية وحضارتها؟
يعني هذا أن الأب المحترم يعتقد أو يريدنا أن نعتقد بأن التراث العربي كله هو تراث العبودية والتخلف الحضاري إن لم يكن تراث البربرية والهمجية؟ ثم ألا يكون هذا تأصيلا للعبودية وللتخلف الحضاري في التراث العربي وبالتالي في النفس والعقل والشخصية العربية؟! وهذا كله ألا يكون تأصيلا وتعميقا ـ بطريق غير مباشر ـ للجانب السلبي في التراث العربي .. أي للغيبية ذاتها التي يخلعها على هذا التراث وينعاها عليه؟!
إن الأب المحترم يلبس مسوح الاتهام والإدانة للغيبية التي يخلعها هو نفسه على التراث العربي لكي يلعب دور الحريص على الشخصية العربية .. والعقل العربي .. والحرية .. والحضارة .. والعقلانية .. بحيث يبدو في الظاهر أنه ضد الغيبية! ولكنه في الواقع لا يحرض على شيء كما يحرض على تأكيد وتثبيت هذه الغيبية ذاتها ما أمكن، مما يفشي أنه ضد الجانب العقلاني والتحرري والحضاري بالذات وبالتالي لا اعتراض له على الغيبية! فهو يقول لتلميذه: "حينئذ دون أن يخرج على دينه(يقصد الإنسان العربي ـ ن.س) سيخلق تراثاً جديداً وحضارة يكونان تراث الحرية وحضارتها"!
والمطلوب هو لفت نظر القارئ إلى الجملة الاعتراضية "دون أن يخرج على دينه"!! مما يعني حرصه على الدين، أي على النظرة الغيبية للذات وللعالم! أي أنه يسمح بأن يظل الدين .. الغيبية .. من دون التراث العربي عامة أحد ضرورات الحرية والحضارة تلك التي سيبدأ في خلقها أبناء الحاضر وبقدرة قادر ومن الفراغ وفي حالة من انعدام الوزن تماما، وأن يظل الدين ـ دون التراث العربي عامة أحد مكونات الشخصية العربية، أما ما عدا ذلك ممنوع بأمر هيجل وماسينيون ورينان وفرويد ويونج وما يستجد!
قبل هذا مباشرة كان الأب قد أخذ مع تلميذه ـ على الإنسان العربي أنه "انتهى إلى الشعور بأن لغته ودينه وكيانه القومي وحدة لا تتجزأ". وهذا يعني ـ بمفهوم المخالفة أنه يعتبر تلك العناصر قابلة للتجزئة والاستبعاد والجمع والطرح والضرب والقسمة! .. ونحن مثله نحرص على الدين، ولأسباب لادينية كما يفعل هو وان اختلفت الأسباب بيننا وبينه! .. إننا نحرص على الدين لا حرصاً على الغيبية ـ كما يفعل ـ وإنما باعتباره أولا وأخيرا وشئنا أو لم نشأ أحد مكونات التراث العربي .. وجزءا لا يتجزأ من محصلة هذا التراث بوجهيها السلبي والايجابي، وبالتالي جزءا من الكيان القومي لا يمكن تجاهله، ولا يمكن بدونه مواصلة السير على طريق اكتساب الحرية وتحقيق التقدم الحضاري. كما يستحيل فهم كياننا القومي دون وضعه في الحساب!
ولكن الأب يستبقي الدين وحده من مكونات الكيان القومي، فهل معنى هذا أنه يستبعد اللغة من هذه المكونات؟!
هل يبقى الاعتراض إذن على اللغة العربية بالذات؟! أم على التراث العربي منذ ظهور الإسلام وسيادة اللغة العربية؟! إن اللغة العربية لم تصل إلى الصورة التي عرفها عصر ظهور الإسلام إلا عبر تغيرات وتطورات لا قبل لأحد بحصرها أو تتبعها، وقبل ظهور الإسلام وسيادة العربية بالصورة التي وصلتنا .. ألم تكن هناك لغات ولغات نبعت منها العربية ثم سادت؟! ألم تكن هناك حضارات وحضارات؟! وبالتالي ألم يكن ثمة عقل عربي؟! وهل كان هذا العقل غيبيا أيضا ومتدينا بحكم طبيعة البنية الذهنية العربية أو بحكم نقصها الطبيعي؟! ألم تكشف الأدلة والحفريات عن أنه كان للحضارات البائدة في الجاهلية الأولى أو الثانية أو ما شئتم أو فيما قبل الحضارات البائدة وجه آخر غير عقلاني وغير غيبي ينسف المقولة المفتراه .. مقولة النقص في الذهنية العربية؟!
إن هذا يصدق أيضا على اللغة العربية والعقل العربي منذ ظهور الإسلام حتى كتابة هذه السطور عبر العصور الوسطى؟ ومن أين اتخذت نهاية العصور الوسطى في أوروبا بذور وثمار الاتجاه العقلاني والعلمي إن لم تكن قد أخذتها عن التراث العربي ومن اللغة العربية؟! ولماذا لا يكون سبب الغيبية التي سادت مجمل تراث أوروبا في العصور الوسطى راجعا إلى طبيعة البنية الذهنية الغربية أو إلى نقص في هذه البنية بنفس المقياس وأسوة بالذهنية العربية؟! ولماذا لا ينسحب نفس الحكم على الذهنية اليونانية التي يحفل تراثها بما لا يحصى من المذاهب والفلسفات الغيبية؟ بل لماذا لا نسحب نفس الحكم على الذهنية الغربية المعاصرة وهي أكثر ازدحاماً بالمذاهب والفلسفات الغيبية من أية ذهنية في أي عصر من عصور البشرية؟!
ويقول الأب:
"فالأديب الذي يريد أن يستعيد تجربة السلف، مقلد لا غير وهو بدلاً من أن يجعل الماضي حاضراً في الحاضر، يرجع الحاضر إلى الماضي، ولا يخلق جديداً"
يجب إذن في رأي الأب الجليل ألا نستعيد تجربة السلف ـ وهذا وجوب ساقه هنا على إطلاق ـ وذلك لكي نكون مجددين ونخلق الجديد! هذا بدافع الحرص على نهضتنا المنشودة.
ويجب أيضا ألا نعتقد أن لغتنا وديننا وكياننا القومي وحدة لا تتجزأ الأمر الذي يدفعنا إلى أن نستعيد تجربة السلف ـ وإنما علينا أن نعتقد بأن هذه الوحدة قابلة للتجزئة .. وواجبة التجزئة .. وهذا ـ طبعاً ـ بدافع الحرص على كياننا القومي!
ويجب أخيرا أن نميت تراثنا ـ تراث الماضي ـ تجربة السلف ـ آباءنا .. وعلى طريقة فرويد بالذات ـ بدافع الحرص على الأبناء. أي لكي نكتسب حريتنا ونحقق شخصيتنا ونبني حضارتنا!
هذا طبعا إذا صح أن الإتباع والتقليد والثبات هي الخصائص الغالبة في التراث العربي الجاهلي والإسلامي.
والأب بولس إذ يوافق تلميذه على أن "الرؤيا الدينية" هي ـ السبب الأصلي في تغلب المنحنى الثبوتي على المنحنى التحولي في الشعر أو بعبارة أخرى "ان النظام الشامل الذي خلقه الدين كان العامل الأساسي" فإنه وهو ذكي يتساءل "إذا لم تكن هناك عوامل أخرى مهمة لعبت دورها في تسلط الذهنية الجاهلية على العالم العربي أو بعبارة أدق في استرجاع الإسلام للجاهلية بعد أن ألغاها" .. وهذا التساؤل البريء فيما يبدو يمهد الطريق أمامه إلى الميل العنصري ـ الفرق بين في بنية الفكر العربي وبنية الفكر غير العربي .. ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن يلجأ هنا إلى يونج بالذات ـ بعد فرويد ـ! يونج يعطيه الكثير في قضية السلالات البشرية!
الأب الفاضل إذن يوافق على مسألة الرؤيا الدينية ولكنه يردها إلى باعث عنصري! .. أما أن يفقد العربي المعاصر دينه أو لا يفقده ذلك الاستدراك الذي يورده في الطريق الأخير بين في المقدمة بقوله: "دون أن يخرج عن دينه" فمسألة ثانوية لدى الأب اليسوعي .. مما يعني أن الأب لا تهمه ـ في الواقع ـ سيادة أو عدم سيادة الرؤيا الدينية في التراث العربي .. تلك التي تشكل عصب دراسة أدونيس! .. مما يوقع الأب بولس في تناقض ظاهر مع نفسه ومع تلميذه! إذن ما الذي يهمه؟!
وهكذا .. حدد الأستاذ للتلميذ منهج البحث .. وحدد له مجالاته .. حدد له مقدما النتائج المرجوه .. وحدد له الأهداف .. ولكنه أخفى الهدف الحقيقي من هذا كله ألا وهو قتل التراث العربي! .. وأحب قبل أن اترك المقدمة أن أسجل بأنني أيضا لست معنيا بالدين بالمعنى الميتافيزيقي وإنما أنا معني به بالمعنى الأنثروبولوجي .. ويكون واحدا من الأبنية الفوقية في أي مجتمع! وهنا أذكر بيتاً لأبي العلاء المعري
تنام أعين قوم عن ذخائرهم
والطالبون أذاهم ما ينامونا
فهل نامت أعيننا عن تراثنا .. عن ذخائرنا؟! نعم .. وطويلا!
ومن هم هؤلاء الذين لا ينامون عن تراثنا؟!
من هم هؤلاء الطالبون أذانا؟
وهل ما زالوا ساهرين؟!
وهل ما زالوا يواصلون أذانا؟!
هذا ما أتركه للقارئ الذكي بعد الفراغ من رحلتي مع أدونيس!
الجزء الثاني: حوار تمهيدي
**********
أدونيس: قصدت ألا أعرض في هذا البحث لمسألتين:
الأولى هي الإطار الحضاري الذي نشأ فيه الإسلام، والثانية هي البنية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج التي سادت القرون الهجرية الثلاثة الأولى التي يشملها البحث.
أنا : الأمر إذن مقصود! .. وأنت حر فيما تقصد إليه! .. ولكن فيم البحث إذن .. وعلام؟ وما جدواه؟ .. وما قيمة النتائج التي تبنى دون وضع هاتين المسألتين في الحساب؟! ..
أدونيس: ليس من غرضي الكشف عن العناصر التي تأثر بها الإسلام إبان نشأته أو مقارنته بغيره وإنما غرضي أن أدرس الوحي الإسلامي كما تجلى في الممارسة الحياتية وفي طرق التفكير.
أنا : ولكن من المستحيل فهم الوحي الإسلامي كما تجلى في الوجهين المذكورين بدون الكشف عن العناصر المشار إليها إبان النشأة وبدون المقارنة مع الأديان السابقة للإسلام! كان يمكنك أن تفعل على الأقل كما فعل جوزي في كتابه ".................. [هكذا في الأصل]" .. ولكنك تقول أن هذا ليس من غرضك! غير أن إشارتك العابرة إلى الممارسة الحياتية تفشي إحساسك بضعف المنهج الذي اخترته لنفسك لأنها تفشي النزوع الاضطراري إلى الرجوع للحياة .. للواقع .. للظروف الموضوعية ـ تلك التي سميتها الإطار الحضاري أو تلك البنية الاقتصادية ـ مما قصدت متعمداً ألا تعرض له! ..
أدونيس: إن دراسة البنية الاقتصادية وعلاقات الإنتاج تحتاج إلى مصادر صحيحة وافية عن التنظيمات الاجتماعية والمالية والإدارية والاقتصادية وهي غير متوفرة.
أنا : إنها على العكس متوفرة .. ومتوفرة جدا وبالقدر الكافي، أما ما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة فهذا أمر يمكن الاختلاف فيه!
أدونيس: والمتوفر منها لا يقدم كما أرى إلا معلومات جزئية لا يمكن أن تبنى عليها أو انطلاقاً منها أحكام صحيحة.
أنا : هذا ما تراه أنت .. أو هكذا تريد للأمر أن يكون .. ولكن ترى هل يمكن أن نصل ـ بدون تلك المعلومات ـ حتى لو افترضنا انها جزئية إلى أحكام صحيحة؟! وإذا كانت المصادر المشار إليها مشكوكا في صحتها كما يبدو من كلامك ـ فالشك ـ من باب أولى ـ يجب أن يتطرق إلى كل شيء .. أي إلى ما نقله إلينا الرواة والمؤرخون فيما يختص بالممارسة الحياتية وفي طرق التفكير ـ على حد تعبيرك. وإذا كان الشك يمكن أن يتطرق إلى الأخيرين فكيف يمكن دراسة الوحي الإسلامي ثم كيف يمكن أن نثق بالنتائج المترتبة على مثل هذه الدراسة .. نتائجك؟! مع ذلك قال أستاذك الأب بولس منذ قليل انك وصلت في بحثك إلى نتائج يعتبرها نهائية! .. على العموم اعترف .. هذا أفضل لك ولنا!
أدونيس: اعترف إنني غير مهيأ علميا للقيام بمثل هذه الدراسة الاقتصادية فيما لو افترضنا توفر المصادر!
أنا : إذن هو القصد والعمد وسبق الإصرار ..
أدونيس: من هنا حصر همي في دراسة البنية الأيديولوجية الفوقية للمجتمع الإسلامي كما ظهرت ممارسة وتنظيرا بدءا من وفاة النبي ..
أنا : كيف يمكننا أن ندرس تلك البنية الفوقية دون أن نحيط علما بالمسألتين المشار إليهما؟ إن كلامك يوحي بأنك تفهم جيدا أو إلى حد ما هاتين المسألتين. وتفهم طبيعة ونوعية المنهج الذي كان عليك أن تلتزمه في البحث تماما كإبليس يعرف ربه ولكنه يتخابث على حد تعبير العامة .. ولهذا تؤثر ـ لأمر في نفسك أو في نفس يعقوب ـ أن تلتزم المنهج المثالي ـ الهيجلي ـ لتبحث في البنية الفوقية ذاتها عن البنية الفوقية .. في الفكر ذاته عن الفكر! .. وهكذا ستترى إلى مالا نهاية نتائج المنطق الشكلي العرجاء! .. قل لنا من فضلك: لماذا اخترت أن تدرس الثقافة العربية من منظور الثابت والمتحول والعلاقة بينهما؟!
أدونيس: في دراستي للحركة الشعرية والقرون الثلاثة الأخيرة ... اتضح لي أن هذه الحركة كانت في معظمها استعادة للماضي وأن القوة التي حاولت أن تبدع شيئا آخر غير ما عرفه الماضي قيل عنها انها غريبة عن التراث العربي وعن البنية الأساسية للذهنية العربية وانها تفسد الأصول العربية وهو كما نعرف القول نفسه الذي أثير حول شعر أبي تمام وهو ما نعرف أيضا النقد الذي يوجه إلى الحركة الشعرية العربية الحديثة ..
أنا : لندع أبا تمام بالذات مؤقتا .. ولندع الحركة الشعرية العربية الحديثة ـ نقدا وإبداعا ـ بالذات أيضا مؤقتا .. ولنؤجل الحديث فيما تهتم به القوى الإبداعية كما نعتبرها من غربة عن التراث العربي وإفساد له .. وأخيرا لنترك جانبا ـ ومؤقتا أيضا ـ ما اتضح لك من أن الأمر كان "استعادة للماضي" فالأمر ليس واضحا بعد لنا بدرجة وضوحه لك خاصة وانك لم تقدم الدلائل بعد .. لندع هذا كله مؤقتا فسيأتي ذكره في الوقت المناسب .. ولنقف عند إشارتك إلى "البنية الأساسية للذهنية العربية" .. لأفيق النظر إلى أن هذا ما أوحاه إليك الأب بولس نويا منذ قليل بما فيه من نزوع عنصري باد .. وأنه نفس ما كان متمنيا أن تصل إليه من بحثك لا أن تصل إلى سيادة الإتباع على الإبداع في التراث العربي كله، والأمر المشجع لك وله هو أنه إذا كان هذا ما اتضح لك من الحركة الشعرية في القرون الثلاثة الأخيرة فما بالنا بالقرون الثلاثة الأولى بعد وفاة النبي .. فيما تلا ذلك من قرون؟! هذا إذا صحت ملحوظتك عن الشعر في القرون الثلاثة الأخيرة وعن الشعر في القرون الثلاثة الأولى كما أكدت ببحثك الطويل!
ولكن أستاذك نفسه وبذكاء قد قال لك منذ قليل: ".. فالعودة إلى الماضي أو تكرار الماضي ليست ظاهرة خاصة بالعالم العربي وقد نسبتها إلى الدين وجعلته المسئول عن هذه الظاهرة. إنها ظاهرة إنسانية لو غابت لكانت نتائجها وخيمة بالنسبة إلى التوازن الذهني" .. فهو يسجل أنها ظاهرة لا ينفرد بها العربي من بين مخلوقات الله! ويسلم معك بأن الدين مسئول عنها لدى العربي وغير العربي ـ ضمنا ـ ثم هو يدرك أن من العجز تفسير الظاهرة بالظاهرة ذاتها .. فأنت وهو لا تكونان قد قلتما شيئا إذا ذهبتما إلى أن: "الدين هو سبب سيادة ظاهرة الإتباع في التراث العربي" والدين جزء من هذه الظاهرة المفترضة ـ جزء من الأبنية الفوقية ـ فكيف يكون هو نفسه سببا فيها؟ إن هذا معناه أن الأبنية الفوقية هي سبب الأبنية الفوقية، وأن الدين هو سبب الدين، وأن ظاهرة الإتباع هي سبب ظاهرة الإتباع، والفكر هو سبب الفكر .. والأرض أرض والهواء هواء والبحر بحر والسماء سماء .. وكان الله يحب المحسنين! .. ولكن خذ بالك .. إن أستاذك الذكي اليسوعي يدرك هذا كله ويريدك أن ترد المسألة إلى بنية الفكر العربي على حد تعبيره، إلى البنية الذهنية العربية على حد تعبيرك .. لا إلى الدين .. وهذا دفاع عن الدين في الظاهر، كما أنه ـ في الظاهر ـ دفاع عن الفكر العربي، خاصة وأن هذا الأخير لا ينفرد بتلك الظاهرة كما يعترف هو نفسه! ولكن هذا الدفاع عن الفكر العربي هجوم أيضا عليه .. فمن أين تأتي هذا التناقض؟! هل هذه الظاهرة تخص الفكر العربي وحده أم هي ظاهرة إنسانية عامة؟! إذا كانت الأولى فهذا يعني وجود نقص ما في الفكر العربي! وإذا كانت الثانية فهذا يعني أن الفكر العربي والفكر الإنساني سواء.
وإذا صحت الثانية فأين تذهب ظاهرة سيادة الإتباع في التراث العربي تلك التي وصلت إليها ووافقك عليها؟! وإذا صحت الأولى فأين يذهب تاريخ الفكر الإنساني الذي يؤكد شيوع تلك الظاهرة في جميع العصور باعترافه هو نفسه ؟! إما أن يعيب العقل العربي وإما أن يعيب العقل الإنساني عامة! .. وإما أن يلغي تاريخ الفكر العربي أو يلغي تاريخ الإنسانية أو يمسخ هذا أو ذاك! ولكنه يريد أن يعيب العقل العربي بالذات .. وتاريخ الفكر العربي بالذات لا بالدين. فهو أذكى من أن يقع أو يوقعك في هذا الحرج! ـ فليعبهما من ناحية التوعية .. الطبيعة .. الفطرة .. البنية .. العنصر! ـ ويونج جاهز لهذه المهمة ـ .. بهذا يكون قد احتفظ للدين كدين بكرامته وقداسته .. ويكون في نفس الوقت قد حقق غرضه أو أشبع ميوله العنصرية الكامنة الخفية وهو في الواقع ـ وبيني وبينك ـ لا يعنيه الدين في كثير أو قليل .. لا الدين المسيحي ولا الإسلامي ولا أي دين .. ولكن ما باليد حيله .. لابد من تجنب الحرج .. لهذا بدا متناقضا مع نفسه للغاية ولكن منسجم معها للغاية أيضا .. بدا مدافعا عن الدين وهو أزهد ما يكون فيه.
أدونيس: سر هذا العداء الذي يكنه العربي بعامة لكل إبداع حتى لكأنه مفطور عليه!
أنا : أنت بدأت البحث .. وانتهيت إلى "أنه" ..! ورددت كل شيء دون أن تدري ـ إلى نقص في العقل العربي، .. في البنية الذهنية العربية ـ الماضوية بتعبيرك في الفكر العربي .. في النوعية .. الطبيعة .. الفطرة ..العنصر! أنظر كم كنت "دمية" في يد أستاذك! ثم أعجب معي كيف للدمية أن تلعب بدمى أخرى في عالمنا العربي .. خاصة وانك تشير بلا تواضع إلى موقعك في الحركة الشعرية الحديثة "من حيث كتابة الشعر أو التنظير لهذه الكتابة على حد تعبيرك في ص19 .. أكمل أرجوك لا داعي لأن تستبق الحديث. من أين بدأت؟!
أدونيس: ورأيت ... أن أبدأ من البداية، فرجعت إلى الشعر الجاهلي، الأصل الأول للثقافة العربية وللرؤيا الشعرية العربية أعيد دراسته وتحليله.
أنا : ألأنه أكثر يقينية من الشعر الإسلامي؟! غير معقول ـ مؤقتا ـ فالأولى أن يكون الشعر الجاهلي أقل يقينية من الشعر الإسلامي ـ بحكم البعد الزمني ـ وهذا يقلل من أهمية الاعتماد على الشعر الجاهلي في رصد الظاهرة أو سيادة الإتباع على الإبداع!
أدونيس: إن النقد العربي القديم، ويتابعه في ذلك النقد الحديث في معظمه يقدم عنه صورة تفتقر إلى الكثير من الدقة لكن لا أقول انها صورة خاطئة.
أنا : القضية هنا ليست قضية الفرق الممكن بين صورة للشعر الجاهلي وصورة أخرى من حيث الدقة كما ينقلها النقد القديم أو الحديث. وليست قضية صورة خاطئة أو صورة غير خاطئة .. انها قضية الشعر الجاهلي كله وفي حد ذاته .. قضية وجوده .. مدى يقينية المصادر التي أقام عليها النقد القديم والحديث أحكامه أو رسم الصورة من خلالها أو اعتمادا عليها .. وبالتالي مدى إمكان الاعتماد على نفس المصادر لتصحيح الصورة وجعلها أكثر دقة في بحث طويل كبحثك! ثم أنت تصرح بأن الصورة كما يقدمها النقدان ليست دقيقة ولكنك لا تقول بأنها خاطئة .. لأن النقد يربط الشعر الجاهلي ...
أدونيس: عضويا بالقبلية وقيمها. صحيح أن هذه الصورة الغالبة لكن صحيح أيضا أنها ليست الكاملة ..
أنا : ألم تلاحظ في "صورة" الشعر الجاهلي كما أوصلها إليك النقاد القدامى والمحدثون أصداء مدنية وحضارية .. ورواسب أو بقايا أبنية فوقية قديمة سابقة بآماد زمنية طويلة على الزمن التقديري لما يسمى بالعصر الجاهلي؟! ألم تلاحظ أن تلك الأصداء والرواسب والبقايا ـ حتى الميثولوجية ـ تتجاوز القبلية وقيمها؟! ألم تضع في حسابك الحضارات البائدة؟! وإذا صح ذلك ـ وهو صحيح ـ أتكون تلك الحضارات البائدة التي تطورت قديما عن القبيلة أيضا سابقة على القبلية .. بمعنى أن القبلية التي ينسب إليها الشعر الجاهلي هي قبلية لاحقة لفناء أو انحلال تلك الحضارات أي ردة إلى القبلية تطورت بعد ذلك إلى مدنية فحضارية بعد الإسلام؟! وكيف يمكن فهم "صورة الشعر الجاهلي"! بدون وضع هذا في الحساب؟ ثم أيمكن أن نتخيل أن الشعر الجاهلي ظهر في المرحلة القبلية وحدها ولم يظهر في المراحل التي سبقتها ولا في المراحل التي سبقت تلك المراحل؟!
هنا أذكر أحمد بن عبد ربه .... "العقد الفريد"
"................................... [هكذا في الأصل]"
وهنا أذكر أيضا بلوتارك في العظماء عندما يقول:
".................................. [هكذا في الأصل]"
أنت مغرور إذن! .. فلنقتصر على الشعر الجاهلي بالصورة التي وصلتك ووصلتنا من خلال النقد القديم والحديث والتي تبدو لك يقينية المصادر بحيث يبدو لنا أن العيب كل العيب في النقد لا في الأصول .. وهذا النقد يربط ـ كما تقول ـ الشعر الجاهلي بالقبلية وقيمها .. وأن هذه الصورة الغالبة ـ وهي صحيحة في نظرك ونظرنا ـ مؤقتا ـ وإن كانت غير كاملة كما تقول أيضا .. ولكن لماذا هي ناقصة؟
أدونيس: ففي الشعر الجاهلي نفسه تجد بذورا قوية لحركة إبداعية خرجت على القبيلة وقيمها السائدة وتتمثل هذه الحركة بشعر الصعاليك خصوصا. وتشهد لها قصائد لامرئ القيس وطرفه بن العبد .. ولم تكن هذه الحركة خروجا وحسب وإنما كانت تحاول أن تطرح بديلا جديدا!
أنا : أنت إذن تبحث عن البذور لا عن الجذور .. ما علينا .. أنت حر! .. غير أن هذه البذور القوية ـ كما تقول ـ تنفي الطابع الذي تخلعه على العقلية أو الذهنية العربية .. لأنها دليل على أن العقل العربي أيضا له محاولات إبداعية .. بله حركات قوية! وهنا تختلف وتتفق مع أستاذك في وقت واحد .. وتختلف وتتفق مع نفسك أيضا في وقت واحد .. وإلا فأين تذهب مقولة "الفكر العربي" لديه ومقولة "الذهنية العربية الماضوية" لديك .. ثم بم تفسر ظاهرة سيادة الاتباعية على التراث العربي؟!
إذا كانت الذهنية العربية قد أثبتت لك قدرتها الإبداعية .. فما سببها؟! الدين مرة ثانية؟! ولكن الدين ـ في حسابك ـ لم يكن موجودا إبان الفترة التي ينسب إليها الشعر الجاهلي ومع ذلك فقد كانت تلك الحركات الإبداعية القوية مجرد استثناء من قاعدة تعنى ـ منطقيا ـ سيادة الاتباعية في الشعر الجاهلي أيضا .. فأمثال امرئ القيس وطرفة بن العبد مجرد استثناءات نادرة .. هذا يعني ـ بمفهوم المخالفة ـ أن القاعدة في الشعر الجاهلي أيضا هي سيادة ظاهرة الاتباعية! فما السبب مرة ثانية؟ الدين؟ أي دين؟ الوثنية؟! ولماذا لم تفعل الوثنية نفس الشيء في أوروبا والعالم؟ كانت هناك المسيحية أيضا في العصر الجاهلي .. فهل هي السبب؟ ولماذا لم تفعل نفس الشيء في أوروبا والعالم؟ أم اليهودية؟! وكانت موجودة أيضا في العصر الجاهلي. هل كان الإسلام سببا في سيادة الاتباعية على الشعر الجاهلي؟ هذا يبدو مضحكا.