المياه.. حق من حقوق الإنسان.. أحمد الشربيني
في الوقت الذي تخطط فيه الولايات المتحدة لإرسال مهمة فضائية للبحث عن المياه على كوكب المشتري في العام 2015، يموت على كوكبنا نحن كل عام 1.8 مليون طفل أقل من خمس سنوات بسبب المياه غير النظيفة، ويعاني 1.1 مليار إنسان من عدم توفر مياه الشرب النظيفة، و 2.6 مليار إنسان محرومون من مرافق الصرف الصحي.
صورة قبيحة أبرزها تقرير التنمية البشرية للعام 2006، الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية في نوفمبر الماضي تحت عنوان «ما هو أبعد من الندرة: القوة والفقر وأزمة المياه العالمية».
الفقراء هم أول من يعانون من أزمة شح المياه
ويواصل تقرير التنمية البشرية تشكيل الحوارات بشأن بعض أكثر التحديات الملحة التي تواجه البشرية. وقد خصص موضوعه لهذا العام لقضايا المياه. وأهم ما تضمنه تقرير هذا العام أنه رفض ترويج البعض لأن أزمة المياه العالمية تتمثل في النقص الشديد في الإمدادات الفعلية، ويرجع جذور الأزمة إلى الفقر وعدم المساواة وعلاقات القوى غير المتكافئة فضلا عن سياسات إدارة المياه غير السليمة التي تزيد من حدة ووطأة ندرة المياه.
الريف في أشد الحاجة إلى أنظمة ري حديثة
وقد ألقى التقرير الضخم الضوء على موضوعين مهمين في أزمة المياه العالمية. الموضوع الأول، الذي تم بحثه في الفصول من الأول إلى الثالث، هو المياه من أجل الحياة. فتوفير المياه النظيفة وتصريف المياه المستعملة وتوفير الصرف الصحي هي ثلاثة من أهم أسس التقدم البشري. وقد سلط التقرير الاهتمام على عواقب عدم وضع هذه الأسس في مكانها، ووضع بعض الاستراتيجيات اللازمة لتعميم الحصول على المياه وخدمات الصرف الصحي.
مواسم الجفاف تسبب التوترات في كل أنحاء العالم
أما الموضوع الثاني فهو المياه من أجل سبل المعيشة، الذي بحث في الفصول من الرابع إلى السادس، وركز التقرير فيه على المياه كمورد إنتاجي يشترك فيه سكان البلد الواحد ويعبر الحدود بين البلدان، مع إبراز التحديات الهائلة التي تواجهها العديد من الحكومات في الوقت الحالي فيما يتعلق بإدارة المياه على نحو يتصف بالإنصاف والكفاءة.
نقص المياه أصبحت مشكلة حادة في كل أنحاء الشرق الأوسط
لماذا يموت الأطفال؟
أكد التقرير أن أزمة الصرف الصحي العالمية تتسبب بملايين حالات الموت التي يمكن تجنبها، والسبب الأكبر لذلك هو التلوث الناجم عن الفضلات الإنسانية. ويظهر التقرير أن فاعلية التخلص من الفضلات الإنسانية هي أحد أهم الأمور التي تحدد بقاء الأطفال على قيد الحياة في شتى أنحاء العالم. ويقول واضعو التقرير إن تحسين الصرف الصحي في البيت ـ بتطويره من التغوط في الخلاء إلى استخدام مرحاض أرضي إلى تركيب مرحاض مزود بصندوق ماء للتنظيف ـ يقلل المعدل العام لوفيات الأطفال بمقدار الثلث تقريبًا.
وقد يبدو المرحاض حافزا غير متوقع للتنمية البشرية، ولكن التقرير يقدم أدلة وفيرة وقوية تظهر تأثيره المفيد على رفاه الناس. وتظهر الأبحاث أن توافر المراحيض المزودة بصناديق مياه للتنظيف في البيرو يقلص خطر موت الأطفال بنسبة 59 في المائة، مقارنة مع وفيات الأطفال في البيوت التي تفتقر إلى أنظمة صرف صحي ملائمة. وكذلك تظهر البيانات أن خطر موت الأطفال في مصر ينخفض بمقدار 57 في المائة في البيوت المزودة بمرحاض.
ويقول كفن وتكنز، من مكتب تقرير التنمية البشرية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمؤلف الرئيسي للتقرير: «إن عبارة - عدم توافر الصرف الصحي - هي طريقة مهذبة لقول إن الناس يحصلون على المياه للشرب والطبخ والغسل من الأنهار والبحيرات والبرك والمياه السطحية الملوثة بفضلات البشر والحيوانات. كما تعني أنه في الأحياء الفقيرة مثل كيبيرا، الذي يقع على أطراف نيروبي ، يضطر الناس للتغوط في أكياس بلاستيكية ويلقون بها إلى الشوارع بسبب عدم وجود أي خيارات أخرى».
وبحسب التقرير، فإن أزمة المياه والصرف الصحي هي - قبل كل شيء - أزمة يعاني منها الفقراء. إذ إن ما يزيد عن 660 مليون شخص ممن يفتقرون إلى أنظمة الصرف الصحي يعيشون على دخل يبلغ دولارين أمريكيين يوميا فقط أو أقل من ذلك، كما أن 385 مليون شخص منهم يعيشون على دخل يبلغ دولارًا أمريكيًا واحدًا أو أقل يوميا. إضافة إلى ذلك، فإن معدلات التغطية بخدمات الصرف الصحي تقل كثيرا عن التغطية بخدمة توصيل المياه، حتى للجماعات ذات الدخل الأعلى: إذ إن ربع أغنى 20 في المائة من الناس في البلدان النامية لا تتوفر لهم أنظمة صرف صحي ملائمة.
وأكد التقرير أن توافر الصرف الصحي الأساسي هو هدف حيوي بحد ذاته للتنمية البشرية؛ فبالنسبة لملايين الناس، يشكل غياب مرحاض قريب آمن تتوافر فيه الخصوصية مصدرا يوميا للهوان، كما أنه تهديد للرفاه. ولكن توافر المرحاض يشكل معبرا إلى تنمية بشرية أوسع بكثير. وأشار التقرير إلى أنه بدلا من الإقرار بأزمة الصرف الصحي على أنها حالة طوارئ دولية، وهي الصفة التي تستحقها، فإنها مغيبة تماما من الحملات السياسية والحوارات العامة. وذهب إلى إن عدم المساواة بين الجنسين هو العائق الثاني الكبير أمام التقدم. إذ يقل احتمال انخراط الفتيات في المدارس، وخصوصًا بعد سن البلوغ، إذا لم تتوافر فيها مرافق صحية ملائمة، ويقدر واضعو التقرير أن نصف البنات اللاتي يتركن المدارس في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، إنما يفعلن ذلك بسبب سوء مرافق المياه والمرافق الصحية في المدارس.
وتظهر الدراسات من كمبوديا وإندونيسيا وفيتنام أن النساء يعتبرن وبصفة دائمة مسألة توافر مرحاض من أهم أولويات الحياة الكريمة والصحة الجيدة، ولكن نادرا ما تصل أصواتهن.
ويقول تقرير التنمية البشرية للعام 2006 إن المزارعين الفقراء يواجهون ما يمكن أن يكون أزمة مياه كارثية بسبب ترافق التغير المناخي مع المنافسة على الموارد المائية الشحيحة. ويوصي التقرير باتخاذ خطوات ضرورية فورا لتجنب حدوث أزمة خطيرة، وهي: ترسيخ حقوق الفقراء في الريف، وزيادة إمكاناتهم في الوصول إلى أنظمة الري والتكنولوجيا الحديثة، ومساعدتهم على التكيف مع التغير المناخي الذي لا يمكن تجنبه.
ويقول كفن وتكنز، المؤلف الرئيسي للتقرير: «إن التحدي الأكبر في المستقبل هو كيفية إدارة الموارد المائية عندما نواجه اشتداد المنافسة والتغير المناخي، لتلبية الحاجة المتنامية للغذاء وفي الوقت ذاته حماية إمكانية الفقراء والمستضعفين في الوصول إلى المياه».
والواقع أن الغالبية العظمى من الناس الذين يعانون من سوء التغذية في العالم ـ ويقدر عددهم بـ 830 مليون شخص ـ هم من المزارعين الصغار، ومربي الماشية، وعمال المزارع. وسيتعين على المناطق التي يتركز فيها الجياع في العالم امتصاص الجزء الأكبر من السكان الإضافيين في العالم خلال العقود المقبلة، ويقدر عددهم بـ 4.2 مليار شخص بحلول العام 2050. وسيتواصل عدد المعرضين للخطر بالازدياد، كون معظمهم يعتمدون على الزراعة المطرية.
ويهدد التغير المناخي بتصاعد انعدام الأمن المائي إلى مستوى غير مسبوق. وحتى إذا تم تطبيق اتفاقية لتخفيف انبعاثات الكربون من خلال التعاون الدولي، فإن التغير المناخي الخطير أصبح حاليا أمرا لا يمكن تجنبه تقريبا، أما الذين سيعانون أشد التبعات فهم البلدان والشعوب الذين لا تقع عليهم أي مسئولية عن المشكلة. فمثلا، تواجه أجزاء من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء خسائر في المحاصيل تصل إلى 25 في المائة بسبب الأنماط المناخية الناجمة عن التغير المناخي. وفي الوقت ذاته، فإن زيادة معدل ذوبان الجليد، وتناقص هطول المطر يهدد الأنظمة الغذائية الكبرى في جنوب آسيا.
حروب المياه
ومن جهة أخرى، قال التقرير إن التعاون في موارد المياه أكثر انتشارا من الصراعات ـ وهو أمر أكثر أهمية من أي وقت مضى. وشكك التقرير في التوقعات بأن التنافس المتزايد على موارد المياه سوف يؤدي بالضرورة إلى إثارة صراعات مسلحة، ووجد أن التعاون عبر الحدود على الموارد المائية هو حاليا أكثر انتشارا بكثير مما هـو مفترض بصفة عامة، ويطرح التقرير نماذج عدة لحـل النزاعات الدولية المستقبليـة على المياه.
ويقول التقرير إنه بالنظر إلى الأعوام الخمسين الماضية فقد كان هناك نحو 37 حالة تم رصدها للجوء إلى العنف بشأن المياه، وقد حدثت جميع تلك الحالات، ما عدا سبع منها، في الشرق الأوسط. ومع ذلك، وعلى الجانب الآخر، نجد أنه تمت مناقشة أكثر من 200 اتفاقية حول المياه في هذه الفترة الزمنية.
أصبحت الحاجة إلى زيادة التعاون عبر الحدود الوطنية لضمان الأمن المائي للفقراء أمرًا ملموساً اليوم أكثر من أي وقت مضى، إذ من الممكن بحلول عام 2025، أن يكون هناك أكثر من ثلاثة مليارات شخص يعيشون في بلدان تعاني من إجهاد مائي. ويشدد واضعو التقرير على أن الإنذارات الزائفة بشأن اندلاع حروب وشيكة بسبب الماء من شأنها فقط أن تشتت الانتباه عن التهديد الحقيقي الذي تشكله أزمة المياه العالمية للتنمية البشرية ـ وهو تهديد يستمد جذوره من القوة والفقر واللامساواة.
ويقول كفن وتكنز، المؤلف الرئيسي للتقرير، «إن إدارة المياه المشتركة قد تكون قوة للسلام أو للنزاع، ولكن السياسة هي التي تحدد المسار الذي يتم اختياره».
ويقول التقرير إن الماء هو المورد الطبيعي الذي يستعصى على القيود بامتياز: فالأنهار والبحيرات والمياه الجوفية تعبر الحدود السياسية دونما جواز سفر أو وثائق. ثمة مائة وخمسة وأربعون بلدا تشترك بما يعرف بالأحواض المائية «العابرة للحدود» ـ مجمعات الأمطار أو أحواض الصرف المائية، بما في ذلك البحيرات والمياه الجوفية الضحلة، التي تشترك فيها البلدان المتجاورة. كما أن هذا العدد في ازدياد، ويعود ذلك بصفة كبيرة إلى تفتت الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا السابقين. ففي عام 1978 كان يوجد 214 حوضا مائيا دوليا؛ وحاليا يبلغ العدد 263.
الشرق الأوسط
المكان الذي يتضح فيه هذا الأمر على أشد ما يكون، هو المناطق الفلسطينية المحتلة. يبلغ عدد السكان الفلسطينيين نصف عدد سكان إسرائيل، ولكنهم يستهلكون من المياه بين 10 - 15 بالمئة فقط مما يستهلكه الإسرائيليون. وفي الضفة الغربية، يستخدم المستوطنون الإسرائيليون ما يقارب تسعة أضعاف لكل فرد ما يستخدمه الفلسطينيون. في الواقع، يعاني الفلسطينيون أعلى مستويات نقص المياه في العالم.
ويساهم في خلق هذه المشكلة حجم التوفر الفعلي للمياه، إضافة إلى السياسات. ويؤدي نقص المياه إلى إعاقة قدرة المزارعين على إنتاج الغذاء وكسب لقمة العيش، في حين أن القواعد الحالية لتوزيع المياه تخصص استخدامًا غير متساو للأحواض المائية المشتركة، ويعتبر أيضا توزيعا غير عادل.
ولكن ليس بالضرورة أن يكون الوضع على هذه الشاكلة. إذ يمكن للتعاون الأفضل أن يؤدي إلى حل المشكلة، كما تدل أمثلة إقليمية أخرى. فعلى سبيل المثال، وقعت إسرائيل مع الأردن عام 1994 اتفاقية سمحت للأردن باستخدام بحيرة طبريا الإسرائيلية لتخزين المياه الشتوية الجارية. كما سمحت لإسرائيل بأن تستأجر من الأردن عددا من الآبار لسحب المياه لاستخدام الأراضي الزراعية.
وكان مما لم تحسب له الاتفاقية حسابا، هو أسوأ موسم جفاف في السجل المدون الذي حدث عام 1999، مما أدى إلى حدوث توتر على أثر تقليص كمية المياه المرسلة إلى الأردن. ومع ذلك، ظلت الاتفاقية جارية ـ مما أظهر التزام الطرفين بالتعاون في شئون المياه. ويؤكد واضعو التقرير أنه كحال اتفاقية المياه بين إسرائيل والأردن التي ترافقت مع اتفاقية السلام بين البلدين التي تم التوصل إليها عام 1994، فإن التسوية السياسية النهائية بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة سوف تتطلب أن تتضمن ميثاقا حول مصادر المياه المشتركة بينهما.
ويشكل نقص المياه مشكلة حادة في جميع أرجاء الشرق الأوسط. ويشير التقرير إلى أن إيران والعراق هما الدولتان الوحيدتان في المنطقة اللتان تقعان فوق عتبة الإجهاد المائي، وأن 90 بالمئة من سكان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سوف يعيشون في بلدان تعاني نقص المياه بحلول عام 2025. ولكن هذه المنطقة الجافة ليست وحيدة في حاجتها إلى إيجاد حلول مناسبة لمشاكل الإجهاد المائي.
ويقول تقرير التنمية البشرية للعام 2006، إن أحد أشد أوجه التفاوت في خدمات المياه والصرف الصحي هو بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية، وخصوصا لأن مستوى الدخل ينزع أن يكون أقل في المناطق الريفية، ولكن أيضا لأن خدمات الإمداد بالمياه أصعب في الريف، وعادة ما تكون أكثر كلفة قياسا مع عدد السكان لأن سكان الريف عادة ما يكونون منتشرين على مساحة أكبر مقارنة مع سكان المناطق الحضرية. وكذلك تلعب العوامل السياسية دورا في هذا الأمر، إذ إن سكان المناطق الريفية - وخصوصا المناطق الهامشية - عادة ما يكون لهم صوت أضعف بكثير قياسا بأقرانهم في المناطق الحضرية.
ماذا يُنفق على المياه حاليا؟
تعاني خدمات المياه والصرف الصحي من نقص مزمن في التمويل. وعادة ما يكون الإنفاق العام أقل من 5.0 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وتظهر الأبحاث التي أوردها تقرير التنمية البشرية للعام 2006 أن هذا الرقم يتضاءل بسبب الإنفاق الكبير في المجال العسكري: ففي أثيوبيا على سبيل المثال، تبلغ الميزانية العسكرية 10 أضعاف ميزانية المياه والصرف الصحي ـ وفي باكستان، 47 ضعفا.
وناشد واضعو التقرير جميع الحكومات أن تعمل على تجهيز خطط وطنية لتسريع التقدم في توفير المياه والصرف الصحي، بحيث تتضمن أهدافا طموحة تستند إلى تمويل يصل إلى واحد في المائة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي، واستراتيجيات واضحة للتغلب على جوانب عدم المساواة.
ويقول التقرير إن خدمات المياه والصرف الصحي لا تعتبر ضمن أولويات الدول المانحة، إذ لا ينفق على هذا القطاع سوى خمسة في المائة من المساعدات التنموية عبر البحار. ويقول واضعو التقرير إنه من الضروري مضاعفة تدفق المساعدات ـ بإضافة ما بين 3.4 مليار إلى 4 مليارات دولار أمريكي سنويا كي تكون هناك فرصة لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية المتعلقة بالمياه والصرف الصحي.
ويخلص إلى أن إحراز التقدم في مجال المياه والصرف الصحي يتطلب استثمارًا أوليًا كبيرًا وفترة طويلة جدا لاسترداد العوائد، ولهذا فإن الاستراتيجيات التمويلية المبتكرة، مثل مرفق التمويل الدولي هي أمر حاسم للنجاح. وستكون هذه الأموال قد أنفقت إنفاقا حسنا، وذلك وفقا لواضعي التقرير الذين يقدرون أن العوائد الاقتصادية المتأتية عن الوقت الذي يتم توفيره، وزيادة الإنتاجية، وتقليص التكاليف الصحية تبلغ ثمانية دولارات لكل دولار يتم استثماره لتحقيق الأهداف الخاصة بتوفير المياه والصرف الصحي.
أحمد الشربيني