قراءة واعية لعلاقة الغرب بالإسلام (3)
مصطفى إنشاصي
نود الإشارة هنا إلى أن الحرب الصليبية لم تبدأ مع الحملة الصليبية الأولى المؤرخ لها عام 1098م تاريخ سقوط القدس في يد الإفرنج لكنها بدأت قبل ذلك، بدأت مع بداية البعثة المحمدية وظهور الإسلام، بدأت من الحرب الإعلامية التي تمثلت في المناظرات التي حدثت بين الرسول صلَ الله عليه وعلى آله وسلم والنصارى في الجزيرة العربية، مروراً بالمناوشات على الحدود مع الدولة البيزنطية وأعوانها من العرب الغساسنة النصارى في غزوتي مؤتة وتبوك، ثم الصراع العسكري والفتوحات الإسلامية للبلاد التي كانت واقعة تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، إلى المرابطة المستمرة على طول الثغور مع الدولة البيزنطية، والغارات والمناوشات المتبادلة بين المسلمين والروم داخل أسيا الصغرى والأناضول.
لقد ظل الإسلام يهدد أوروبا النصرانية بقوة جيوشه وقوة حضارته المنبثقة عن الروح القرآنية التي أعطت الإسلام دفعته الأولى للانطلاق وبناء الدولة الإسلامية وحضارته الإنسانية الزاهرة عدة قرون، إلى أن دبت فيهم مظاهر الضعف والانحلال على الصعيد السياسي والاجتماعي والحضاري وتفشت بينهم الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية، وانقسم المسلمون إلى: الدولة الفاطمية الشيعية في مصر وشمال أفريقيا، والدولة العباسية السنية في العراق وبقية أنحاء الوطن الإسلامي، وقد قطعتها الصراعات إلى دويلات مستقلة ومتناحرة، والدولة الأموية في الأندلس، أصبحوا ثلاثة أقسام لا يوجد بينها تعاون أو لقاء بل كان التآمر والتحالف مع أعدائهم النصارى الأوروبيين ضد بعضهم. وليس أدل على ذلك من أن الفاطميين رحبوا بالحملات الصليبية عند قدومها ظناً منهم أنها ستضعف أعدائهم دولة الخلافة العباسية والسلاجقة السنيين. ولن تقف آفة التفكك والصراع على المشرق الإسلامي فقط بل امتدت إلى الأندلس.
كان ذلك هو شكل الخارطة السياسية للوطن الإسلامي قبيل الحروب الصليبية، ولم يكن حال الغرب الصليبي في تلك الفترة أفضل؛ بل كان أسوء حالاً، حيث بلغت حالة الضعف والانحلال والتخلف في أوروبا أدنى دركاتها، وقد كانت عامة شملت كل جوانب الحياة الأوروبية الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، وكان أسوأها مظاهر الصراع السياسي الدامي الذي استمرت شعلته مستعرة بين ملوك الاقطاع وأمراءه في أوروبا النصرانية لقرون لم يخلصهم منها إلا خطبة حاقدة على الإسلام والمسلمين ألقاها البابا الذهبي أربانيوس الثاني في مدينة إكليرمونت بفرنسا. سنأتي على ذكرها.

الحروب الصليبية في الأندلس
يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور: "ومن الملاحظات التي استرعت نظر المؤرخ ابن الأثير حرصه على أن يفتتح كلامه عن الحروب الصليبية واستيلاء الصليبيين على أنطاكية سنة 491هــ بالإشارة أولا إلى الحروب بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس وصقلية، مما يوضح أن المؤرخ الواسع الأفق ربط ربطاً قوياً بين أطراف الحركة الصليبية في أسبانيا وصقلية وشمال أفريقيا والشام واتخذ الحروب الصليبية في الأندلس مدخلا للحروب الصليبية بالشام".
وقد جاء الخطر الصليبي في الأندلس من تلك الجبال الشمالية والغربية التي بقيت بيد النصارى في شبه جزيرة أيبيريا التي لم يفتحها المسلمون عند دخولهم الأندلس عام 711م، حيث لجأت إليها فلول النصارى وبدأت بمناوشة المسلمين انطلاقا منها، وقد كان الطابع الديني غالباً على تلك المناوشات حيث نرى أن "الفونسو الأول (739-757) خص الكنيسة بنصيب موفور من الأراضي التي يستولي عليها من المسلمون وستخدم رجال الدين في الوظائف حتى لا تطغى سلطان الطبقة الأرستقراطية".
وفي عهد عبد الرحمن الثاني بن الحكم حدث في "أثناء حكمه أن أغار ألفونسو الثاني ملك ليون على أرجون غير أنه لقي الهزيمة وأصاب مملكته التخريب والتدمير وارتد الإفرنج كذلك على أعقابهم في كاتالونيا ... أما الثورة التي قام بها المسيحيون واليهود في طليطلة، فقد تم قمعها في 837 غير أن المتعصبين من المسيحيين ظلوا على نشاطهم ولا سيما في قرطبة. كما أنه أخمد ثورة أخرى قام بها المسيحيون في قرطبة وقام بعمليات حربية واسعة المدى ضد الإمارات الصليبية المسيحية في ليون. صقلية ونافار واستولى على بامبلونا عام 861.
واستمرت المناقشات بين المسلمين والنصارى تتوالى حتى أخذت شكلاً تكتيكياً وحرباً مقدسة أناخت بآخر المعاقل الإسلامية على عهد ملوك الطوائف، وكان أول تلك المعاقل التي سقطت بأيدي الصليبيين في الأندلس مدينة قرطبة عام 1031م، وكانت بداية اشتداد الخطر الصليبي في الأندلس على عهد ألفونسو السادس ملك ليون وقشطالة، الذي استطاع السيطرة على طليطلة عام 1085م وبدأ التوسع بعد ذلك على حساب المسلمين، وفي الوقت نفسه كان النورمان يتقدمون في جزر المتوسط حيث احتلوا صقلية ومالطا عام 1090م.
وأمام الخطر الصليبي في الأندلس لم يجد ملوك الطوائف بداً من الاستعانة بإخوانهم المسلمين في شمال إفريقيا، فسرعان ما عبر إليهم يوسف تاشفين أمير المرابطين على رأس جيش والتقى بجيش الفونسو السادس في معركة الزلاقة عام 1086م، وأنزل به هزيمة ساحقة على أثرها وعاد ابن تاشفين إلى بلاده بعد أن أعاد الأمن إلى الأندلس. وسرعان ما عادت الخلافات والمنازعات بين ملوك الطوائف وعاد الخطر الصليبي إلى الأندلس مما اضطر يوسف بن تاشفين إلى العودة إلى الأندلس عام 1090م ليخضعها إلى حكم المرابطين ويخلصها من شر ملوك الطوائف والصليبيين، لكن الخطر الصليبي على المسلمين في الأندلس لم يتوقف، واستمر بعد ذلك عدة قرون استعان فيها صليبيو الأندلس بالمتطوعين من جميع أنحاء أوروبا، وأخذت الكنيسة والبابوية دورها في الصراع، وحل محل دولة المرابطين دولة الموحدين الذين أظهروا مقاومة عنيفة ضد الصليبيين هناك وأنزلوا بهم عدة هزائم قاسمة، كان أشهر هزيمتهم في معركة الأراك عام 1195م.
وقد غلب على الصراع في الأندلس الطابع الديني وجعل منها حرباً صليبية لا تقل أهمية في نظر الأوروبيين المعاصرين عن الحروب الصليبية الدائرة عندئذ في المشرق، وهكذا أخذ الصراع مع المسيحيين في الأندلس دورا جديداً لم يعد فيه مجرد حروب محلية متفرقة بين أحد حكام الفريقين، وإنما أصبح صراعاً شاملاً بين حضارتين مختلفتين وديانتين متباينتين، ظلا يقتسمان النفوذ ويتنازعان السيادة على ذلك الركن الجنوبي من أوربا طوال عدة قرون. إلى أن تم القضاء على النفوذ الإسلامي في الأندلس عام 1492م.
تقول الدكتورة زغريد هونكه "في 2 يناير 1492 رفع الكاردينال دبيدر الصليب على الحمراء، القلعة الملكية للأسرة الناصرية فكان ذلك إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على أسبانيا. وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوروبا طوال العصور الوسطى".