تداول الثروة وتداول السلطة متلازمان حتميان في أي ديمقراطية قادمة..
لا لـ "الديمقراطية الليبرالية"، لأنها تُسْقِط ثابت العدالة.. ولا لـ "عدالة الاشتراكية"، لأنها تُسْقِط ثابت الحرية..
لا حرية بدون "العدالة" كمكوِّنٍ ثابتٍ فيها.. ولا عدالة بدون "الحرية" كمكوِّن ثابت فيها..
من "العدالة" أن نكون أحرارا، لأن من "الحرية" أن تسودنا العدالة..

أسامة عكنان

ما فتئ الناس ينادون بمبدإٍ في الحكم يقوم على "تداول السلطة"، بصفتها نتاجا مُحَتَّما للحياة الديمقراطية الليبرالية، القائمة على الحرية والتعددية السياسية من جهة أولى، وعلى الفصل بين السلطات التي يجب أن تعود إلى مصدرها الحقيقي الذي هو الشعب من جهة ثانية. وفي ظل الهيمنة الثقافية الطاغية لأيديولوجية "الديمقراطية الليبرالية" وما ينتج عنها وما يرتبط بها من مبادئ في الحرية وفي الحكم وفي الحياة الدستورية، يقف على رأسها جميعها مبدأ "تداول السلطة"، غاب وما يزال يغيب مبدأٌ آخر مرتبطٌ بمبدأ "تداول السلطة" ارتباط قيامٍ ووجود، ألا وهو مبدأ "تداول الثروة"، إلى الحدِّ الذي لم نلمسْ معه لهذا المبدإ أيَّ وجود على صعيد الاعتراف بمشروعيته وتأصيله، وشرح ارتباطاته وعلاقاته بالسلطة، في أيٍّ من النظريات والفلسفات التي عالجت موضوع "تداول السلطة"، وأشبعته قراءة ودراسة ومناقشة وتحليلا.
وإنه إذا كان مبدأ "تداول السلطة" وما يسبِّبُه وما ينتجُ عنه من مكوِّناتٍ مجتمعية، هو التجسيد العملي لقيمة "الحرية" في مجتمعٍ ماَّ، فإن مبدأَ "تداول الثروة" وما يسبِّبُه وما ينتج عنه من مكوِّناتٍ، يعدُّ بمثابة التجسيد العملي لقيمة "العدالة" في ذلك المجتمع. وبالتالي فأيُّما نظرية أو فلسفة أو أيديولوجية لم تستطع أن تكتشف تفاصيل العلاقة العضوية والوجودية بين هذين المبدأين، "تداول السلطة" و"تداول الثروة"، على نحوٍ يوضِّح أن أياًّ منهما لا يقوم في المجتمع ولا ينهدم، دون أن يقيمَ معه أو يهدمَ المبدأَ الآخر، هي في المحصلة نظرية أو فلسفة أو أيديولوجية قاصرة، تعجزُ من ثمَّ عن الإلمام بحيثيات قيمتي "الحرية" و"العدالة" وبفضاءاتهما في البُنيَة المجتمعية على الصُّعُدِ كافة.
ولأننا رأينا أن الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها من مُنَظِّري ومُؤَصِّلي ومُؤَسِّسي وأتباع "الديمقراطية الليبرالية الغربية"، وعلى مدى أكثر من أربعة قرون من الزمن، لا يعتبرون أن في ديمقراطيتهم هذه، جوهرة أغلى وأثمن من مبدإ "تداول السلطة"، تستحق منحها صفة "درَّة تاج الديمقراطية الليبرالية" كمجسِّدٍ لقيمة الحرية، دون أن نرى في أيٍّ من تأصيلاتهم ذِكرا لحتمية "تداول الثروة"، كمجسِّدٍ لقيمة العدالة، وكنتيجة لا مفر منها لتجسيد مبدأ "تداول السلطة"، فقد كان من الطبيعي أن نضع كل علامات الاستفهام على "نوع" و"مدى" و"سقف" الحرية التي تجسِّدُها "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، لتحول بينها وبين استحضارَ شقيقَتَها المُحَتَّمَة، ألا وهي "العدالة"؟!!
الثقافة الأوربية نفسُها، ومن قلب السيرورة التاريخية للرأسمالية واقتصاديات السوق المرتكزة إلى "السميثية" و"الميركانتيلية" التاريخيتين، عاشت مأساةَ غياب قيمة "العدالة" على أوسع نطاقٍ، رغم شيوع "الديمقراطية الليبرالية" على أوسع نطاق أيضا. وقد تجلَّى غياب العدالة ذاك، عبر ما مثلته الرأسمالية الحارسة من راعية لِلاَّعدالة ولأبشع أنواع الفرز الطبقي داخل المجتمعات الأوربية، ومن راعية للاستعمار بأبشع أشكاله وبأقسى تداعياته خارج القارة الأوربية، تحت مظلة تلك "الديمقراطية الليبرالية" نفسها وما تدعيه من تحرير للمجتمعات. فخرجت من رحم هذه الثقافة متولِّداتٌ ثقافية جديدة أرَّقَتها تلك المعاناة، فربطت بين حالة "اللاَّعدالة" وحالة "الديمقراطية الليبرالية" ربطا وجوديا وتكوينيا، وراحت تقيم على هذا الرَّبط مُكَوِّنات بُناها المعرفية الجديدة، وهي محقة تماما في هذا الربط.
ولأن حالة "الديمقراطية اللليبرالية" كانت تعني لهذه الثقافة الجديدة الناشئة من رحم "اللاَّعدالة" الأوربية، "الحرية" ذاتَها، بعد أن عجزت عن أن تقرأ فيها نوعا فادحا من "الحرية المحتزأة والمزيفة"، فقد كان من الطبيعي ومن المفهوم، أن يتربط في أصول هذه الثقافة وفي خطابها المعرفي الأساسي، أنَّ تحقُّقَ "العدالة" لن يكون إلا على حساب "الديمقراطية الليبرالية"، والبحث عن صيغة أخرى للحرية غير تلك التي زورت يها "الديمقراطية الليبرالية" تاريخ أوربا والعالم أكثر من ثلاثة قرون من الزمن.
ولأن صيغة "العدالة" التي أصَّلَت لها الثقافة الأوربية الجديدة، عبر الفكرين الاشتراكي والشيوعي، حاولت أن تقيمَ لنفسها نموذَجَها "العدالي" الخاص المناقض تماما للنموذج الرأسمالي، والمرتكز إلى أضداده في النظرة إلى "المُلكية"، وفي النظرة إلى "إنتاج الثروة"، وفي النظرة إلى "توزيع الثروة"، وفي النظرة إلى العلاقة بين "وسائل الإنتاج" وعلاقات الإنتاج".. إلخ، وهي الأمور التي تصورت تلك الثقافة أن الصِّيَغ الرأسمالية حولها وبخصوصها، هي مبرر "اللاَّعدالة" كلها، وذلك بحسب قراءتها الخاصة للواقع الأوربي الاقتصادي والإنتاجي.. إلخ، فقد ركزت كلَّ مردودها وإنتاجها الفلسفيين نحو هدف واحد، وتحقيقا لغاية وحيدة، هي التأصيل المضاد للتأصيل الرأسمالي السائد والحاكم.
فغدت النتائج التي توصلت إليها هذه الثقافة في هذا الشأن، هي القيم المقدسَّة التي يجب الحفاظ على مركزيتها. وبالتالي فقد غدا كلُّ فهمٍ لقيمة "الحرية"، وأصبح أيُّ تجسيدٍ لها، يهدد البُنية التأصيلية الجديدة المتوَصَّل إليها، والتي تمكنت من هدم التأصيل الرأسمالي "السميثي" و"الميركانتيلي" في جانب دلالات قيمة "العدالة"، فهما وتجسيدا تجب معاداته، لأنه يصنَّف على الفور باعتباره فهما وتجسيدا يقف ضد "العدالة" التي تمَّ تأصيلها، لتصبح "الحرية" المعترف بها، هي فقط تلك التي تفرزها "العدالة" المؤصلة في الفكر الأوربي المضاد للرأسمالية فقط، ألا وهو الفكر الاشتراكي ووعائه الفلسفي الحاضن له "الشيوعية".
وبقراءتنا الفاحصة للمردود الأيديولوجي لهذه الثقافة الجديدة التي أعادت إنتاج قيمتي "الحرية" والعدالة"، على أسسٍ مضادة ومناقضة لتلك التي أنتجتهما الثقافة القديمة في رحم الرأسمالية واقتصاد السوق، وجدنا أننا بصدد ثقافة أوربية استشعرت قصور "حرية الديمقراطية الليبرالية" عن تحقيق "العدالة"، بل هي قد استشعرت خدمةَ هذه الحرية لنهج "اللاَّعدالة" الذي فاقم الأزمات المجتمعية والاقتصادية والثقافية في القارة الأوربية وعلى الصعيد العالمي، مع حلول منتصف القرن التاسع عشر، كما أنها ثقافة أوربية جديدة اعتنقت فلسفةَ أن "العدالة" تكمن فقط في الصيغة النقيض لمُكَوِّنات الرأسمالية، مادامت هذه الأخيرة هي سبب "اللاَّعدالة" التي حمتها واحتضنتها "حرية الديمقراطية الليبرالية".
ومن هذه التركيبة الثنائية المتشابكة شديدة التعقيد، والمتمثلة في..
* اعتناق فلسفة أن "حرية الديمقراطية الليبرالية"، خدَمَت نهج "اللاعدالة" تاريخيا، بل أنها ما وُضِعَت إلا لأجل خدمته والتأسيس الأيديولوجي المزَيَّف له، بتقديم حرية موهومة ومجتزأة تحضنه وتحميه..
* واعتناق فلسفة أن "العدالة" تكمن فقط في الصيغة النقيض لمكوِّنات الرأسمالية، التي اعْتُبِرَت بمثابة التجسيد الفعلي لكل أوجه "اللاَّعدالة"، لتغدوَ الصيغة الجديدة لـ "العدالة" هي معيار الحرية..
نقول.. من هذه الثنائية بدأت تتكون الثقافة الأوربية الجديدة في "العدالة" و"الحرية"، قالبة المفاهيم السابقة لهما، والتي رسَّختها "الديمقراطية الليبرالية" قرابةَ ثلاثة قرون رأسا على عقب. فكانت الفلسفات التي أسَّسَت للاشتراكية، ثم للشيوعية كإطار فلسفي أعمق وأشمل أصبح وعاءً للاشتراكية ذاتها، هي الحاضنة الجديدة لهاتين القيمتين، جاعلة من "العدالة" – بصيغتها النقيضة للرأسمالية عبر التناقض المباشر مع تفاصيل هذه الرأسمالية – قيمةً تحتكر "الحرية" وتفسيرَها وتحديدَ معانيها وسقوفها، بعد أن كان "الاقتصاد الحر" هو الحاضنة التاريخية للقيمتين ذاتهما، ولكن بشكل جعل قيمة "الحرية" – بصيغتها الديمقراطية الليبرالية المناقضة للحكم الشمولي – قيمةً تحتكر "العدالة" وتفسيرَها وتحديدَ معانيها وسقوفها.
إذن، فقد رَكِبَت الرأسمالية متمثلة في "الاقتصاد الحر" بساطَ ريحِ "تداول السلطة" تحت عنوان "الديمقراطية الليبرالية"، لتحول دون "تداول الثروة"، في حين أن المعيار الحقيقي لموضوعية "تداول السلطة"، هو "تداول ثروةٍ" حقيقي. ولما لم تُنْجِزْ هذه المعادلةُ النشاز سوى مشروعِ حضارةٍ أوربي، ما كان أمامه من مفرٍّ إلا أن يكون "استعماريا"، و"صهيونيا" على المستوى الخارجي، و"طبقيا لاعدليا" على المستوى الداخلي، فقد جاءت الشيوعية متمثلة في "الاقتصاد المقيَّد والمركزي"، لتمتطي هذه المرة بساطَ ريحِ "تداول الثروة" تحت عنوان "الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وحتمية الصراع الطبقي في ضوء التناقض بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج"، لتحول دون "تداول السلطة"، الذي كان يُخشى من أن يتمكن من إعادة "تمركز الثروة"، في حين أن المعيار الحقيقي لموضوعية "تداول الثروة" هو أيضا "تداول سلطةٍ" حقيقي.
أخرجتنا الثقافة الأوربية في تعاملها التَّراتُبي مع قيمتي "الحرية" و"العدالة"، من "حرية مجتزأة مزيفة" مثلتها "الديمقراطية الليبرالية، التي غيَّبَت "العدالة" بالاقتصاد الحر، إلى "عدالة مجتزأة مزيفة"، مثلتها "الشيوعية والاشتراكية"، التي غيَّبَت "الحرية" بالديمقراطية الشعبية المركزية.
أراد الأوربيون الأوائل أن يتمَّ منع "تداول الثروة"، فأسَّسوا لذلك بـ "تداول سلطة" غير حقيقي ومنقوص، يوهِم بتحقُّق "الحرية"، ويدفع إلى القبول بمبدإ اعتبار "العدالة" مجرد "متغير متحرك" و"وجهة نظر" لا قيمة لها أمام الثابت الأزلي المطلق المقدس ألا وهو "الحرية".
فيما أراد الأوربيون المحدثون أن يتم تحقيق "تداول الثروة"، فأسسوا لذلك بمنع ما ظنوه "تداول سلطة" هو "الديمقراطية الليبرالية"، فتراجعوا حتى عن "الحرية الهزيلة" في هذه الديمقراطية، بعدما فهموا أن هذه الحرية التي ظنوها هي "كل الحرية"، هي سبب انعدام "تداول الثروة"، وهم محقون في اعتبارها سببا في انعدام "تداول الثروة"، فحاربوا لأجل محاربتها كلَّ "الحرية"، وهم مخطئون في ذلك، لأن كل الحرية هي البوابة الحقيقية لكل العدالة، فأسَّسوا لفلسفتهم الجديدة هذه بـ "تداول ثروةٍ" غير حقيقي ومنقوص، يوهِم بتحقُّقِ العدالة، ويدفع إلى القبول باعتبار "الحرية" مجرد "متغير متحرك" و"وجهة نظر" لا قيمة لها أمام الثابت الأزلي المطلق المقدس ألا وهو "العدالة".
خلاصة القول إذن، هو أن مبدأ "تداول السلطة" في "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، منقوص وغير حقيقي ومزيَّف، لأنه لم ينتج المبدأ الرديف والشقيق له وهو "تداول الثروة". كما أن مبدأ "تداول الثروة" في "الاشتراكية والشيوعية" أوربية المنشأ، هو أيضا منقوص ومزيف وغير حقيقي، لأنته عجز بالمثل عن إنتاج المبدأ الرديف والشقيق له وهو "تداول السلطة".
وبإزاء فشل المشروعين الأوربيين في التأسيس لقيمتي "الحرية" و"العدالة"، بعد أربعة قرون من هيمنة ذينك المشروعين على أوربا وعلى العالم، بعجزهما – أي المشروعين – عن التأصيل لمبدأي "تداول سلطة" و"تداول ثروة" متكاملين، يُنْتِج كلٌّ منهما الآخر ويَنْتُج عنه، ويطوره ويتطور به، ويُفَعِّلُه ويَتَفَعَّل به، ويُؤَثِّر فيه ويَتَأَثَّر به، فإن العالم يقف على أعتاب مرحلة تتمخض عن البديل التاريخي الذي يمثل الخيار الحقيقي القادر على خلق معادلةٍ للحرية تولد في رحم العدالة، ومعادلةٍ للعدالة تولد في رحم الحرية، عبر تقديم توصيف دقيق لحالة التكامل بين مبدأي "تداول السلطة" و"تداول الثروة" في الواقع الموضوعي.
وهذا يُحَتِّم علينا البدءَ بعرض مبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة"، لنستجليَ طبيعة العلاقة العضوية التلاحمية القائمة بينهما، بوصف ذلك هو الأرضية التي ستمكِّنُنا من التأسيس لفلسفةٍ جديدةٍ في تنظيم الترابطات القائمة بين قيمتَي "الحرية" و"العدالة"، على قاعدة تحقيقهما لذينك التداولين على وجه الحقيقة لا الاجتزاء والابتسار، اللذين كانا السِّمة التي طبعت فلسفة أوربا في هذا الشأن بطابعها الخاص. وهو ما سوف نعالجه في مقالات لاحقة.