الرؤية و الموقف الإيديولوجي في رواية " الزلزال" للأديب الطاهر وطار.
د.حسين بوحسون- قسم اللغة العربية وآدابها-معهد الآداب والعلوم الإنسانية- المركز الجامعي-بشار.
العمل الروائي في الواقع تمثل لعالم أرحب و أوسع،ليس بالضرورة أ ن يكون مماثلا للواقع المادي أو للحياة كما هي ؛ولكنه حتى و إن استمد من هذا الواقع حضوره فإنه يبقى عالما له وجوده الخاص وكيانه المتميز .وهذا لا يعني أن العالم الروائي هو عالم بديل عن العالم الواقعي، ولا حتى عالم مواز له ؛ولكنه عالم ذو خصوصية يتمثل بمهارة فنية فائقة تلك الجدلية الأبدية بين الواقعي والفني بما هي إشكالية اصطراع وصراع وتفاعل انفعال في تمثل الواقع؛ ولكن برؤية فنية لا تكتفي بإضفاء الجمال والتميز على الواقع، و لا حتى بإعادة إنتاج هذا الواقع ومماثلته في آلية انعكاسية بل تتجاوز ذلك إلى صياغة الواقع صياغة جمالية انطلاقا من رؤية الروائي للعالم التي تكون قادرة على امتلاك المعرفي والجمالي في آن واحد .
وانطلاقا من هذا التصور فإن العمل الأدبي، في جوهره ، تفاعل بين بعدين يستدعي أحدهما الآخر؛ بعد جماعي يمثل الموقف الاجتماعي الذي يجعل من الواقع المعيش منطلقا له، و بعد فردي يمثل المبدع و يجعل من خياله منطلقا له. و مؤدي هذا أن العمل الأدبي بقدر ما يصدر عن فرد (الفنان) يتوجه إلى آخر أي إلى الخارج، فهناك " آخر غير الفنان يرتبط بعلاقة قراءة أو نظر، أو سماع و يحاول من خلالها إيجاد رؤية أو أفق أو حل لمشكلة مشتركة بين الفنان و جمهوره(01).
فثمة علاقة عضوية، إذن، بين المرسل و المتلقي، مما يجعل الفصل بين "الجماعي" (الطبقة، الفئات الاجتماعية) و " الفردي" (التجربة – الخيال) في مجال الإبداع الأدبي أمرا عسيرا.ولعل ذلك ما يفسر العلاقة الجدلية بين الواقع والفن بما هو تمثل وخلق وإبداع يجسد ما هو جوهري في الوجود الإنساني والطبيعي.وهكذا فإن الواقع لا يقع على الهامش من الفن كما أن الفن لا يقع هو الآخر على الهامش من الواقع ؛بل الواقع والفن كلاهما يقع من الآخر في الصلب وفي الجوهر ؛فإذا الفن تمثل للواقع ،وإذا الواقع في الفن أغنى وأثرى وأخصب.فالفن عالم خاص ينبثق من عمق وعي الكاتب بما يطرح هذا الواقع من قضايا جوهرية ؛غير أن امتلاك الكاتب الواقعي وحده لا يمكنه من بناء عالم روائي متماسك معرفيا وجماليا ، بل عليه أن يمتلك المعرفي والجمالي معا ،و يصوغ دلك كله ضمن رؤية واضحة للعالم تحدد موقعه من الوجود وما يصطرع في هذا الوجود من قضيا جوهرية.
ومن ثم فإن الرؤية الجماعية التي تنبثق من عمق الوعي الاجتماعي و التي تعيشها مجموعة ما بشكل من الأشكال، تؤثر في الفرد، بما فيه المبدع باعتباره جزءا من الكيان الاجتماعي لهذه المجموعة أو تلك إلا أن المبدع، وهو يتفاعل مع واقعه، يحاول بدوره صياغة هذه الرؤية من جديد صياغة فنية في إبداعاته الأدبية يصدر فيها عن رؤية للعالم تكشف عن وعيه الصادق والعميق بقضايا أمته وإنسانيته العميقة والجوهرية .
تنبثق الرؤية للعالم عن عملية وعي تخص طبقة اجتماعية معينة، و ما الوعي في هذه الحالة إلا تصور ينسجم أو يتوافق مع هذا الجانب من الواقع أو ذاك، غير أن البحث في إمكانية تطابق هذا التصور مع الواقع كليا أو جزئيا يستدعي بالضرورة رؤية اجتماعية شاملة (02).
يرى غولدمان ( أن أكبر الكتاب الممثلين لعصورهم، هم أولئك الذي يعبرون، بصورة منسجمة على نحو ما، عن رؤية للعالم تتوافق إلى أكبر قدر ممكن، مع الوعي الممكن لطبقة ما، و إنها الحالة التي تصادفنا في كل الأطوار لدى الفلاسفة و الكتاب و الفنانين)(03).
فالكتابة الأدبية من هذا المنظور، كما يقول أحد الكتاب " ليست في حقيقتها إلا امتدادا للمجتمع الذي تكتب عنه، و تكتب فيه، معا، كما إنها ليست، نتيجة لذلك، إلا عكسا أميناٌ لكل الآمال و الآلام التي تصطرع لدى الناس في ذلك المجتمع"(04).
غير أن جمالية المضمون التي تسعى الواقعية الاشتراكية إلى تأسيسها لا تتحقق، كما يرى الدكتور عبد الملك مرتاض ( في نظرية النقد) إلا عبر جمالية الشكل، إذ يقول ' إن الكتابة ليست شكلا خالصا، و لكنها معان و أفكار مضمخة بالعواطف و محملة بمشاعر، تظرف في ألفاظ و تجلى في سمات ،وهذه السمات اللفظية هي التي تشكل جمالية الكتابة، وتجسد نسيجا أسلوبيا قائما على النظام اللغوي، القائم هو أيضا في اللغة المكتوب بها و الماثل في التشكيل الأسلوبي تمثل جمالية الكتابة"(05).
إن الرؤية التي يتأسس عليها العمل الإبداعي تشمل في مكوناتها التركيبية، البعد الإيديولوجي الذي يمثل أحد أبعادها البانية، و الإيديولوجية كما يعرفها الباحث محمد كامل الخطيب في كتابه (الرواية و الواقع)، هي " نسق من الأفكار و العادات و الأخلاق و المفهومات و القوانين و الفنون ....إلخ تتشكل في مرحلة تاريخية محددة، أو على قاعدة نمط إنتاج، أو نمط حياة معين....)(06).
تحدد علاقة الكتابة الروائية بالإيديولوجية من زاويتين، زاوية " الإيديولوجية في الرواية و زاوية الرواية كإيديولوجية" .أما بالنسبة للزاوية الأولى، فإن الإيديولوجية في الراوية تعد مكونا من مكونات البنية النصية الروائية، إذ النص يحتوي على مكونات متناقضة، فهو عبارة عن تجميع لإمكانيات متعددة بسبب تعارض عناصره(07). فالنص الروائي، بحكم نسيجه البنيوي، مشحون بالمتناقضات، فيه الإيديولوجية و نقيضها، و فيه موقف الكاتب الذي يوافق إحداهما، أو يعارضها، أو يكون محايدا(08).
و يؤكد باختين حضور الإيديولوجية في الفن الروائي باعتبارها مكونا فنيا و جماليا، إذ يرى أن " الدليل اللغوي" محمل بشحنة إيديولوجية لا تعكس الصراع الاجتماعي السائد، و إنما تجسده و تدخل في سياقه" (09). و من هنا فإن الإيديولوجية إنما تدخل عالم الرواية بوصفها" مكونا جماليا، لأنها هي التي تتحول في يد الكاتب إلى وسيلة لصياغة عالمه الخاص"(10).
فالإيديولوجية باعتبارها مكونا من مكونات الرواية الفنية و الجمالية قد تعبر عن صوت المؤلف و قد لا تفعل، ذلك " أن كتاب الرواية غالبا ما يقومون بعرض هذه الإيديولوجيات و المواجهة بينها من أجل أن يقولوا شيئا آخر ربما يكون مخالفا لمجموع تلك الإيديولوجيات نفسها" (11).
أما بالنسبة للزاوية الثانية، و هي النظر إلى الراوية كإيديولوجية، فإن الرواية باعتبارها إيديولوجية تعني أولا موقف الكاتب تحديدا، لا موقف الأبطال كل منهم على حدة...فالإيديولوجيات داخل الرواية لا تلعب إلا دورا تشخيصيا ذا طبيعة جمالية من أجل توليد تصور شمولي و كلي هو تصور الكاتب(12).
فالرواية كإيديولوجية إنما تتولد من خلال الصراع الذي يدور بين الإيديولوجيات المختلفة الموجودة داخل العمل الروائي. يقول أحد الباحثين " فالرواية لا تتحول إلى إيديولوجية إلا عبر صراع الإيديولوجيات وعبر التعارضات التي توجد في كل إيديولوجية على حده. هذا الصراع الذي يشكل مجموع بنائها العام"(13).
و خلاصة القول " إن الإيديولوجيات تدخل إلى عالم الرواية التخييلي كمكون يكون أداة في يد الكاتب ليعبر في النهاية بواسطته عن إيديولوجيته الخاصة" (14). و من ثم فإن جدل مكونات الواقع المتصارعة هو الذي يلقي بظلاله على عالم الرواية ؛فإذا هي تصوره فنيا " إن الرواية باعتبارها إيديولوجية لا تتأسس إلا بواسطة و من خلال الإيديولوجيات في الرواية (15).
و من بين كتاب الرواية العربية في الجزائر الذين يصنفون ضمن كتاب الرؤية أو الموقف الإيديولوجي، الكاتب الروائي الطاهر وطار، إذ إن القارئ لكتاباته لا يعدم أن يقف على منحى عام يميزه عن غيره من كتاب، و يسلكه في سياق من الكتابة الروائية الخاصة، ذلكم هو الموقف الإيديولوجي الذي يبرز بشكل حاد، و ربما بشكل عنيف في جل ما كتب هذا الروائي.
إن الموضوع الذي يجذب "وطار" و يشده أكثر هو علاقة الفن الروائي بالواقع، و كيف يكون الفن في خدمة الواقع، و الواقع في خدمة الفن؟ أو كيف يكون أحدهما جزءا في بنية الآخر؟ غير أن الكاتب لا يتناول موضوعه هذا بشكل مسطح وفج، بل يتناول المسألة إبداعيا ،و من خلال الموقف الجدلي بين الفن و الواقع، و من منظور رؤية شمولية تنطلق من الواقع الاجتماعي الراهن أو السابق فاحصة إياه، محللة تناقضاته و مبرزة تعارضاته، مقدمة أثناء ذلك رؤية استشرافية للمستقبل. و من ثم فإن (وطار) يعد من بين الكتاب الذين ينسجمون مع " الموقف الفكري العام"، الذي يدعم رؤيته الشاملة لقضايا الكون و الإنسان و الحياة"(16).
فالكتابة الروائية عند الطاهر وطار ليست لعبة إمتاع تنتهي وظيفتها بمجرد الانتهاء منها، بل الكتابة لديه رسالة و موقف مما طبع كتاباته بطابع الرؤية الشمولية، و مكنه كذلك من " إدراك العلاقات الجدلية التي تربط الفرد و أفكاره و أفعاله و عواطفه بالحياة و صراعات المجتمع"(17)، بعيدا عن المباشرة و الخطابية اللتين تحولان النص الروائي إلى خطاب مسطح ينزع فيه البطل الإيجابي نحو تغير الواقع إلى الأفضل باعتباره البطل النموذجي.
إن وظيفة الفن عند (وطار) كما يقول أحد الباحثين " ليست مرآة عاكسة للواقع، بل إنها تدل على الوعي الممكن ينطلق من الآن إلى المستقبل، و ذلك بتشييد فوق الواقع واقعا آخر فيمزجه، إنه الواقع الحقيقي مكثفا و مضافا إليه الفن"(18).