الحلقة الأولى من النص الكامل من رواية "الحليب والدم"
December 2, 2013 at 7:10pm
استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقات
النص الكامل لرواية
الحليب والدم
نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
الحلقة الأولى
الفصل الأول
زرقاء اليمامة تستيقظ منتفضة من سباتها الأبدي بعد أن هزت نوايا الدكتور"جولدي" سكان القبور. تحدق في الغيب بعينين كانتا على الدوام دثارا دافئا يحمي الهديل من الدموع والعويل. ترسل أسرار عينيها السرمدية إلى حيث تهتز الأرض في البعيد. تحاول أن تعرف سرَّ زلزالٍ أيقظ الموتى. العواصف الثائرة تغمر الأفق والموت يزحف. حِمْيَرُ خدعت عينيك يا زرقاء, جاءت تنتزع منهما الحبَّ والدفءَ والأمان. جفافٌ وقحط. أوراقُ السماء تحترق. واللحمُ الآدمي شواء.
حليب الأمهات يتدفق من صدورهن دما ملتهبا. أشلاء الأطفال المتناثرة ترتعش ارتعاشة السكون الأزلي, تودِّع رمقَ حياة أخير على أنغام سيمفونيةٍ عزفتها العناكب بأوتار الموت. الدم يختلط بالحليب. "جولدي" يملأ كأسَه من شراب الشيطان. "أبوقراط" يصرخ مُدَوِّيا يحمي قسمَه. "جولدي" يقرع الكؤوس, ويشرب نخب الفناء على مائدة إبليس. "أبوقراط" يواصل الصراخ وقسمُه ينزف. "جولدي" يعانق الشيطان ويضحكان. يرقصان على إيقاع فحيح الأفاعي, وينتشيان بدم الأطفال المنثور رذاذا رطَّبَ من حولهما الأجواء. "أبوقراط" ينتحر على مذبح قسمه النازف..
تختلطُ المعاني.. تجِفُّ القواميس.. ترتعشُ المعاجم.. وكلُّ الجرائم تبكي وكلُّ المجرمين.. حزنٌ وخوفٌ وفزع.
مستشفى "الأرحام" شامخ يتحدى الفناء, يعانق الأمومة, يُخَضِّبُها بلون الشمس والسلام. تنبعث من جنباته في كلِّ ساعة أنغامُ حيواتٍ جديدة, تعتصر الأمهات أجسادَهن وقودا لها. الرُّدهات, الممرات, نسائم الحب المرسلة مع صرخات الحياة الأولى من غرف الولادة, تبعث الأملَ في نفوسٍ محبطة يائسة, حرمتها الطبيعة نعمة الإسهام في ربط ما مضى بما سيأتي. في هذا المكان المشرق بلون الحب الأبيض, أعيدت الحياة إلى أجسادٍ جفَّت وهي تبحث عن أمومة مفقودة.
الدكتور "جولدي" وقف يتحدث بين حشد من الصحفيين بعد أن انتهى للتو من إجراء إحدى عمليات زرع الرحم الدقيقة.
صحفية شابة توجه إليه سؤالا وهي تقرِّبُ يدَها وجهازَ التسجيل الصغير من فمه.. "دكتور جولدي" لقد حضرتَ إلى مصر منذ حوالي أسبوعين, هل لنا أن نعرفَ كم عملية زرع رحم أجريتَ خلال هذه المدة؟".
"في الحقيقة كان هذا الأسبوع غنيا بالعمليات".
يصمت وينتظر منها ردة فعل لم يظفر بها. ينتبه إليها وهي تُبعدُ يدَها والمسجلَ عن فمه, بعد ما أحست باقترابه منهما قليلا. يكملُ بسرعة وارتباك.. "نعم, لقد كان غنيا.. أجريت خلال هذا الأسبوع وحده تسع عمليات".
ينتظر سؤالا آخر. يجيل نظره بين حشد الصحفيين.
صحفيه أخرى تستعد للكتابة بعد أن أخفت مسجِّلَها الصغير في حقيبة يدها.. "ماهي نسبة النجاح في العمليات التي أجريتَها يا دكتور؟ أقصد هل واجهتك مصاعب؟ وهل هناك عملية لم تنجح النجاح المطلوب؟".
يهز رأسه ويحرك يديه بفخار.. "كلها كانت ناجحة, لم تفشل أيُّ عملية. هذا يرجع بطبيعة الحال إلى الطريقة الجديدة في عملية زرع الرحم".
الصحفية الأولى تحاول تسريع وتيرة اللقاء. تقاطعه كي لا يسترسل في استعراض بطولاته.. "دكتور جولدي, على ذكر الطريقة الجديدة في الزرع, والتي قمتَ باكتشافها, هل تمثل في رأيك حلا لكافة مشكلات العقم الناتجة لدى النساء عن تلف الرحم؟ أم أن هناك حالات معينة لا يمكنها أن تستفيدَ من هذا الكشف العلمي؟".
يُظْهِرُ سعادةً خاصة بسؤالها. يشير إليها بسبابته محاولا إضفاء جوٍّ من الدعابة على حديثه، جعل المحيطين به يتبادلون نظراتِ تأَفُّفٍ تفيض بمعاني عدم استلطاف المحاولة. يدرك ذلك. يهزُّ رأسَه هزاتٍ سريعةً وقصيرةً قبل أن يبدأ بالإجابة..
"أنت في الواقع سألت سؤالا مهما جدا. أستطيع القول أنه بإمكان أيِّ سيدة تعاني من مشكلات في الرحم تحرمها من أن تكون أما, أن تصبح أما. إن طريقة الزرع التي توصلت إليها تعتبر انتصارا طبيا كبيرا".
صحفي يقف منزويا يسأل.. "دكتور جولدي, حسب معلوماتنا فإنك ستسافر إلى بلدك خلال أيام, ولن تعود إلى مصر قبل حوالي عامين, ونساءٌ كثيرات يرغبن في إجراء العملية بكلِّ تأكيد. فهل تلقيت طلباتٍ من سيدات مصريات لزيارتك في بلدك لإجراء العمليات لهن هناك, مادمتَ ستغيب هذه المدة؟".
"جولدي" يهزُّ رأسَه ببطء وهدوء. تظهرُ عليه علامات الإحساس بالحرج. لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال. ينظر إلى السائل بحذر شديد. يركز عينيه في وجهه دون وجوه الآخرين. تولَّدَ لديه إحساس غامض بأنه سيرى فيها سخرية واستهزاء قد لا يحتملهما. ثم, بلهجة جادة رزينة, وحركاتِ يدٍ ثقيلة على غير العادة.. "الغريب في الأمر أنني لم أتلق إلا طلبا واحدا من سيدة مصرية وحيدة لزيارتي في بلدي".
فجأة يبدأ لسع السياط,
صحفي آخر يقاطعه بلهجة ساخرة وشت بها ابتسامة خبيثة مقصودة.. "لماذا في نظرك هذا الإحجام يا دكتور؟".
صحفية أخرى مُعقِّبَة بنفس اللهجة قبل أن يجيب.. "مع أن الكثيرات يتمنين أن يصبحن أمهات في أسرع ما يمكن".
صحفية من بعيد تضيِّقُ عليه الخناق, تقصد إشعاره بالحرج والارتباك.. "ومع أن إجراء العملية في مستشفيات بلدكم قد يكون أضمن نجاحا.. أليس كذلك يادكتور؟".
آخر.. "والرحلة ليست مكلفة".
أخرى وهي تضحك.. "وبلدكم ذات تاريخ عريق".
يضحكون.. "لماذا يا دكتور؟".
يشعر بالحصار. يُنَقِّل نظرَه بينهم بحركاتِ رأس زمبركية, كنقار الخشب, لكنهم يواصلون السخرية.
"لو كنت عاقرا لسافرت إليك يا دكتور".
ضحك وقهقهة.. "كثيرات سيسمين أول طفل لهن جولدي".
يحاول التفَلُّتَ بترقُّبِ لحظة قطع بين مشهدي سخرية, كي يوقف هذا السيل الذي تواصل كوخز الإبر.
"كم ثمن الرحم في بلدكم يا دكتور؟".
"ألن تحدث مضاعفات لمن تُزرع لها رحم امرأة من هناك؟".
"في هذه الحالة يا دكتور ماهي جنسية المولود؟".
"وهل ستطبق عليه في اعتماد الجنسية قوانينكم أم قوانيننا؟".
"هل ستسمحون له بحمل الجنسية المصرية؟".
"ألا تعتقد يا دكتور أن هذه هي أفضل طريقة للتطبيع والتكيف؟".
ابتسامات. ضحك. قهقهة. تندر وتنكيت, رأى فيها سياطا تنهال عليه لتنتزعَ منه اعترافاتٍ لا يريد الإدلاء بها. وفي لحظة عابرة بين هجومين استردَّ توازنَه واقتنصَ المبادرة. هزَّ رأسه بشدة وحرك يديه بعنف. حدق بشراسة في وجه الصحفي الذي استدرجه إلى هذا المطب. وبلهجة قاسية تفوح بنزق حاقد..
"بصراحة أنا غير مدرك للسر الكامن في الإحجام عن أجراء عمليات من هذا النوع في بلدنا, مع أن الإمكانات هناك أفضل بكثير". يبدأ بالانفعال وهو محاصر بهزات رؤوس مستهزئة وابتسامات ساخرة.. "لست أقدر على فهم الظروف والأسباب التي تدفع سيدةً محرومة من الأمومة إلى الدَّوْس على جراحها وآلامها تكريسا لما يجب أن نتخلَّصَ منه جميعا".
يصمت بعد أن أحس لفرط انفعاله بانقطاع في نفسه. حاول السيطرة على أعصابه دون أن يسمح للحظة الصمت بأن تطول, فتفقده زمام المبادرة التي اقتنصها بصعوبة من وسط سيل السياط التي انهالت عليه تلسعه قبل قليل. كانت هذه اللحظة القصيرة جدا كافية وبجولة نظر سريعة, كي تجعله يكتشف أن حالة من البرود واللامبالاة كانت تستغرق الحاضرين جميعا وهم يستمعون إليه.
تظاهر مع بدء جولة الحديث التالية بقدر من الشجاعة, حاول تأكيدها بمشروع ابتسامة. حرك سبابته نحو الأعلى لإبعاد أيِّ إيحاءات غير مرغوبة عما سيقوله. وبهدوء قنَّعَه غضبٌ مكبوت..
"وبالمناسبة حتى السيدة التي اتصلت بي وزارتني وأجريت لها بعض الفحوصات الأولية هنا في مستشفى "الأرحام", كانت تلحُّ عليَّ كي أحضر في العطلة الصيفية لإجراء العملية لها في مصر. ولولا أنني أقنعتها بأن ظروفي لا تسمح, وبألا مفر من الحضور إليَّ إذا كانت مصرةَ على إجراء العملية في الصيف المقبل, لما قبلت أن تحضر. لقد كانت متلهفة جدا على إنجاب طفل كي تصبح أما. لذلك قبلت وعلى مضض زيارتي في بلدي".
... يتبع في الحلقة الثانية