مرايا النفس
عبدالمنعم شلبي
الشاعر عاطف الجندي الذي أمتعنا من قبل بمجموعته الشعرية "بلا عينيك لن أبحر" يواصل عطاءه الإبداعي في ميدان الشعر. هذا الميدان الذي لا يصول فيه إلا الفرسان الصادقون الصابرون. فيقدم لنا مجموعته الشعرية الثانية "مرايا النفس".
والمرايا جمع مرآة: محدبة. مقعرة. مستقيمة. لامعة. مغبرة.. ولهذا تتعدد الرؤية بتعدد المرايا. و"النفس" اسم معرف بأل الدالة علي استغراق الجنس كله. وهي النفس العليا الواحدة التي خلق الناس جميعا منها "خلقكم من نفس واحدة" ولها صفات عامة مشتركة منها ما عبر عنه الإمام البوصيري بقوله: "والنفس كالطفل ان تهمله.. شب علي حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم"
الشاعر كما هو واضح من شعره لا يتحدث عن هذه النفس. وإنما يتحدث عن نفسه هو. ينظر في مرآة مستقيمة فيري نفسه علي حقيقتها "أنا. في بيت الحب. بني جدي. وأقام أبي. فكساه سنا. وبثوب العرس أتت أمي. تحلم بالشمس. فكنت أنا".
ويقلب عينيه بين مرايا متعددة. فيري نفسه في صور متعددة. يعبر عنها بقصيدته "مرايا النفس" التي جعلها عنوانا للمجموعة. يري نفسه "فلاحا مصريا نسله الصبر. وصهر الفأس. والمحراث والمنجل. يعانق الشجر. ويغزو النجوم بالمقلاع. ويحرث في مياه النهر كي ينمو بها قلب يعانق طيره الصفصاف يجمعنا. وعند مواسم الأشواق بين شفاه أغنية يفجر نفسه طربا علي أعتاب حواء.." ويعاود النظر مرة أخري فيري نفسه "قرويا في رئتيه نسائم زهرة التفاح والليمون والمشمش. ويقبل صدره المفتوح. نهر عبيرها المنعش" ويمعن النظر فيري أنه هو "من جاء نهر النيل يحمل طمي أفكاره. فأينع في حقول اللحن أغنية تعانق زهرة الصبار. أدمن حكمة الصمت". ويتنبه في صمته الي المصير "أبي قد مات تحت الشمس. بين حدائق الحب. وكان الداء مصريا. وفيروسا يعانق موته كبدي. وكان النعش أزهارا. من النعناع والحناء والزعتر. وأما القبر فدان. من الصلوات أودعها. قلوبا من محبيه" ويلتفت الي تاريخه وأصله فيقول: "وأمي لم تزل إيزيس. تجني في حقائبها. بقايا عصره الذهبي. تفتح جثة التاريخ. تنبش عن بقاياه وتحكي لي عن الذكري. أنا ليلاي لا أهوي. حديث النفس عن أمجاد قرطبة. وعن أشعار ولادة. ولا أبكي علي طلل. أضاع زهير دنياه. يصلي خلف أمجاده. ولا أستصرخ المجنون ان يحمي كعنتره. قبائل عبس كالعادة. ولكني بلا قصد تركت القلب للغادة. تبعثر في زواياه ويدخل نهدها الهرمي. في ذرات تكويني. أحبيني وخلي قلبك العصفور يسمعني وعند شواطيء الألحان يلقيني. وهاتي خيلك البري. يرعي في بساتيني. ويأكل من حشاش القلب أوردا ويمرح في شراييني.." ويعود ثانية الي تاريخه المصري القديم والعربي القديم المتجدد: "عروسة النيل حتشبسوت. ياسلمي. وياقمرا عرابيا. وياجلنار بعض الوقت. كل العمر. تنزيلا سماويا. هنا الفرعون والعربي. يقتسمان في رئتي. برامج حبك المبعوث من عينيك. ارسالا هوائيا أعيد البث من شعري. علي الأقمار. إشعاعا فضائيا.." وفي المقطع الأخير من القصيدة يعبر عن آماله وأحلامه "أريد الحب والأحلام. أنسي لسعة السوط.. ليمضي الحبر كالعصفور من بيت الي بيت. فلا زوارك إلي "يأتون" وقت الفجر. للبيت. هي الأحلام لوتستي. بقدر صراحتي كوني. بما تبغين من صيت. وان لم تقدري ثوري. كوني الآن تمساحا. ورديني الي الموت!"
في هذه القصيدة الطويلة يذكر الشاعر أسماء تاريخية: إيزيس قرطبة زهير عنترة مينا حتشبسوت سلمي عرابي جلنار. ثم يقول: "هنا الفرعون والعربي يقتسمان في رئتي" وكان يمكنه ان يكتفي باسمين مثل: حتشبسوت وقرطبة ليوحي للقاريء بما تحمله مصر من حضارتين عريقتين هما: الفرعونية والعربية. بدلا من هذا الحشد الذي لا يضيف جديدا. ولا يخفي أن قوله: "هنا الفرعون والعربي يقتسمان في رئتي.." تعبير مباشر وحشو لا داعي له.
تضم المجموعة خمسا وثلاثين قصيدة تتراوح بين الطول والقصر. وكلها تجنح الي اللغة البسيطة السهلة. وتنحاز الي نظام التفعيلة والبحور التي يتميز بها الشعر العربي الأصيل. وان كانت هناك فقرات تميل الي النثر الفني الذي يجنح بها عن جادة الشعر. علي ان الشاعر عاطف الجندي في مجموعته هذه خطا علي الدرب خطوة واسعة مبشرة بشاعر فذ رغم عثرات الطريق. وهذا ما يدفعنا الي التفاؤل بالمستقبل.
************
* عبد المنعم شلبى ناقد و أديب مصري