المخططات الأمريكية: دور البعثات التنصيرية (5)
مصطفى إنشاصي
بعد أن أصلنا لنشأة الكيان الأمريكي التوراتية، وعمق تغلغل العقائد الدينية التوراتية في عقول ونفوس مؤسسي الكيان الأمريكي، وأحلامهم بإقامة (إسرائيل التوراة) في فلسطيننا، ودور الجمعيات التنصيرية والمؤسسات العلمية الأمريكية وغيرها في اختراق وهزيمة بعض العقول من أبناء جلدتنا، وتهيئتهم لقبول كيان العدو الصهيوني في قلب الأمة والوطن، لنرى كيف نفذ الرؤساء الأمريكيين المعاصرين تلك التوجهات الدينية للمؤسسة السياسية وحولوا الأحلام إلى حقيقة، ومازالوا يرعون (إسرائيل التوراة) في فلسطيننا وتوفير الدعم والحماية والأمن لها؟!

الحـــرب العـالميــة الأولـى
إذن الولايات المتحدة لم تكن غافلة عن وطننا، ولكنها كانت تنتظر الوقت والفرصة المناسبين للتدخل فيه، وما أن طلبت دول التحالف في الحرب العالمية الأولى ـ بريطانيا وفرنسا ـ من أمريكا أن تدخل الحرب إلى جانبها ضد دول المحور، حتى بادرت للاستجابة إلى طلبها، ولكنها وضعت شروطها لدخول الحرب. وقد كانت ولا زالت هذه الشروط هي الأهداف الأمريكية الثابتة ولم تتغير في وطننا، منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وإن كان قد أضيف إليها هدف آخر، لم يكن مسقط من حساباتها آنذاك، ولكنه اليوم أصبح مناطا بها بحكم زعامتها للغرب الصليبي في صراعه ضد الإسلام، وقد كانت هذه الأهداف ـ الشروط ـ هي :
الهدف الأول: تحقيق الحلم البروتستانتي التوراتي، ويشاركهم فيه حراس التوراة الإنجليز كما كانوا يسنونهم وهم الساسة الإنجليز، بإقامة (الدولة اليهودية) في فلسطين، وتوفير الأمن لها في وسط محيطها العربي الذي ستقام في قلبه وعلى أقدس جزء من أرضه. وخلافاً لما هو شائع بأن الموافقة الأمريكية على طلب بريطانيا دخولها الحرب جاءت استجابة للضغوط الصهيونية، وكسب الأصوات اليهودية في الانتخابات، والتمويل اليهودي للحملة الانتخابية، على الرئيس الأمريكي وودرو ولسون، فاشترطوا إسراع بريطانيا إصدار (وعد بلفور) ... إلخ، مما رسخ في أذهان الكثير من مثقفينا!
ذلك لأن معظم المؤرخين لتلك الفترة يؤكدون: أن عدد اليهود الصهاينة الذين كانوا في أمريكا كان قليلاً جداً، ولم تكن الصهيونية مرغوبة عند اليهود الأمريكيين، وأن التيار الإصلاحي اليهودي هو الذي كان منتشراً وسط يهود أمريكا، كما أن أصوات اليهود الانتخابية في ذلك الوقت لم تكن من الأهمية لترجح فوز أي مرشح. أضف إلى ذلك أن النفوذ الصهيوني في دوائر الإدارة الأمريكية كان يكاد لا يذكر. وإن كان على علاقة الرئيس وودرو ولسون بصديقه اليهودي الصهيوني القاضي لويس برانديز، فإن تأثير هذا الأخير لم يكن ليجعل ولسون يؤيد الصهيونية، خاصة وأنه كان له كثير من الأصدقاء المقربين أكثر من برانديز، وكانوا يجاهرون بعدائهم للصهيونية آنذاك.
لكنه جاء لينسجم مع الثقافة والموروث الشعبي الديني البروتستانتي الأمريكي المستقر في الشعور واللاشعور الأمريكي الذي أسس كيانه في الوطن الجديد على أساس المثل والخرافات التوراتية. لقد جاء موقف ولسون منسجما مع خلفيته الدينية التي كثير ما عبر عنها بقوله: "ربيب بيت القسيس ينبغي أن يكون قادرا على المساعدة في إعادة الأرض المقدسة لأهلها". وهذا ما يفسر أصرار ولسون الشخصي على تأييد إصدار بريطانيا لوعد بلفور، ويرسل لها موافقته الشخصية وليس موافقة رسمية من الإدارة الأمريكية. وهذا ما دفعه للتأكيد عدة مرات للزعماء الصهاينة أنه باستطاعتهم الاعتماد على تأييده الشخصي. ليس هذا فحسب بل وأصر على "الخارجية البريطانية كي تصدر وعد بلفور، قبل شهر من الموعد المحدد لصدوره عام 1917".
فقد كان ولازال الموقف الأمريكي من الحركة الصهيونية سابقاً، ومن الكيان الصهيوني حالياً، هو موقف ذاتي لا علاقة له بكل ما يقال عن النفوذ الصهيوني واليهودي في دوائر القرار أو الحملات الانتخابية الأمريكية، وإن كان لا يمكن تجاهل هذا عند البعض، لكن ليس هو العامل الحاسم.
أضف إلى ذلك أنه لم يكن لأمريكا في ذلك الوقت مصالح اقتصادية في المنطقة تريد من الكيان الصهيوني أن يحافظ لها عليها مستقبلاً، أما في الوقت الحاضر فإن مصلحة الولايات المتحدة المفترض أنها مع العرب والمسلمين، ومن الحكمة ألا تكسب عداءهم ضدها، خاصة وهم لا يعارضون سياساتها ولا نهبها لثرواتهم، لكنها مع ذلك تجاهر بعدائها لهم وتأييدها للعدو الصهيوني القائم على أسس دينية وخرافات نهاية العالم الدينية، التي يؤمن بها أتباع المذهب البروتستانتي!