الخليفة المعتصم ومواقف سجلها التاريخ
الخليفة المعتصم ومواقف سجلها التاريخ
د. أحمد منصور
يتحدث مؤرخنا العربي جلال الدين السيوطي (849-921هـ) في كتابه المميز تاريخ الخلفاء عن الخليفة العباسي المعتصم بالله (178-226هـ) والذي حكم بغداد ما بين (218-227هـ) وكان الثالث من ثمانية أولاد للخليفة العظيم هارون الرشيد .
وقد اتصف بشجاعة وقوة وهمة رفعته ليكون من أعظم الخلفاء وأهيبهم كما اتصف بمروءة وحمية في الدفاع عن الضعفاء والمظلومين من شعبه ببأس لم يعرفه أحد من حكام العرب قبله.. يقال إن المعتصم بينما كان يطوف مع والدته أنحاء بساتينه الممتدة على شاطئ دجلة الوسنان بنسائم الربيع المنعشة.. ورغم نضرة المكان وجمال الورود والأشجار المثمرة, إلا أنه بدا حزيناً لا يصغي لفرحة العصافير وهي تتراقص بين الأفنان.. قالت والدته تحدثه: لاشك أن استغاثة تلك المرأة بمناداتك (وا معتصماه) قد أحزنتك.. إن إهانة امرأة من رعيتك شيء لا يمكن السكوت عليه.. خلال أيام متسارعات لاهثات كان جيش يتقدمه الخليفة المعتصم بالله يقطع نهري دجلة والفرات ويلاقي جيوش الروم ويشتبك معها في معارك فاصلة لرد كرامة امرأة عربية. كتب مؤرخنا جلال الدين السيوطي في حوادث تلك الموقعة المظفرة: "في سنة ثلاث وعشرين ومئتين توجه الخليفة المعتصم بالله لتأديب جنود الروم لأن أحدهم أهان امرأة عربية فأنكأهم نكاية عظيمة لم يسمع بمثلها لخليفة فشتت جموعهم وخرب ديارهم وفتح حصونهم في "عمورية" وقتل منهم ثلاثين ألفاً وسبى مثلهم.." ويقول الرواة أنه بعد انتصار المعتصم بالله بحث عن المرأة التي استغاثت به ولما وجدها انحنى أمامها وخاطبها: - سيدتي سمعت نداءك وأنا أمامك.. وهناك أشلاؤهم تعتذر منك. عندما وصل المعتصم بالله إلى بغداد كانت في عرس النصر والناس يتحدثون ان الحقا لمهضوم لا يستعاد إلا بالقوة وما قاله المنجمون إن الحرب لا تعرف لمن تكون الغلبة له فيها وإن النجوم لا تنصح بإعلان الحرب ولكن سيف المعتصم كذب أقوال المنجمين وعليهم الصمت فالحق لا يستعاد إلا بالسلاح.. لقد وقف شاعرنا فرحاً ينشد أجمل قصائد الفخر بالنصر العربي: السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ليست بعجم إذا عدت ولا عرب إن موقعة عمورية ليست الأولى في وقائع الدفاع عن الكرامةالعربية فقد سبقتها موقعة (ذي قار) يوم تجمعت القبائل العربية وانتصرت لكرامتها التي حاول امبراطور فارس النيل منها.. كذلك فإن أمير حلب سيف الدولة الحمداني لم يغفل يوماً عن رد عدوان على إمارته حلب من قبل جبروت امبراطورية الروم ومن أشهر مواقعه انتصاره وتحريره (قلعة الحدث) وكان برفقته أبو الطيب فأنشده مباهياً بشجاعته: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم هل الحدث الحمراء تعرف كونها وتعلم أي الساقيين الغمائم من القيم العربية المتجذرة في النفوس: رفض الظلم ومقاومته حتى إزالته.. كما أن الكرامة والمروءة هي هدية الإنسان العربي الذي يتلقى الصدمة فيتفاعل بها ثم يندفع للتصدي لها وإزالة وجودها وهذا ماحدث: هوجمت بلاد الشام بجحافل بشرية لغاية السرقة واحتلال الأرض مستغلين حالة الضعف العربي وتفككه ابتداء من عام 1096م وظلوا متمسكين بالمدن والأراضي العربية حتى عام 1291م أي حوالي قرنين من السنين وخلال تلك السنوات العجفاء شهدت أرضنا العربية المقدسة مقاومة ضارية من قبل رجال نذروا أنفسهم لطرد المحتل فكان هناك عماد الدينالزنكي الذي حرر مدينة الرها (اورفه) وتلاها ابنه نور الدين الذي جعل حلب عاصمةدولته وضم إليها شمال العراق ومدن حماه وحمص ودمشق وقام بتحرير الجولان حيث كانوايتحصنون فيه واشتبك معهم بمعارك حتى أزال وجودهم من حصونهم في مدينة بانياس وأصبحالطريق لتحرير بيت المقدس سالكاً.. وقد تحدث مؤرخنا (ابن القلاني) في مؤلفه (ذيلتاريخ دمشق) عن هذا النصر العظيم في الجولان. بينما (أحفاد المعتصم بالله) يقاومون الغزو الأوروبي لبلادهم ويحررون المدن العربية الحزينة جاءهم البلاء المغولي منأقصى الشرق في العام 1258م بمئات الألوف التي اقتحمت عاصمة الخلافة العباسية الضعيفة المنهارة بقيادة هولاكو واستباحوها قتلاً وتدميراً ولصوصية وكانت المدن العربية تتساقط أمامهم وعندما وصلوا (عين جالوت) في فلسطين.. كانت المقاومة العربية تنتظرهم من جميع المدن وعلى رأسهم بطل مقاوم عنيد رفض التهديد المغولي الهولاكي إنها لسلطان سيف الدين قطز وقائده بيبرس.. إنه الانتقام العربي تجمع الثأر العربي من جميع المدن العربية التي ذاقت المذابح والدمار: من بغداد - حلب- دمشق - فرسان البوادي - فرسان فلسطين - وكانت موقعة دموية كادت المقاومة العربية تنهار ولكن البطل سيف الدين قطز رمى عمامته أرضاً وصرخ إذا انتصروا علينا سيكتسحون مصر والحجاز.. اصبروا وصابروا وحمل على الأعداء بصبر وثبات لم يعهده المغول. فهم في وقائعهم السابقة كانت المدن تنهار أمام جموعهم واندفاعهم الدموي ولكن الأمر اختلف في هذه الموقعة.. إنها روح المقاومة العربية التي فضلت الموت خياراً وحيداً بديلاً عن القهر والذل وتسلط الأجنبي.. المقاومة العنيدة لهم والصمود الأسطوري للعرب أحدث شرخاً في صفوف المغول وسقط قائدهم فولوا الأدبار هاربين وانتصرت المقاومة العربية وانتصر المعتصم بمنهجه وانتصر الحق العربي.