النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الحادية عشرةالفصل الرابعحجرة واسعة في شقة فاخرة مُطِلَّة على النيل. طاولات مختلفة الأحجام تناثرت في الحجرة بغير انتظام. الكراسي متشابهة. عبق الحياة وعطر الحب يخترقان النوافذ, يرسلهما ضجيج الحركة من كوبري عباس. حجرة أخرى تزَمَّلَت بالعتمة. تحتضن صفائح الموت. أسلاك وساعات توقيت وعتاد كهربائي وأجهزة ريموت خاصة كانت هناك أيضا. والتابوت الأسود مفتوح ينتظر الفريسة. "طوني" و"توماس" و"ليفانوف" منشغلون بالمتفجرات. أبراهام يراقب ويتابع ويتنقل بينهم.أبراهام يقف بجانب "طوني", يراقبه بتفحُّص وهو منهمك في تفريغ الصفائح من (التي. إن. تي) وترتيبها وربطها بالأسلاك وساعات التوقيت.. "كيف تسير معك الأمور يا طوني؟".طوني.. "سلسة لغاية الآن, لكن الكمية كبيرة جدا ويجب أن يتم تجهيزها بطريقة مختلفة عن الحالات العادية. لذلك فإنها تحتاج إلى وقت".يربت على كتفه وهو يتحرك نحو توماس.. "لا بأس طوني. معنا وقت كاف لإعداد كلِّ شيء قبل حضور الإمبراطورة". يصل في هذه اللحظة إلى حيث يجلس توماس, وينظر إليه مبتسما.. "لا أظن أن عملك يحتاج إلى وقت أيضا؟".توماس هازا رأسه باستهزاء.. "أتظنني ألعب يا أبراهام؟ إن ما أقوم به لا يقل أهمية وصعوبة عما يقوم به طوني. وربما يحتاج إلى وقت أكثر مما يحتاجه". يلتفت إلى طوني ويبادله النظرات ويشير إليه بإبهامه دون كلام. التزم أبراهام الصمت بعد أن لمس توافقا في الرأي غير معلن بين طوني وتوماس. يتجه نحو التابوت بعد أن مرَّ بليفانوف دون أن يحدثَه.وقف على رأس التابوت, ونظر إليه بعينين جاحظتين مخيفتين.. "وهنا ستنام الإمبراطورة. أليس كذلك؟". يلتفت إلى ليفانوف الذي كان أقرب الثلاثة إليه. ليفانوف ينظر إليه ولا يجيب. يشيح أبراهام بوجهه عنه ويعود ليركِّزَ نظرَه إلى التابوت. ثم يقول بلهجة مستهزئة ونظرات فاحت بالحقد.. "نوم هانىء يا سيدتي. نوم هانىء".ينظر إلى ساعته. يعبث بكبسة التاريخ. يهز رأسه.. "بقي لها يومان وتصل إلى القاهرة".طوني من بعيد.. "هل جهزوا من يراقبها عندما تصل؟".أبراهام.. "هه. من يراقبها! ومن يقتلها! ومن.. يخرج الكنز الذي في بطنها أيضا!". يصمت لحظة وهو يمعن النظر إلى التابوت, ويمرِّر يديه على خشبه الأملس.. "هذه السيدة حكاية مهمة. قصة مثيرة. لا تقلق يا طوني. كل شيء معد وجاهز". يضحكون ويستمرون في عملهم.سلوى وسعيد ينتظران قيام الرحلة إلى القاهرة. وجه سلوى شحوب وإعياء منذ أفاقت من البنج. ساعات وأيام قضاها سعيد وهو يحاول إعادة التوازن إلى نفسها المشروخة, وتحريرها من إحساسٍ بالقرف والاشمئزاز سيطر على كل مشاعرها بعد أن عادت إلى الوعي, بلا جدوى. في المستشفى كما في غرفتها في الفندق, ناضلت سلوى بألم كي تنسى أن يهودا وراحيل قد استوطناها واحتلا أحشاءها. لم تتمكن من التحرر من هذا الإحساس رغم أنها حاولت. وبالدموع وبالبكاء كانت ترجو سعيد وتتوسل إليه ليغرقها في النوم كي تنسى. كوابيس ليلية لم تعهدها من قبل, كانت تمزق سكينتَها وهدوءَها وتضِنُّ عليها بالراحة. سلوى عادت تحلم. لكن الحلم كان وخزا يُضْعِف. لا وقت الآن لأحلام متولي. لقد تأخرَت في العودة. تأخرَت كثيرا.تبعثرت قدرات سعيد بين جهدٍ مضنٍ بذله لتوجيه انفعالات سلوى والسيطرة عليها ودفعها نحو الهدوء والاستقرار والتحرُّر من أحاسيسها الجديدة, وبين مقاومةٍ خاضها وهو يئن متعبا تحت وطأة خوفه عليها, بعد الذي اعتراها من تحوُّلٍ لم يكن متوقعا ولا مفهوما, في ضوء لهفتها السابقة على إجراء العملية. أدرك سعيد أن مأساة زوجته أكبر من كلِّ محاولاته. عرف أن إحساسَها الغريب الذي يجعلها ترغب في التقيؤ, وتبدأ معه بالصراخ ومحاولة الهروب من وعيها, والذي يجعلها تنهار تحت ثقل وخزٍ مؤلم يجتاح جسدها, ليس نابعا من قرف واشمئزاز بسبب رؤيةِ منظر مقرف تشمئز منه النفس. لأن من كان هذا حاله يزول إحساسه بزوال مُسَبِّبِه من أمامه. أما سلوى فأمرها كان مختلفا, دفعها إلى المستحيل كي تبقى تحت تأثير النسيان.إن التذكر عند سلوى, لم يكن من النوع الذي يجعلها تعيش حالة تصورية لحدث ما, مر بها وانتهى وجوده كواقع, بحيث يمكن احتمال وطأة تذكُّرِه, ما دام هذا التذكُّر سيتحول مع الأيام إلى أداة لاستحضار حادثة سينعدم تأثيرها السلبي على النفس في العادة. نعم إن تذكُّر سلوى لم يكن من هذا النوع, بل كان استحضارا لواقع تخللها وسكنها, كما يتخلل الماء قطعة من الإسفنج ويسكنها ليصبح جزءا مها. هي كانت تريد النسيان الدائم, لأن التذكُّر أيا كان يعيدها إلى الواقع الدائم الذي أحدث في أعماقها انقلابا خطيرا لم تعد تقدر على تحمُّلِه.عندما كانت سلوى تتذكر, فإنها كانت تعيش حالةَ من يحسُّ ويرى مرة أن دودا أسود ومرة أخرى أن دودا أزرق يسري في عروقه ويسكن في بطنه, ولا يستطيع التخلُّص منه. فترتجف وترتعب وترتعش وتشمئز, وتصاب بالهستيريا هاربة بكل ذلك من دائرة التذكر الخانقة المُقَشْعِرَة للبدن والأحاسيس, إلى فضاءات النسيان الواسعة.أحيانا كانت تلفها حالات من الهدوء والسكينة حتى وهي تتذكر وكأنها استطاعت وبطريقة غير مفهومة أيضا, أن تفصل بين سلوى التي تتذكر وبين سلوى الواقع الذي تتذكره. فلا ترى الدود الأسود والأزرق في داخلها, بل تراه في مكان آخر اسمه أيضا سلوى, لكنها كانت تتحدث عنه بصيغة الغائب. وقعُ التذكر عليها في هذه الحالات القليلة كان محتملا. وسعيد عندما أدرك هذه المعادلة وانتبه إليها في حالة زوجته، عمل على تثبيتها كلما هلَّت, وعلى جعل سلوى تعيشها كعلاج مؤقت ومتاح, ريثما تشفى من هذا الإحساس الغريب كلِّه.لقد أصبح الهدوء عند سلوى يعني تمكنُّها من الفصل بين سلوى متولي، وبين كلٍّ من دم ورحم سلوى متولي. ومع أن هذا أمر صعب للغاية, ولا يحدث في العادة إلا لإنسان قوي جدا شديد السيطرة على نفسه, أو لإنسان غير سوي نفسيا. وهو ما لم تكن قد وصلت إليه سلوى بعد, فقد كان القدر يساعدها ويخفف عنها أوجاعها بأن يجعلها تعيش هذه الحالة من حين لآخر.وفي هذه اللحظات العابرة التي لم تكن تدوم طويلا. كانت سلوى تتحاور مع سعيد حول المستقبل, وحول مولودهما القادم. كيف ستتعايش معه؟ هل ستتقبله؟ وسعيد يقود هذا الحوار الحساس بصعوبة قوامُها الحذر الشديد والخوف من أيِّ انتكاسة مفاجئة, كي يحافظ قدر ما يستطيعه على هذه اللحظات الهادئة التي أصبحت عابرة في حياة سلوى منذ أفاقت من بنج جولدي ومنذ أن انتكست على عقبيها إلى أحلام متولي, لكن بعد أن كانت أحلام جولدي قد أحرقت كلَّ الأرض الخصبة الصالحة لنموها, فلم تعد تقوى على العيش في مخيلة أحرقت خصوبتها.خلف سلوى وسعيد في قاعة الانتظار, جلس ثلاثة رجال كانوا يلبسون نظارات سوداء, ويتظاهرون بقراءة جرائد يحملونها. كانوا متباعدين. بعد قليل.. "على السادة المسافرين المتوجهين إلى القاهرة على متن خطوط شركة سيناء للطيران على الرحلة رقم 312 التوجه إلى بوابة الخروج رقم 11". يبدأ الركاب بالتوجه إلى بوابة الخروج. سعيد يعانق سلوى بحنان دافق, وخلفهما المراقبون الثلاثة. الركاب يأخذون أماكنهم بمساعدة المضيفات ويستعدون لإجراءات الإقلاع. سلوى قرب النافذة وبجانبها سعيد.الركاب منشغلون بتناول وجبة الطعام. والمضيفون يقومون على خدمتهم. سعيد يداعب سلوى التي توشَّحت بابتسامة مرهقة, وينظران عبر زجاج النافذة. يظهر البحر وجزر متناثرة. سلوى هدوء ونسيان. المراقبون خلعوا نظاراتهم, انكبوا يأكلون بشراهة كما الثيران. يختلسون النظرات من حين لآخر إلى حيث يجلسان. يتخاطبون بحركات العيون وإشارات الرؤوس وإيماءات الوجوه. موسيقى وضحك أطفال وطنين أحاديث. هدير المحركات إحساس بالألفة والأمان. أم تطلب ماء لطفلها, والمضيفة ترشد عجوزا إلى المرحاض. عربات نقل بقايا الطعام هنا وهناك. رجل طويل القامة أرهقه الجلوس فوقف . لفت انتباهَه شاب يلتهم شفتي فتاة استسلمت في حضنه. يبتسم ويتذكر. سلوى تداعب النسيان وتناغش الجزر بعينيها, وسعيد يفيض بالحنان. الطائرة تشق الفضاء نحو مصر.. ماذا بعد يا زرقاء؟الضحك والألفة والأمان والهدوء. بكاء. غربة. رعب وصراخ.. فجأة, ميلان في الطائرة وحركة عنيفة نحو اليمين ثم نحو الأسفل. مقدمة الطائرة تهوي بأكملها ثم ترتفع. الطائرة تهتز. المضيفون والمضيفات يتدافعون ويتساقطون على الجانبين وعلى أرضية الطائرة بسبب شدة الاهتزاز. عربات الطعام تضيِّق الخناق على الحركة, وتصيب رؤوس وأجساد الكثيرين ممن تهاووا فوقها. بعض المضيفين يمسكون بالمقاعد وآخرون فوق الركاب. مضيفات يصرخن, والخوف والذهول باد على وجوههن.الركاب يهتزون يمينا وشمالا في مقاعدهم. هلع وصراخ. الأطفال يبكون. بعض الركاب يمسك بالبعض الآخر عن غير وعي. انفعالات خوف تلقائية تتفاقم. الطعام يتساقط في كلِّ مكان. محاولات الوقوف رغبة في هرب متوهَّم تحرُّرا من إحساسٍ بالتكبيل, ديدن الكثيرين. أمهات يحتضن أطفالهن ويتشبثن بالمقاعد. أفراد الطاقم لم يعودوا قادرين على الانشغال بالركاب. المراقبون الثلاثة شأنهم شأن الجميع سيطرت عليهم حالة من الرعب والهلع, وسقطت نظاراتهم على الأرض وتهشمت تحت الأقدام. سلوى تلقي برأسها في حضن زوجها المرعوب, تبكي وتصرخ. الطائرة ما تزال تهتز وتترنح وتهوي. حالات إغماء.قائد الطائرة يحاول الحديث مع الركاب عبر الإذاعة بصوت ظهرت عليه علامات الجفاف والخوف, محاولا التماسك المصطنع أمام أسماعهم.. "حضرات السادة.. حضرات السادة المسافرين الرجاء الهدوء". عيون جاحظة. أجساد ترتجف. خوف يتفاقم. هلعُ الموت يخيم في أرجاء التابوت الطائر. كلمات الطيار المتقطعة المخنوقة زادتهم ذعرا وأشعرتهم بأن الموت محقَّق. وإنه يقوم فقط بواجب تخفيف وقع النهاية عليهم."الرجاء الهدوء. أريد أن أوضح لكم ما الذي حصل. الرجاء البقاء في أماكنكم". يسكت بسبب الفوضى والضجيج الذي راح يزيد وينقص على إيقاع اهتزاز الطائرة. لا أحد بدا مقتنعا بأن كلمات الطيار كافيه لأن تدفعه إلى التماسك والاطمئنان إلى أن البقاء على قيد الحياة أمر ممكن. بعض المضيفات وبحركات غير مقنعة يحاولن إجلاس الركاب وربط أحزمتهم. وجوه تقطر رعبا, تبحث عمن يطمئنها وينتشلها من وساوس الموت الشنيع الذي كانت تسمع عنه في حوادث تحطم الطائرات. قائد الطائرة يعود إلى مخاطبتهم بعد أن انتصر على الخوف وتماسك في حديثه.. "حضرات السادة المسافرين. الموضوع ليس خطيرا. الرجاء إعطائي فرصة كي أشرح لكم ما الذي يحدث حتى تتصرفوا حسب قواعد السلامة. ونصل بالسلامة أن شاء الله".كلمة "السلامة" أنعشت شعورا باردا في النفوس بأن البقاء على قيد الحياة أمر ممكن وإن كان صعبَ التصديق. محاولات التزام هدوء مقنَّعَة برعبٍ وبكاءٍ وارتجافٍ مكبوتٍ لسماع ما قد يُطَمْئِن. الطائرة تستمر في الاهتزاز والترنح في الجو. البكاء والصراخ لا ينقطعان. قائد الطائرة يواصل حديثه.. "أرجوكم يا جماعة إن الذي حصل لا يستدعي كلَّ هذا الخوف والهلع. أرجوكم. أجلسوا في أماكنكم. اسندوا ظهوركم واربطوا أحزمة المقاعد لتفادي الاهتزازات والارتطامات المتوقعة". الطائرة تهتز بعنف. صراخ هنا وهناك.. "أود أن أوضح لكم أن الأمر بسيط. كلُّ الذي حصل أن محركا من محركات الطائرة تعطل فجأة عن العمل. وحصل هذا عندما كنا نعبر بمحض المصادفة منطقة مطبات هوائية عميقة. هذا هو سبب كلِّ هذه الاهتزازات في الطائرة. لا توجد هناك خطورة حقيقية. أرجوكم لا تقلقوا. سنصل بالسلامة بإذن الله".الطائرة تهتز. المضيفون يترنحون. بكاء أطفال وصرخات متفرقة. أصوات نحيب مكبوت.. "أرجو الاطمئنان. لكن الطائرة ستستمر في الاهتزاز والارتجاج. وهذا أمر طبيعي لأنها تحلق بمحرك واحد, وتعبر مناطق مطبات. إن ما يجب أن تعرفوه أننا لن نستطيع الوصول إلى القاهرة بمحرك واحد". صراخ وبكاء وعويل واهتزازات.. "أرجوكم. أرجوكم. هذا لا يخيف. لا يستدعي كلَّ هذا القلق. لقد اتصلت بأقرب مطار وهو مطار لارنكا القبرصي. وأخذنا الإذن بالهبوط الاضطراري, ولقد بدأنا بالفعل نهبط. وسوف نكون على أرض المطار خلال ربع ساعة فقط. اطمئنوا وتحملوا هذه الدقائق. وسوف نصل بالسلامة إن شاء الله". اهتزازات عنيفة. صراخ وعويل.. "أرجو الهدوء والبقاء في أماكنكم وعدم التحرك إطلاقا حتى تهبط الطائرة على الأرض وتتوقف تماما. أرجوكم نفذوا التعليمات وشكرا".حالة الرعب الأصفر الشاحب كانت ما تزال بادية على وجوه الركاب والمضيفين. رغم أن كلمات قائد الطائرة بثت نوعا من الطمأنينة المشوبة بحذر عدم الاستسلام للأمل في نفوسهم. الطائرة تهتز من حين لآخر وسط بكاء الأطفال وبعض النساء وصراخ آخرين وأخريات. نحيبٌ مخنوقٌ تغرقه دموع من كانوا أكثر سيطرة على أعصابهم. الكل كان يتمتم وربما كان يدعو بكلمات غير مفهومة. لا أحد كان مهيئا لتخيِّل نهايته مهروسا تحت حطام طائرة تهوي لتحترق.آفاق التفكير أختزلها المشهد المرعب عند الجميع, لتغدو محصورة في كلمتين.. "أريد أن أعيش.. لا أريد أن أموت". نطقتها بكلمات ليست من اللغات وبحروف لا تُكْتَب وجوهٌ تحولت إلى خرائط بلا معالم, رسمت حدودَها الدموعُ وأخاديدُ الخوف. وأجسادٌ ترتعش على إيقاع رنين أسنانٍ تصطك, ونبضِ موتٍ تنتفض به قلوبٌ غيرت أماكنَها فلم تعد في الصدور. لا الخوف بقي هو الخوف. ولا الموت كما عرفته القواميس. والحياة شبحٌ يتلفت, يكافىء عند كلِّ حطامٍ أدمي ينتظر النهاية في جوف حريق مهول, العالم, كلَّ العالم.سلوى ما تزال تبكي. تخفي وجهها في حضن سعيد. تنتظر لحظة موت لا تريد أن تراها. سعيد يضمها متصنعا الهدوء كي يوهمَها بأن الأمر عادي. بعد قليل, الطائرة تبدو قريبة من الأرض. هبوط نحو المدرج. اهتزاز وانخفاض وارتفاع. مدرجات مطار لارنكا أصبحت على مرمى البصر.إحساس الركاب بهبوط الطائرة على هذا النحو من الاهتزاز والتراقص كأنها تهوي في واد سحيق, خلق لديهم حالة خوف من نوع آخر, ظهر على شكل احتقان صامت. قائد الطائرة.. "أيها السادة المسافرون. الطائرة تهبط بنا الآن إلى مطار لارنكا. نرجو منكم التزام الهدوء والتمسك بقواعد السلامة وعدم التحرك وربط الأحزمة". الاحتقان التام يسيطر على ركاب أغمض معظمهم أعينهم وأمسكت قبضات أيديهم بالمقاعد.الطائرة تقترب من المدرج وهي لا تزال تهتز.. "عندما تصل الطائرة إلى الأرض سوف ترتطم بشدة بالمدرج أرجو ألا تخافوا مهما حصل. الارتطام في مثل هذه الحالات أمر عادي. لأن الطائرة تهبط وهي تهتز. أمسكوا أنفسكم جيدا ولن يحدث أيُّ ضرر. ولن تلبثوا إلا عدة ثواني بعد الارتطام حتى تروا أن الطائرة ستدرج على المدرج بطريقة عادية وكأن شيئا لم يحصل".الطائرة تقترب من الأرض. تبدو تهوي كأنها ستتحطم. المدرج ظهر يتراقص في الأسفل يمينا وشمالا كأنه يتهرب من الطائرة. الخوف المخنوق, والاحتقان والبكاء المستجدي, انفعالات سيطرت على الجميع. الدعاء والتسبيح والتهليل بلغات مختلفة راح يُسمعُ كطنين النحل في أرجاء الطائرة وهي تهتز. تصطدم الطائرة بأرض المطار فجأة. يزداد الخوف والرعب, والصراخ يعمُّ المكان. تبدأ بالانحراف بشدة يمينا وشمالا كأنها ستخرج عن المدرج. الصراخ مستمر. قبضات الأيدي المغروزة في المقاعد هُيِّىَء لأصحابها أنهم بذلك قد يوقفون الطائرة. لحظات قليلة فقط وبدأت تعود إلى التوازن. سرعتها تخف شيئا فشيئا إلى أن توقفت تماما.استرخاءٌ حذِر مشوبٌ بالخوف وانفلات الأعصاب سيطر على الركاب وهم يستسلمون لانفعالات مختلفة ومتباينة. بكاء. ارتجاف. ضحك وبكاء معا. إغماء. إحساس بشلل مؤقت في الأطراف. عجز عن الحركة, وأسنان تصطك. مخزون البكاء يستمر في التدفق لدى الكثيرين. قائد الطائرة يقول.. "الحمد لله على سلامتكم".الطائرة توقفت بعيدا عن مباني المطار. سيارات الإسعاف والمطافىء وسيارات الأمن القبرصي تهرع إليها بالعشرات. العديد من السلالم تقترب منها. العشرات من رجال الأمن والإسعاف يصعدون وقد فتحت كامل أبواب الطوارىء. وجهت إليها خراطيم مياه سيارات المطافىء تحسبا لحرائق محتملة.الركاب في أماكنهم بلا حراك مستسلمون للانفعالات التي سيطرت عليهم بعد إحساسهم بأن حياتهم لم تعد بخطر. رجال أمن وإسعاف يجوبون الطائرة للاطمئنان على الركاب. أحد رجال الأمن يسأل إحدى المضيفات كانت تمسح دموعها.. "هل هناك أيُّ إصابات؟". المضيفة تهز رأسها كأنها لا تعرف وهي لا تزال لم تتحرر من الذهول. يتركها وخلفه رجل إسعاف مقدرا حالتَها ليكتشف بنفسه. يراه سعيد وهو يحضن زوجته التي بدأت تتخلص من نوبة النحيب.. "لو سمحت, زوجتي خرجت للتو من عملية جراحية. أرجو أن نخرجها من هذا الجو بسرعة".رجل الأمن.. "هل يمكنها أن تقف أم هي في حاجة إلى مساعدة؟".سعيد محدثا سلوى.. "هل بإمكانك الوقوف؟".هزت رأسها بالإيجاب.. "نعم. يمكنني الوقوف. لكن ساعدني يا سعيد. أني أحس بانهيار, قد لا أقوى على التماسك جيدا".سعيد موجها نظره وحديثه إلى رجل الأمن.. "نعم يمكنها أن تقف وسوف أساعدها".رجل الأمن.. "إذن هيا بنا".تقف بتثاقل. يساعدها سعيد, وينطلقان خلف رجل الأمن وخلفهما رجل الإسعاف. فجأة يقف الرجال المراقبون الثلاثة. يحاولون اللحاق بهم بأسلوب فجٍّ غير مدروس. لكن رجال الأمن يمنعونهم ويبقونهم في أماكنهم. أحد رجال الأمن يتحدث إلى أحدهم.." هل أنت متعب يا سيدي؟ هل تود الذهاب إلى المستشفى؟".وهو يشير إلى سعيد وسلوى.. "لا ولكن أين يذهبان بهما؟ هل أقدر على اللحاق بهم؟".رجل الأمن.. "هل هما قريباك؟ لا تقلق, السيدة متعبة وتحتاج إلى عناية ورعاية. تفضل إجلس مكانك لو سمحت يا سيدي". يجلس مضطرا بعد أن كاد يفصح بفجاجته عن نفسه. ينظر بارتباك إلى زميليه الواقفين. يتبع سلوى وسعيد بنظراته. ظهرت على ثلاثتهم بعد أن اضطروا إلى الجلوس علامات الحيرة والقلق. رجل الأمن يطمئنه.. "لا تقلق ستنزلون جميعا من الطائرة خلال دقائق, وستنقلكم طائرة أخرى إلى القاهرة. سوف ترى قريبتك. أتمنى أن تراها في قاعة الانتظار عندما تنزل بعد قليل. أظن أن حالتها الصحية غير مقلقة. اطمئن. هي تعاني فقط من ردة فعل نتيجة لما جرى. أرجوك تفضل بالجلوس".... يتبع في الحلقة الثانية عشرة
النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الثانية عشرةالفصل الخامس"الماء يطهر الجسد من الأوساخ العالقة. كم هو سهل أمر الطهارة إذن عندما يكون الماء هو الحل.. هل تكفي الدموع لغسل الدم من الجراثيم؟ .. لا .. لا .. إنها لا تكفي. الدموع لا تغسل سوى الضمير.. إذن طهارة الضمير أيضا سهلة. إنها الدموع.. من يتوضأ طهارة بدن. ويبكي من يبغي طهارة الضمير.. لماذا لا ينفع الماء ولا تكفي الدموع كي أحس بذلك؟ لماذا يا رب؟.. أي نوع من النجاسة هذا الذي يغمرني, فلا تزيله مني الدموع, ولا يبعده عني الماء؟.. أي أصناف الأحاسيس هذا الذي ينتابني فلا أقوى على تحمله؟.. أهو إحساس بالذنب؟ إذن لكفته الدموع وأوجاع نفسي المؤرقة!.. لا. لا. أنا لست مذنبة. سعيد أقنعني. سعاد أيضا كانت مقنعة في تلك الليلة.. ما الذي يحدث لي إذن؟ كيف أتخلص منه؟".تتوقف سلوى عن محاورة نفسها لحظة. تحدق في المرآة المقابلة للسرير. تمسك برأسها وتفتح عينين تمعنان النظر في صورتها عبر الزجاج. تفكر والشعر والوجه لحظة استيقاظ متعبة. ثم تعود إلى حوارها الداخلي مرة أخرى.. "إن جسدي ملوث من الداخل. ولا ينفعه الماء ولا تنفعه الدموع. ماذا إذن؟ لابد أن هناك حلا. لكن أين هو هذا الحل؟ لكل مرض دواء يستأصله من جذوره. ما هو الدواء لمرضي؟ ولكن ما هو مرضي في الأساس؟ كيف أعرف الدواء قبل أن أعرف الداء؟".تتحرك في السرير بهدوء شارد, تبالغ التحديق في المرآة بعينين راحتا تخترقان شبحَ جسدٍ منكمش يتقوقع حول نفسه. سبحت في الدم الملوث, وأسكنت خيالها في وعاء أثقل أحاسيسها. سواد يسري في العروق والدود الأزرق ينهش منها الأحشاء. تترك رأسها. تنتفض. وخز الإبر يعتصر جسدها وجعا يقطر. تمرر يديها حيث الآلام, فوق الصدر والكتفين والذراعين والبطن. تتلوى من الوجع. ترتجف وأسنانها تصطك. تبكي بصوت مخنوق كي لا يستيقظ سعيد المستغرق في النوم."أنا.. يجب.. أن .. أموت.. هذا.. هو الحل.. نعم.. هذا هو.. الحل". يزداد وخز الإبر, كأن التماسيح تقتلع من جسدها ألواح صبار رمت بجذورها في أغوارها البعيدة. تضعف أمام رغبة في البكاء المسموع ثم في الصراخ ألحت عليها تحت وطاة إحساسها المعتاد كلما تذكرت أن جسدَها أصبح مزبلة, وعاء للقاذورات. يفيق سعيد مذعورا، هزَّه صوتها الموجوع. يضمها إليه وهي تبكي وترتعش. يساعدها في تدليك جسدها لتخفيف الوخز. تقول بكلمات متقطعة زاد في تباعد حروفها ومقاطعها البكاء المأزوم قيدته أطواق الاختناق.. "أنا.. عرفت.. الحل.. يا سعيد.. أنا يجب.. أن.. أموت.. نعم .. أموت.. كي .. أريح .. وأستريح.. مرضي.. ليس .. له علاج.. إلا.. الموت".سعيد يبالغ في احتضانها. الدفء ينساب من قلبه تجاه هذه الحبيبة التي تتفلت منه فجأة ذاوية نحو نهاية مقلقة مجهولة. بعد لحظات, راحت أوجاعها تخف وجسدها بدأ بالاسترخاء. نوبة الإحساس الغريب تتلاشى.. "لا يا سلوى. لا يا حبيبتي. هذه أزمة مؤقتة وهي إلى زوال. سيكون ذلك قريبا. أنت فقط لم تتقبلي بعد أن جسدك يحمل دما ورحما من هناك. هذا كل ما في الأمر".سلوى وقد استسلمت في حضنه, مستعيدة توازنها بعد دقائق من اختلال الأحاسيس. تقول بصوت خافت خائف يعبق بالاستجداء تبلله بقايا دموع.. "وكيف أصل إلى تقبُّل هذا الواقع؟ كيف يا سعيد؟ ساعدني يا حبيبي. أرجوك أنا لا أدري ما الذي جرى لي. لم أكن هكذا قبل العملية".سعيد.. "سأساعدك يا سلوى. لا تخافي. أنت فقط اهدئي وحاولي عدم تذكر ذلك. لا تفكري فيه كثيرا. ومع الأيام سيصبح واقعا تتعايشين معه". يصمت لحظة. يداعب شعرها وخدها ويقبل رأسها.. "سلوى. افهميني يا حبيبتي ركزي معي جيدا. حاولي. إن التطبيع, أي التطبيع, أمر مقدور عليه. صدقيني. كلُّ شيء في حياتنا يمكنه أن يصبح طبيعيا إذا تعاملنا معه على أنه أمر واقع. إذا فهمنا أو إذا افترضنا على الأقل أن الرجوع إلى الوراء مستحيل. نعم. هذه هي المشكلة في أيِّ تطبيع في الوجود. لا نستطيع التطبيع إذا كنا لا نقبل الأمر الواقع, أو إذا كنا نظن أن هذا الواقع يمكن تغييره بالعودة إلى اللحظة التي سبقته. أنا معك يا سلوى. إذا توفر هذان الأمران فلسنا ملزمين بالتكيف. ولن نكون قادرين على التطبيع أساسا. ولكن إذا افتقدناهما أو إذا افتقدنا أحدهما على الأقل. فعدم التكيف عندئذ فناء, موت, انطواء, تقهقر, هل تفهمينني؟".لا تجيب. يقبل رأسها مرة أخرى. يطمئن لصمتها. تضغط على صدره برأسها كي يواصل. فيستجيب.. "إذا جرَّكِ التفكير رغما عنك ووضعك في دائرة الإحساس المقيت الذي يسبب لك كل هذه الأوجاع. صارحي نفسك وهي تتألم بحقيقة أن الرجوع إلى الوراء, إلى مرحلة ما قبل العملية مستحيل عمليا, وسوف تجدين أن نفسك تتكيف مع الواقع مع مرور الأيام, وتتقبل المعادلة الجديدة".سلوى دون أن تتحرك.. " وكيف أستطيع أن أفكر بهذه الطريقة الموزونة ووخز الإبر يقطع أوصالي؟ كيف يا سعيد؟ إن الألم يفقدني التوازن والتركيز. أنه يفقدني كل قدراتي الذهنية".سعيد.. "إنها رياضة صعبة. أنا أعرف ذلك. لكنها رياضة لا مفر منها. لابد من ممارستها. افترضي أنك تمارسين تمرين الضغط. وإن عليك أن تقومي به مائة مرة كاملة. وإن الوصول إلى هذا الرقم مسألة مصيرية, قضية حياة أو موت.. المرة رقم تسعة وتسعين كانت صعبة جدا, وتحققت بجهد غير طبيعي, ترتب عليه ألم فظيع. المرة رقم مائة ستكون بالتأكيد أصعب وأشد إيلاما لكنها ضرورية. ستحاولين حتما أن تقومي بها لأن المسألة مصيرية. ستجدين نفسك تعملين على إيجاد حالة تعايش بين ضرورتين من المفروض أنهما متعارضتان. ضرورة الضغطة رقم مائة بما تعنيه من راحة واسترخاء بعدها, وضرورة الألم والوجع المترتب على القيام بها".سلوى.. "سعيد أنت تُنَظِّر ولا تجيبني على سؤالي. هب أن ما تقوله صحيح. أو لنقل أنه بالفعل صحيح. إن صحته لا تحل المشكلة. أنا أريد جوابا على سؤال كيف أفعل ذلك؟ وليس ماذا علي أن أفعل؟ أريد أن أعرف كيف أفعل هذا؟ كيف أفعله وأنا أتوجع عندما أكون في الحالة إياها؟".سعيد.. "بنفس الطريقة التي تضغطين بها الضغطة رقم مائة وجسدك يرتعش ويكاد ينهار تحت وطأة الألم".سلوى.. "الموضوع مختلف"."الألم من حيث المبدأ واحد يا سلوى. لكنه مستويات. ونحن الذين نتخيل أن هذا الألم يختلف عن ذاك في طبيعته وليس في كميته. ونعتبر أن أحدهما ألم فيما الآخر شيء مختلف"."إذن بتعبير يتناسب مع تنظيرك, حجم الألم الذي أعانيه يكون كبيرا جدا فيفقدني قدرتي على التركيز الذهني وعلى كل أشكال المتابعة ومراقبة النفس"."ربما أن هذا صحيح. لكن اسمعيني يا سلوى. اسمعيني جيدا. إنك لن تموتي من وجع إكمال المائة ضغطة. إن الذي جعلك تتحملين الوجع هناك هو ضرورة ألحت عليك وفكرتِ فيها وتحركتِ من ثمَّ بما تمليه عليك. واستطعت بإرادتك هذه أن تتغلبي على الوجع وتنقذي نفسك من مخاطر عدم إكمال المائة ضغطة. افعلي الشيء نفسه يا سلوى"."لا أستطيع يا سعيد. كيف؟ كيف أفعل الشيء نفسه؟ كيف أركز؟ كيف أفكر؟ كيف أسيطر على ذهني؟"."اجعلي ضرورة التعايش مع وضعك الجديد بعد العملية تلحُّ وتسيطر عليك رغم استفحال نوبة الألم. عندها ستشعرين بأنك تقاومين هذه النوبة بإرادة التعايش هذه. إن هذه الضرورة التي سيطرت عليك ستُخْتَزَن في داخلك لتقوية مقاومتك للنوبة القادمة, أما النوبة فإنها ستزول. لأن هذا ما يحدث في كلِّ مرة. بهذه الخطوة إذن فإنك تختزنين مقاومة ستسهم في تخفيف حدة النوبة اللاحقة"..يصمت ليراقب ردة فعلها. لم يظفر بشيء, فيواصل.. "مع مرور الأيام وإذا قمت بالشيء نفسه عند كل نوبة ألم, سيخف ألم النوبة التي تليها إلى أن يزول نهائيا. تماما مثلما أن الألم المرافق للضغطة رقم مائة سيخف إلى أن يتلاشى مع كثرة التمرين والتدريب". يصمت من جديد بعد أن توقع أنها ستعقب. ولما استمرت هادئة ساكنة واصل حديثه.. "انطلقي من هذه النقطة يا سلوى. انطلقي من أنك لا تستطيعين الرجوع إلى الوراء. مثلما انطلقت في التمرين من نقطة مفادها أنك لا تستطيعين الاكتفاء بتسعة وتسعين ضغطة. إن الأمرين متشابهان يا سلوى. ألا ترين أنه من غير الممكن انتزاع الرحم والدم من جسدك مرة أخرى؟ هل تفهمين؟".انتفضت لما سمعت كلماته الأخيرة. أبعدت رأسها عن صدره. نظرت إليه وقد قطَّبت جبينَها كأنها استحضرت من ذاكرتها أمرا مهما.. "من قال ذلك؟ فعلا لماذا لا يكون الحل في أن أعود كما كنت قبل إجراء العملية؟". تصمت. تفكر تحرك رأسها في أكثر من اتجاه. تمط شفتيها.. "سعيد أنا لا أريد هذا الرحم. لا أريده".ظهرت على وجه سعيد علامات خوف من نوع جديد لما قد يعنيه قول سلوى من متاهة جديدة قد تفاقمُ حالتَها. قرَّرَ بسرعة أن يلغي هذا التفكير من ذهنها. أراد تيئيسها منه وانتزاع أيَّ بادرة تفكير شبيهة به من مخيلتها.. "هذا لا يحل المشكلة يا سلوى. والدم. هل ستعيشين من غير دم؟".بدون تفكير.. "أغيره. أغيره بالكامل".سعيد بتذمر وضجر مشوبين بمسحة قلق بعد أن بدأت تنساق مع هذه الفكرة المجنونة.. "لن تستطيعي التحرر عندئذ من إحساسك بأن ذلك الدم أحياك فترة من الزمن, وأنك مدينة له بالحياة ولو لمدة قصيرة؟ إن الدم ليس كالرحم. ليس موجودا في مكان محدد لا يغادره. إنه ينساب إلى أعماقنا لينقل إلينا الحياة ويحافظ لنا عليها. ولقد فعل دم يهودا معك ذلك يا سلوى. لن تستطيعي أن تتحرري من وطأة هذا الإحساس. وهو نفس إحساسك الحالي ولا فرق. دعك من هذه الأوهام. إن ما تعانين منه يا سلوى هو إحساس من نوع غريب بالتلوث وبالاتساخ بسبب هذا الوافد الجديد الذي استوطنك فجأة, والذي شعرت فجأة أيضا بأنه مستوطن غير مرغوب فيه, وهذا الإحساس لا يزول بالزوال الشكلي للدم والرحم. لا. فهما حتى لو زالا بعد أن أصبحا جزءا منك, ستحسين بأن جزءا منك قد زال. جزء أعطاك وأخذ منك. إن الفترة التي عشتها في الأيام الأخيرة هي نتاج لسلوى الأصلية ولهذا الجديد. إن سلوى الجديدة هي مركبة من كليهما وستبقى مهما حصل نتاجا لهما. المسألة معقدة جدا يا سلوى. ولا حل لها سوى بالتعايش. بالتكيف. بالتطبيع. هل تفهمين؟".تهزُّ رأسها بعد أن اهتزت هذه الفكرة في ذهنها. تلقيه من جديد فوق صدر سعيد, وسط ملامح اطمئنان بدت على وجهه لأنها تحررت من تأثير هذا الجنون الذي اقتحم تفكيرها فجأة.. "أنا سأجن يا سعيد. أريد أن أتحرر من هذا الإحساس المقيت. إحساسي بالسواد والدود الأزرق يسري في عروقي وينهشني عندما أتذكر أن دما من هناك وأن رحما من هناك احتلا جسدي"."يا سلوى يا حبيبتي. المسألة بيديك أنت. إن إحساسك هذا هو سبب المرض الذي تعانين منه. إنه بالفعل سبب غريب. كل مريض في الدنيا يتألم ويتوجع بسبب شيء ما, لكنه يتعايش معه, أي مع الوجع إلى أن يزول بزوال سببه. وهو يفعل ذلك بإرادة التكيُّف. أنت أيضا افعلي ذلك يا سلوى. أنت مريضة. ومرضك من النوع الذي ليست له عقاقير قادرة على استئصاله كالأمراض العضوية التي يعاني منها الناس عادة. إن علاجه الإرادة وتقبل فكرة التعاسيش"."إنني أحاول قدر ما أستطيع يا سعيد. إن ردة فعلي هي نتيجة لطبيعة الألم المترتب على هذا النوع الغريب من الأمراض. وسأبقى كذلك حتى يزول السبب كما تقول. والسبب واضح ومعروف. إنه هذا الاحتلال الجديد الذي قبلت به بإرادتي عندما كنت متلهفة على هذه الأمومة المزيَّفَة. وسأبقى موجوعة إلى أن يزول هذا الاحتلال. أجل هذه هي الحقيقة يا سعيد. أنا انتهيت. لم أعد إنسانة طبيعية منذ عشت تلك الكذبة. إنها مضاعفات علاج فقدان الأمومة الأصلية بكذبة الأمومة المُطَعَّمَة بدم يهودا في رحم راحيل"."يا سلوى لا تعذبي نفسك بهذا الكلام المغلوط. صدقيني يا حبيبتي أنت تتصورين المسائل بطريقة خاطئة. مقلوبة. مغلوطة. إياك أن تقتنعي بهذه الأوهام والوساوس, إياك. هي التي ستتعبك قبل أن تصلي إلى الشفاء التام"."أنت تحاول فقط أن تخفف عني. أعرف ذلك. إن محاولاتك الطيبة لن تغير الحقيقة"."بل أنا أقول الحقيقة يا سلوى. صدقيني. أوجاعك ليست ناتجة كما تتصورين عن وجود هذا الاحتلال الجديد لجسدك كما تسمينه. إنها ناتجة في واقع الأمر عن إحساسك بالقرف, بالاشمئزاز, بعدم رغبتك في التكيُّف وتطبيع علاقتك النفسية معه, حتى لو قبلنا اعتباره احتلالا كما تقولين. إذا تحررتِ من هذا الإحساس زال الوجع. ما الفرق بين الدم الذي يسري في عروقك وبين دم أي إنسان آخر غير يهودا؟ ما الفرق يا سلوى؟ في الحقيقة لا يوجد أي فرق. إنما هناك مشكلة في نفسك اختلقت لك هذا الفرق وولدت لديك هذا الإحساس"."أنا أعرف أنا مشكلتي نفسية يا سعيد. أعرف ذلك جيدا. لست أجادل في هذا. أنا أريد مساعدتك في إعادة نفسي إلى ما كانت عليه من توازن قبل إجراء العملية. وكل ما ذكرته لغاية الآن لا أجد أنه يساعدني على ذلك. هو أقرب إلى تشخيص حالتي منه إلى علاجها"."ما يجب أن تدركيه جيدا هو أن علاجك لا يمكنه أن يتمثل في انتزاع هذا الرحم وذاك الدم منك من جديد. هذا تخريف. إن علاجك يتمثل في إعطائك جرعة قوية ومؤثرة من المشاعر, تجعلك قادرة على قبول الوضع الجديد والتكيُّف معه. مع أني والحق يقال لست أدري ما الذي أصابك فجأة وأنت المتلهفة على الطفل والأمومة"."أنا أيضا لست أدري ما الذي جرى لي. كل ما أعرفه الآن أنني مقتنعة بأنها مجرد كذبة. الأمومة بهذه الطريقة كذبة. أن يصل التمازج والتداخل بيننا إلى هذا الحد مستحيل, غير مقبول. لقد عشت هذه الكذبة وهذه هي النتيجة. إني متأكدة من شعور أساسي يستغرقني الآن هو أنني لم أعد حريصة على البقاء على قيد هذه الكذبة. لكن هذا الشعور وصلني متأخرا. بعد فوات الأوان. لقد أصبحت أرى أن عودتي إلى سلوى المحرومة من الأمومة أرحم من هذه الحياة التي سأصبح فيها أما بهذه الطريقة النشاز. لماذا لم ننتبه إلى هذه الكذبة قبل اقترافها يا سعيد؟ لماذا لا نندم على الكذب إلا بعد أن نعيش مآسي هذا الكذب؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا لا تستغرقنا الرغبة في العودة إلى أحلامنا الدافئة التي رضعناها مع حليب أمهاتنا, إلا بعد أن نكون قد كسرناها ولم يعد بالإمكان لملمة أشلائها الدامية من جديد؟".يصمتان قليلا. يسود الغرفة جو عابق بالخوف. يستمر في مداعبة شعرها وهي مستسلمة لتفكير هادىء. يقطع عليها حبل التفكير كي لا يسافر بها بعيدا حيث موطن الأوجاع التي تهرب منها إلى أحضانه.. "بصرف النظر عن موقفي مما تقولينه, فإنه لم يعد يهم كثيرا في علاجك. سأوضح لك المسألة يا سلوى بطريقة مبسطة. افترضي أن شخصا أصيب بورم خبيث في مكان ما داخل جسده. الفرق بين مرضه ومرضك أنه سيشفى إذا استأصلنا منه الورم, لأنه سيكفُّ عن الإحساس بالألم. ألمه ناتج عن الورم. انتزعنا الورم زال الألم. إنها معادلة في منتهى البساطة. أما بالنسبة لك فلا وجود لورم محسوس لو استأصلناه منك لكففتِ عن الإحساس بآلامك وأوجاعك".بنبرة يائسة.. "وهذا ما قلته لك يا سعيد. إن حالتي لا علاج لها إلا الموت". يضمها إليه بشدة فتستسلم لاحتضانه لها.. "لا يا سلوى. علاجك موجود ومتاح. اسمعيني حتى النهاية وستعرفين أن الحل متوفر لكنه بحاجة إلى أن تضعي يديك عليه وتبدئي بتناول جرعاته"."لست أدري لماذا أشعر بالراحة عندما أسمعك تتحدث عن حالتي. رغم أنني غير موقنة أن بوسعي الشفاء. أقصد أن أشفي نفسي بنفسي. أرجوك يا سعيد. حدثني دائما بهذه الطريقة".يعانقها. يقبل شعرها. يحاول مداعبة وجهها فيحس بأنها أغمضت عينيها واستسلمت لحديثة.. "حاضر يا سلوى. لا تقلقي يا حبيبتي. أنا معك بكل ما أقدر عليه حتى اللحظة التي تشرق فيها الحياة لك مرة أخرى". يصمت ليستجمع أفكارَه.. "حتى لو انتزعنا منك الرحم مرة أخرى وغيرنا دمك, ستبقين تعانين من نفس الآلام والأوجاع, صدقيني. لأن سبب الألم عندك كما اتفقنا ليس هو هذا الدم ولا هذا الرحم. كي تكفي عن الإحساس بالألم يجب أن نستأصل منك إحساسك الغريب غير المفهوم الذي يولد الألم. إحساسك الغريب هذا يا سلوى هو الورم الذي يجب أن تتخلصي منه. صحيح أن علاجك شبيه بعلاج ذلك الشخص صاحب الورم الخبيث قائم على مبدأ الاستئصال. لكننا هناك استأصلنا ورما خبيثا محددا مكانا وشكلا وحجما. بينما نحن هنا في حالتك يجب أن نستأصل إحساسا لا أحد سواك يتحكم فيه أو يستطيع السيطرة عليه. لأنه قائم على تصور أو فكرة. على إيمان. غيري الفكرة. غيري التصور والإيمان. آمني بما يولد إحساسا جديدا يقوم على القبول وسيتغير كل شيء.... أنك تعانين من ورم نفسي يا سلوى. أو دعيني أقول ورم روحي. ورمك ليس عضويا حتى يستأصله مبضع جراح. ولو كانت مشكلتك عضوية لظهرت عليك علامات ومضاعفات مرض عضوية. أنا متأكد تماما أن الرحم الذي تحملينه لو لم يكن هو رحم راحيل, ولو لم يكن الدم الذي حقنت به أثناء العملية هو دم يهودا لما كانت هناك مشكلة أساسا. هل تفهمين يا سلوى؟ هل تفهمين يا حبيبتي؟ هاه". سلوى لا ترد. يتوقف عن الحديث. ينظر إلى وجهها. يجدها قد استسلمت للنوم.... يتبع في الحلقة الثالثة عشرة