رواية «دون كيشوت»
حجر الزاوية في فن الرواية
وفق تطورها منذ القرن السابع عشر


ينتمي سرفانتس الى تقليد ثقافي لم يكن بمقدوره الكلام عليه، إنه تقليد (1466- 1536 ) Erasme de Rotterdam، الذي اعتبر دليلاً في مطلع عصر النهضة في بلاط الملك الشاب «شارل كوينت» ومصباحاً اطفأته سريعاً الرياح الباردة والدوغماتية الناتجة عن الحركة المعارضة للاصلاح، فبعد مجمع ترانت الديني 1545، فقد عملت محاكم التفتيش على تحريم « ايراسموس» ومؤلفاته ، ولذلك بقيت وصيته سدية، وقد كان سرفانتس مشبعاً بهذه الفلسفة المحظورة، كان «ايراسموس» يسعى الى التوفيق بين الايمان والمنطق ، رافضاً، ليس فقط عقائد الايمان، إنما ايضاً معتقدات المنطق، ولذلك اضطر سرفانتس ، وهو من اتباع ايراسموس في اسبانيا الى اخفاء انتماءاته الفكرية، فالكتاب الرئيسي لإيراسموس في مديح الجنون (1509)، هو مديح لدون كيشوت المطوّف في عالم ايراسموس حيث كل حقيقة هي موضع شك وكل شيء يغرق في التردد وهكذا اكتسبت الرواية الحديثة حق الولادة، وكون سرفانتس لم يتمكن من التعبير عن الفكر الايراسمي التحرري، فقد تجاوز ايراسموس، وأصبحت عقلانية روتردام جنون «لا مانشا» والمزاوجة بين الحكمة «sagesse» والتشكيك incertitude ولّدت الرواية كما عهدناها ، اي حيّز متميز، عملياً للتشكك.
فالمكان غير ثابت ، وهو قرية مجهولة في الريف الاسباني المعزول ، وهو مكان لايمكن معرفة اسمه:
En un lugar de lamancha decuyo nombre no quiero acordame.
والمؤلف غير اكيد ، فمن وضع هذا الكتاب؟ هل هو سرفانتس أم دو سافادرا؟ أم سيّدهاميتي بيننجيلي؟ أم أحد النساخ الموريين؟ أم البهلوان المقنع «جينس دوباسامونتو» المتنكر تحت اسم المعلم « بيدرو» العامل في مسرح الدمى المتحركة؟ ولذلك فإن اغفال اسم المؤلف يعجز عن اخفاء الرغبة في رفض ادعاء حق الملكية ، والاسماء غير أكيدة، فهل أن دون كيشوت هو فعلاً نبيل مفلس يحمل اسم الونسو كويخانو؟ أو ربما ركيزادا؟ أم يجب اتخاذ وجهة أخرى ، فهل ان الشاب الشريف المفتقر هو فعلاً الفارس الجوال الشجاع؟ «سيد» مهان، أم «كورتيز» (نائب) مخلوع؟ والحال ما الذي يوحي به الاسم؟ إن التذبذب في اسماء الاعلام، في رواية دون كيشوت، يهدم كل يقين منبعث من قراءتها مباشرة، ذلك ان «دولتيني » هي « الدونزا» شابات فقيرات يصبحن ملكات واميرات ، دواب هزيلة تتحول الى جياد بطولية، وأسياد قصور أميون يصبحون حكاماً.
اما خصوم دون كيشوت المتخيلون فيحملون اسماء غريبة ، مثل العملاق «بنتابولان» ذي الاكمام المشمّرة... وهذا ما استدعى ان يحمل خصومه الفعليون اسماء مماثلة ايضاً، ذلك ان سامسون كاراسو الطامح الى الفروسية سوف يلقب بـ« فارس المرايا» وذلك بغية الدخول في عالم اسماء العلم الخاص بدون كيشوت، وحتى اسم دون كيشوت نفسه، وهو الاسم القتالي للسيد كيخادا... او كيخانو... او كويزادا... يشارك في اطار هذه التشكيلة القتالية التامة في لعبة ( الاسماء) الألقاب هذه فيصبح « الفارس ذو الوجه الحزين» أو « فارس الاسود» او «كويخوتيز» على النمط الرعوي ، أو «دون أزوتي» المضحك الذي يصبح اسمه في الفندق السيد « كرافاش» او أيضاً «دون جيغوتي» في بلاط الدوق السيد هامبرجر الذي هو موضوع سخرية.
كل شيء في رواية دون كيشوت غير أكيد ، الاماكن والاسماء والكاتب إن ما يزيد من عدم اليقين هو الثورة الديمقراطة الكبيرة التي أسس لها سرفانتس والتي تتمثل بابداع الرواية كمساحة مشتركة lugar comun وهي نقطة تقاطع المدينة مع الساحة المركزية ملتقى الجميع poly forum، الحقل العام حيث لكل انسان الحق في أن يسمع صوته لكن حيث لاحق مطلقاً لأحد في الكلام ، وهذا المبدأ ، الموجه في عملية الابداع الروائي ، يحيل الى ما أسماه الباحث كلاوديو غويان « حوار الانواع» وهي تتلاقى كلها كحيز مفتوح في رواية دون كيشوت، وهنا المغامر سانشو بانثا، يمد يد العون الى البطل الملحمي ، دون كيشوت . هنا ينكسر البناء الخطي للسرد، يحاصر ويتسارع بشكل اضطراري لينطلق من الامام أو بالعكس تماماً، وينقطع عبر« القصة داخل القصة» عبر الفاصل الرعوي ، ثم رواية الحب الغزلي والخيوط السردية الموريسكية والبيزنطية، وإذا هو منسوج في زخرفة رواية تقدم ذاتها في نهاية الامر على انها هي نفسها والفرق في عالمها اللغوي .
فقبل سرفانتس ، كانت العملية تستنفد نفسها في قراءة فريدة للماضي الملحمية مثلاً، او الحاضر مثل المغامرة ،يخلط سرفانتس ما بين الماضي والمستقبل ، محوّلاً الرواية الى مسار نقدي يقترح علينا اولاً أن قراءة كتاب عن رجل يقرأ كتباً ، كتاب يصبح فيما بعد كتاباً عن رجل يعرف انه سوف يقرأ فيما بعد، فعندما دخل دون كيشوت الى مطبعة برشلونة واكتشف ان ما يطبع هو كتابه الخاص :
El mgenioso hidalgo don Quijote de la mancha نغرق فجأة في عالم جديد فعلاً من القراء والقراءات التي يفهمها الجميع وليس فقط حلقة ضيقة داخل السلطة، سواء أكانت سلطة دينية أم سياسية أم اجتماعية .


ترجمة واعداد : ابراهيم أحمد
عن اللوموند



جريدة البعث