الغرب والإسلامفلسطين بين زمنين (16)مصطفى إنشاصيالأهمية الجغرافية والاستراتيجية لموقع (الشرق الأوسط)لقد حظي وطننا منذ القدم باهتمام الدول الكبرى، نظراً للخصائص الاستراتيجية التي يتمتع بها، حيث أضفت عليه تلك الخصائص أهمية خاصة، فجعلته أهم المناطق الحيوية، ومهد الحضارات الإنسانية، وملتقى الحضارات القديمة الشرقية والغربية، ومعبراً رئيساً لطرق المواصلات البرية والبحرية والجوية، وجسراً لجيوش الإمبراطوريات الكبرى قديماً وحديثاً إلى الشرق والغرب، ومسرحاً للصراعات الغربية الطامعة فيه، ومحوراً تدور حوله الكثير من الأحداث العالمية، وميداناً للتنافس فيما بينهما، لدرجة أن ساد الاعتقاد بأن من يريد أن يسيطر على العلاقات الدولية، يجب عليه أن يسيطر على سورية من المنطقة العربية عامة، وفلسطين خاصة. كتب البريطاني (جورج أدم سميث) عام 1891 في معرض الإشارة إلى الدور التاريخي والجغرافي لسورية الطبيعية ككل: "إن تاريخ سورية هو دورها العظيم كوسيط، وهو الدور الذي حافظت عليه منذ أقدم الأزمان إلى يومنا هذا. وبتحديد أدق تقع سورية بين قارتين، آسيا وأفريقيا، بين الموطنين الأولين للإنسان هما وادي الفرات ووادي النيل، بين العالمين الشرقي القديم من جهة والغربي الحديث من جهة ثانية".موقع سورية الطبيعية الجغرافي والاستراتيجي يحظى لدى المفكرين الاستراتيجيين في العالم بأهمية كبيرة لمن يخطط للهيمنة على وطننا، والتحكم، في حركة المواصلات والاتصالات والتنقل الدولية فضلاً عن التحكم في مصادر الطاقة عالمياً. فالموقع الاستراتيجي لوطننا جعل منه مدخلاً لإفريقيا، وجسراً لأسيا، ومعبراً إلى المحيطات الكبرى، ومشرفاً على عدد من طرق المواصلات البحرية الهامة للتجارة العالمية، وقد ازدادت خطورة موقعه مع ازدياد نشاط التجارة العالمية، واتساع حركة النقل والسياحة، والانفتاح الثقافي والحضاري والتجاري، مما جعله موقعاً مهماً وقت السلم، كما هو مهم وقت الحرب، وأكسبه أهمية خاصة في السياسات الدولية. فهو يعتبر "نقطة التقاطع الهامة بين أوروبا وأسيا وإفريقيا، بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، وتتحكم المنطقة بمجموعة من أهم مواقع المرور الدولية، وهي: قناة السويس بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ومضيق باب المندب بين البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي، ومضيق هرمز بين الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي، ومضيقي البوسفور والدردنيل بين البحر الأسود والبحر المتوسط، ومضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي".ذلك الموقع المتميز لوطننا كقلب العالم، وما فيه من بحار وشاريين ومضائق بحرية وطرق برية لا غنى لحركة التجارة العالمية عنها، جعل الحضور التجاري والعسكري للدول الغربية الكبرى في وطننا حيوياً لنموها وتطورها، ولفرض سياستها على الأمة. كتب (أ . ت .ماهان) عام 1892م "جعلت الظروف البحر الأبيض المتوسط يلعب دوراً تجارياً وعسكرياً في تاريخ العالم أكبر مما لعبه أي سطح مائي أخر يتمتع بالحجم ذاته. فقد سعت أمة بعد أمة للسيطرة عليه ولا يزال الصراع مستمراً".في قلب الوطن العربي والإسلامي تقع فلسطين، في ذلك الجزء الجنوبي الغربي من سورية، الذي يقع بين البحر المتوسط من الغرب وسورية ونهر الأردن من الشرق، ولبنان من الشمال، والبحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء من الجنوب والجنوب الغربي. هذا الموقع الفريد لفلسطين أعطاها أهمية سياسية بالغة على المستويين العربي والدولي "فمن جهة أولى تشكل فلسطين قلب الوطن العربي الكبير الذي يصل جزؤه الممتد في إفريقيا بجزئه الممتد في آسيا، مما جعلها دائما نقطة ارتكاز أساسية في أية عملية توحيد سياسية للأمة العربية.ومن جهة ثانية تشكل فلسطين نقطة التقاء وانطلاق رئيسية في الجسر الممتد على معابر القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأوروبا، مما جعلها دوما محوراً هاماً في مخططات حركة الاستعمار العالمية منذ البدايات المبكرة لهذا القرن" (القرن العشرين). تلك المزايا التي حباها الله لوطننا هي التي جعلت المخطط الاستراتيجي الأمريكي يؤكد على أهمية السيطرة الأمريكية على وطننا، وضرورة ذلك للحفاظ على حرية الملاحة البحرية لناقلات البترول، بالإضافة إلى خطوط النقل الجوي الرئيسية في المنطقة، وأن سيطرة أمريكا على المنطقة سيزيد من أهمية القدرة التجارية الأمريكية وإظهار قوتها من العالم. في اعتبر التقرير الاستراتيجي الأمريكي الصادر عام 1995 أن "أي محاولة لاعتراض حركة مرور السفن الحربية الأمريكية في المنطقة وقت الحرب قد يتطلب من الولايات المتحدة استخدام القوة لإبقاء خطوط الاتصال الحيوية هذه مفتوحة". ونصبت من نفسها حامية بالقوة والإكراه للملاحة العالمية في بحارنا، "ما دامت الولايات المتحدة بلداً بحرياً تجارياً ذا مصالح عالمية، سيكون لها مصلحة في حماية حرية الملاحة والوصول إلى الأسواق الإقليمية".لذلك ...فلسطين ليست مستهدفة لذاتها، أو لأن للغرب اليهودي - الصليبي له مع أهلها ثأر أو عداء خاص، إنما لِما حباها الله تعالى من المكانة الدينية والأهمية الجغرافية والإستراتيجية. فهي مستهدفة لدى أتباع الرسالات السماوية السابقة للإسلام لمكانتها الدينية، فكل منهم يعتبرها حقاً دينياً له، ووعد الله لملته، ودليل على صدق دينه، وأن ملكيته لها يعد توطئة لعودة المسيح كما في العقيدة النصرانية خاصة البروتستانتية التوراتية، أو بعثه لأول مرة (المسيح الدجال) كما في العقيدة اليهودية ليدير شئون العالم، ويكون لليهود السيادة على العالم. ويزيد تلك الأهمية في الصراع ما حظي به موقعها من خصائص جغرافية وإستراتيجية لمن يريد الهيمنة على الأمة والوطن الإسلاميين والعالم. لذلك كيان العدو الصهيوني يمثل رأس الحربة ومركز الهجمة الغربية اليهودية - الصليبية على الأمة والوطن، فكيان العدو الصهيوني هو "أداة" الحفاظ على "أنظمة التجزئة" التي رسمت حدودها معاهدة سايكس- بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 وغيرها، وأرض فلسطين وأهلها هم الضحية كبش الفداء. ففلسطين في المنظور التوراتي الصليبي هي قطعة الأرض التي إذا ما أخرجت من أيدي المسلمين، وتم لهم امتلاكها، استطاعوا السيطرة على الأمة والوطن، وفرض هيمنتهم الحضارية عليهما من المحيط إلى المحيط، وأمنوا استمرار النهب لثرواتنا ومواردنا المادية والبشرية، وحالوا دون قيام أي وحدة حقيقية يمكنها تهديد تلك الهيمنة اليهودية - الصليبية، وبذلك يكون قد وجه الغرب ضربة قوية للإسلام وفي القلب، واستطاع أن يشل حركة بقية أعضاء الجسد عن القيام بدورها الطبيعي وعطائها الحضاري، مما يؤخر نهضة هذه الأمة واستمرار الهيمنة الثقافية والسياسية والعسكرية والتبعية الكاملة للغرب الصليبي. لذا فإن القضية أبعد وأعمق مما تبدو عليه، فهي ليست قضية سياسية ولا قومية، ولا تقف عند حدود فلسطين فقط، ولا يمكن إنهاء الصراع عليها إلا بقضاء أحد الطرفين على الآخر أو هزيمته، فهي في جوهرها قضية صراع بين أمتين وحضارتين متباينتين، لم تهدأ منذ قرون طويلة موغلة في التاريخ. لذلك احتلت فلسطين أهمية كبيرة في المخططات اليهودية - الغربية للقضاء على النظام السياسي الإسلامي (الخلافة العثمانية)، وتمزيق وحدة الأمة جغرافياً، والقضاء على الإسلام، والهيمنة على أقطار الوطن ونهب ثرواته.