قصص فلسطينية قصيرة جداً

د. يوسف حطيني

81 - حُبّ.. وفيس بوك.. واحتلال

"ـ من أين أنتِ؟

ـ من رام الله.

أخيراً حقّق له الفيس بوك حلمه الجميل، خفق قلبه بشدّة، قال لها: سيضيء حبُّكِ ليلَ غزّة المظلم.

على غير العادة، فرحت أمّه، ورأت أحفادها يملؤون حوش الدار صخباً وحياة.. غير أنّ أمنيتها لم تتحقق:

كان معبر "إيريز" الذي يفصل الضفة عن غزة يقف للعاشقَين بالمرصاد.

* * *

82 - سرطان

وصل إلى الحاجز الإسرائيلي، كان عائداً من مستشفى في القدس إلى بيته في نابلس، بينما تفشّى المرض في خلايا جسمه بلا رحمة.

على حاجز ما أوقفوه ساعات، ثم تركوه في النزع الأخير يشق طريقه على قدميه نحو الحافلة.

على حاجز آخر لم يسمحوا لسيارة الأجرة التي يستقلّها بالعبور، فأوصى ابن عمّه بأولاده خيراً، ثم أسلم الروح، ووصل جسده إلى مقبرة المدينة المغتصبة..

ثمة سرَطَان آخر قَتَلَ تيسير القيسي..

* * *

83 ـ ولادة جديدة

لم يسمحوا لـ "وديان أو رامي" أن تغادر قرية أبو ديس نحو مستشفى التوليد.

هناك على الحاجز قال لهم صوت مولودها: "إنا هنا باقون".

* * *

84 ـ أحلام غير مصفَّحة

إلى عبد الله المتّقي

حمام كثير يملأ سماء المخيّم، هديل أبيض يحجب عن المستظلين بالسلام وهج الشمس، على غير موعدٍ يزعق هدير أحمر، ويجرح الفولاذُ أجنحةَ الحمام، ثم يرتدّ حلمي خائباً.

* * *

85 ـ وجهان يبكيان

كان فارس يحبّ الموسيقى، يجمع حوله العصافير وأصدقاء المدرسة الابتدائية، ليغنّي معهم أغنية يتيمة كان قد أتقن عزفها، بينما تضع أمه الحَبّ والماء للعصافير، وتصنع عرائس الزعتر للأطفال.

ذات قَصْفٍ.. فقد أصدقاءه ويديه الصغيرتين، فتجمعت العصافير حوله، وحول أمه الدامعة، وهي تنشد لهما الأغنية ذاتها:
"الطفل في المغارة، وأمه مريم، وجهان يبكيان".
* * *

86 ـ الجريمة والعقاب
جلس تحت شجرتنا يتفيّأ ظلّها، فتح صندوقه المليء بالطعام والشراب والرصاص، وراح يلتهم ما لديه بشراهة؛ وإذ عبّ من زجاجات الماء لم ينتبه إلى أنّ شجرتنا التي تظلّه قد اصفرّت أوراقها، وهي تحتاج بضع قطرات.
بعد سنوات عجاف نفد ماءه وطعامه ورصاصه، فمات جوعاً وعطشاً، وعندما هطل الماء فوقهما بقي موشيه جثة هامدة مبللة، وأمّا الشجرة....
* * *

87 - تواطؤ
زارني محمد الدرة هذه الليلة، كان يحمل على كتفه حقيبة مدرسية خضراء، حاصره الرصاص من كل صوب؛ وإذ نجا بأعجوبة كان يحمل في قلبه جرحاً.
حاولت إنقاذه ولكنني استيقظت على صوت المنبه الصباحي.
ثلاثة اشتركوا في قتل صديقي: الجندي والكابوس وآلة الزمن.
* * *

88 - الحارس
أرهقني ظلّي، كان يتبعني من مكان إلى آخر، يقرأ قصصي، ويحصي أنفاسي، ويحاصر خلايا الروح.
عليّ أن أغافله حتّى أتمكّن من عبور النهر..
استيقظت قبل صلاة الفجر، ورحت أعبره نحو قريتي، وفي قلبي شوقُ خمسةٍ وستين عاماً من الغياب.
كان ينتظرني على الشاطئ الآخر، ويطلب مني بإشارة من مسدّسه أن أعود.
* * *

89 - يا دَمَهُ..

ـ "مات ميتة طبيعية".

هكذا قرّر أبو الجماجم حاسماً، وهو ينهر الطبيب الشرعي، طالباً منه الكفّ عن متابعة فحص الجثّة..

على شاهدة رخامية بيضاء، كتبوا: هنا يرقد الصحفي (س) الذي رفع قلمه في وجه الاستبداد والرشوة والفساد.

كان حفّار القبور مندهشاً وهو يرى الشواهد في صباح اليوم التالي وقد اصطبغت بالأحمر القاني.

* * *

90 - وفاء

زرع جدّي أرضه الواسعة مشمشاً وبرتقالاً وقمحاً، وحين طردوه منها ودّعها بنظرة حزينة.. بكت الأرض يومذاك، وخبّأت بين جوانحها سرّاً.

منذ ذلك اليوم لم يجنِ الغرباء من أرضه إلا الشّوك.