المناولة البدائية للأغذية وأثرها
في الماضي، كانت أخطاء تصنيع الأغذية أو حفظها تنال من الأسرة التي لا تحسن التعامل مع مثل تلك المواضيع، فمثلا كان إعداد الطعام في الأواني النحاسية (غير المبيضة) يحدث حالات من التسمم تؤدي لوفاة بعض من تناول الطعام. وكان الناس لا يلتزمون بمدة الصلاحية ولا يعرفونها أصلا، فالمادة صالحة للاستهلاك البشري حتى تنضب من مخزون صاحبها، سواء كانت حبوب أو زيوت أو أعشاب برية مجففة، أو حتى لحوم (قبل استعمال الثلاجات).
ولم يكن هناك إدعاء من المتضررين، كما لم تكن تُدرج تلك الأمور في اختصاص الادعاء العام. فمن يتوفى نتيجة خطأ من مثل تلك الأخطاء، كان يُدفن ولم يكن أحد ليفكر أن يستخرج له شهادة وفاة.
في هذه الأيام، انتشرت في الدول والبلديات هيئات لمراقبة الذبح ومحال بيع المواد الغذائية، وأصبحت دوائر الصحة تتبع مسببات الأمراض من خلال طرح الأسئلة على المرضى، ومن خلال الفحوصات المخبرية. وهذه الأمور تخفف من وطأة أذى المستهلكين من أخطاء لم يعد نطاقها يشمل الأسرة التي ارتكبت الخطأ.
لكن ذلك لم يمنع من وصول الأخطار للمستهلك من خلال قنوات يصعب مراقبتها في بعض الأحيان، أو تدني مقدرة الأدوات والوسائل التي تتم بها المراقبة. سنضرب مجموعة من الأمثلة يصعب على الأجهزة الراهنة في دولنا مراقبتها..
1ـ الخضروات:
تعتبر الخضروات من أكثر المواد الغذائية استهلاكا، فهي تستخدم طازجة أو في السلطة، بشكل طازج أو مسلوق قليلا، وفي الطبخ، والعصائر والحلويات الخ.
ومن العجيب أن كل أمراض الخضروات لا تؤثر على صحة من يستهلكها من بشر أو حيوانات، اللهم ذلك الاخضرار في ثمار (البطاطس) الذي يحوي مادة (السولاين) السامة، وتتكون تلك المادة نتيجة الزراعة لقسم من (الدرنات) بشكل سطحي ومن خلال تأثير الضوء على سطح الثمار.. أو نتيجة حفظ ثمار البطاطس بمخازن يخترقها ضوء الشمس.. وبإمكان المستهلك تجنب شراء أو استعمال الثمار الخضراء المثيرة للشكوك.
وبعد التطور التقني واستخدام الزراعة الكثيفة، لجأ الإنسان الى استخدام المبيدات الكيميائية حتى يحصل على إنتاج مربح، وتلك المواد الكيميائية لا تزول من على الثمار قبل أسبوع أو عشرة أيام.. وبعكسه فإن تناول تلك الثمار قد لا يقتل آكلها مباشرة، ولكن تراكمها بالجسم يسبب أعراض الشلل والخدر في الأطراف، و مشاكل في قوة البصر، وبعض الأمراض الجلدية، كما يهيئ الجسم للاستعداد للإصابة بأمراض خبيثة كالسرطان.
وإن كانت المبيدات الحشرية والفطرية الكيميائية تعتبر مصدرا لخطر التلوث بالكيميائيات، فإنه دخل على خط التلوث ري حقول الخضروات بمياه الصرف الصحي، وقد تصل أيونات مثل (البروم) و(الزئبق) وغيرها عبر الأنسجة النباتية وتستقر بالثمار لتكون مصدرا إضافيا للأخطار. وقد عاينت بنفسي بعض مزارع الأبقار التي كانت تتغذى على أعشاب خضراء مروية بمياه الصرف الصحي المعالج! وقد نفق من تلك الأبقار أكثر من نصفها خلال سنتين.. وتقدمنا بمشروع لاستثمار مياه الصرف الصحي لإنتاج الأخشاب بزراعة الحقول بأشجار (الجنار واليوكاليبتوس والحور وغيرها)، لكن لم يصغ أحدٌ ولا زلنا نرى بعض الخضروات والأعشاب مثل (الجزر والذرة الصفراء والبرسيم) تنقل منتجات الحقول المروية بمياه الصرف الصحي.
ومع الأسف، فإن غسل الثمار لا يزيل تلك السموم المتغلغلة في أنسجة الثمار إزالة كاملة، كما أن غليها وطبخها لا يزيلها أيضا.
كيفية وصول تلك المواد للمستهلك؟
هناك أكثر من طريق لوصول الثمار المعالجة كيميائيا للمستهلك، ولا يمكن للمزارع الذي يرش خضرواته اليوم بالمبيدات الكيميائية أن يصبر عليها أسبوعا أو أكثر دون أن يسوقها!
1ـ عرض الخضروات على قارعة الطريق قرب المزارع، واصطفاف سيارات المسافرين لشرائها ..
2ـ حمل الخضروات والتجول بها بين الأحياء السكنية، وبيعها للمواطنين.
3ـ توريد الخضروات للأسواق المركزية، وهناك ـ مع الأسف ـ لا يوجد وسائل متطورة لفحص الوارد من خضار.. بل هناك محاسب يستوفي رسوما على الوارد فقط ويجبيها لصالح البلدية.
في الدول المتقدمة، يشاهد محلات تحمل قطعة عليها (غذاء صحي) وهو ذلك المنتج الذي لم يتم معاملته كيميائيا، لا بالمبيدات ولا بالأسمدة الكيميائية، بل يعامل بالأسمدة الطبيعية العضوية، وبالمكافحة الحيوية، ويأخذ ذلك المنتج سعرا يعادل أربعة أضعاف سعر المنتَج الاعتيادي المعامل كيميائيا..
وفي فرنسا مثلا، هناك مديرية عامة لحشرة (أم العيد، أو أم علي، أو الدعسوقة) التي إذا ما وضعها المزارع في حقله فإنها تلتهم حشرات المن والبق المطرز وغيرها من الحشرات المؤذية للخضروات.. وما على المزارع إلا أن يتقدم لتلك المديرية ليعلن رغبته بالابتعاد عن استعمال الكيميائيات، ويثبت ذلك لديهم، فيزودنه بصندوق كرتوني به بعض من تلك الحشرات..
هذه مسئولية من؟
سيسارع من يقرأ تلك السطور أن يلصق المسئولية بجهة ما وبشكل سريع، فمنهم من سيرجع أسبابها للمزارعين، وسيجد ردا سريعا، بأن المزارع لو أتلف ناتج أسبوع من خضرواته لأصبح سعر الخضروات الخالية من الكيمائيات عدة أضعاف ما هي عليه الآن حتى يؤمن ربحه الكريم أو يسترد على الأقل تكاليف الإنتاج، ولا يظن أصحاب هذه الحجة أن المواطنين الذين يعانون بالوقت الحاضر بتأمين غذائهم وهو بالأسعار الراهنة، فكيف لهم بشرائه وهو بسعر مرتفع؟
ومنهم من يرمي تلك المسئولية على كاهل الحكومة، التي لا تراقب بدقة ما يقدم للمواطنين من غذاء. والحكومة تعلم أن المزارعين يعانون من كلف عالية ولا يستطيعون مواكبة العصر، وحتى يتم لهم تقديم غذاء جيد، عليها أن تعوضهم بدل خسائرهم أو تدعمهم في جزء منها، والحكومة ستقول أن موازنتها وإمكانياتها لا تسمح لها بذلك.
والنتيجة النهائية لهذا التطور الحضاري، أن تكثر الإصابات الناتجة من سوء الغذاء، وعلى الحكومة تأمين العلاج والمداواة لهؤلاء المواطنين الذين يعيشون تحت رعايتها..
بالإمكان السيطرة على تلك المشكلة من خلال إنشاء قطاع مختلط بين الحكومة والمنظمات التعاونية أو القطاع الخاص، وتكون مهمة الإشراف على التسويق من قبل هيئة متخصصة أمينة على صحة المواطن..
يتبع