لأنها كاتبة متميزة وذكية ومجتهدة، ولأن نثرها محمول على جناحين من الخيال المتالق والفكرة الطريفة المبتكرة، فليس غريباً أن تستعير لنفسها في ديوانها «الرقص مع البوم» رمز البوم الذي يتطلع إلى الكون بعينيين واسعتين فاحصتين في نظرة مستقلة وثاقبة يرقب العالم من بعيد، وقد حكم عليه هذا العالم بالعزلة وكره منه أنه نعيبه المتواصل يُعري العيوب، ويفضح التزمت والجمود.. بهذا الكلام بدأت الكاتبة هنادى الحصري محاضرتها حول «البوم في أدب غادة السمان» التي القتها مؤخراً في المركز الثقافي العربي «ابو رمانة» وتشير الحصري في محاضرتها إلى أنه وقبل غادة السمان استعار الأدب التكلم بلسان الحيوان، فالاطار الفني للرمز ليس جديداً إلا أنه مع السمان كما تؤكد الحصري اتسع مدلوله واغتنى حتى بدا الرمز وهو«البوم» مطابقاً لمدلوله الموضوعي وهو المرأة عامة والمرأة الأديبة والمثقفة خاصة في معركتها الإنسانية لإثبات الذات وقد نبذها المجتمع المغلق، وتشاءم من صوتها مثلما يتشاءم من صوت البوم..!

حملت إلى بيت زوجها اربعين بومة
أما حكاية غادة السمان مع البوم فقد حكتها الحصري قائلة:
دونت غادة السمان حكايتها مع «البوم» قبل عشرين سنة في مقال جاء فيه:«في عطلة كل اسبوع أهرب من باريس وبعض الاصدقاء اللبنانيين إلى بيت ريفي جميل المزرعة تملكه أسرة عربية صديقة وما نكاد نصل إلى ذلك المكان الخلاب حتى تغادره عشرات البوم إلى الغابة المجاورة ولا تعود إلا بعد ذهابنا إلى اعمالنا وبيوتنا فجر الاثنين ظاهرة غريبة لاحظتها الاسرة العربية ولم تجد لها تفسيراً خاصة وانها كمعظم جيرانها من المزارعين الأوروبيين تحرص على إقامة البوم عندها في أقفاص خاصة مفتوحة لفوائده في مكافحة الأفاعي والجرذان والحشرات الضارة بالنبات والانسان.. قلت لأصدقائي اللبنانيين: لعل البوم صار يتشاءم منا ولا يطيق رؤية وجوهنا المشؤومة نحن الذين أحرقنا بلدنا ودمرناه وخلفناه خراباً، أين منه الخراب المنسوب إلى البوم زوراً وظلماً؟! لا أذيع سراً إذا قلت إنني لا أكره البوم لا اتشاءم منه ولا اتفاءل به وأجده طائراً جذاباً بعينيه الواسعتين وأحبه كما أحب بقية مخلوقات الله وصحيح أن بعض الناس تعارف على بغضه لأسباب غبية غامضة، لكن ذاك زادني حباً له وشفقة عليه من كرهنا وتحاملنا الغيبي والسلفي المتوارث المتجسد في مظاهر كثيرة ابسطها البوم.
وتحدثت الحصري في محاضرتها مضيفة أن غادة السمان حينما تزوجت حملت معها إلى بيت زوجها أربعين بومة كانت قد اشترتها أيام الدراسة والتشرد في أوروبا لوحات وتماثيل صغيرة ومتوسطة من العاج والرخام والخشب والسيراميك، وحرصاً على مشاعر أسرة زوجها سجنتها في غرفة نومها بعدما استشارت زوجها بخصوص عواطفه نحوها وقبوله بها ولما صمت اعتبرت الصمت علامة الرضا..! فعاشت بسلام هي وزوجها والبوم وشاع وذاع وملأ أسماع العائلة خبر وجود البوم في غرفتها ولم يفاتحها أحد بأمرها بعدما أنجبت صبياً بالرغم من وجود «النحس» في مخدع الزوجية! ولم تكتف الحصري بذكر هذا فقط بل ذكرت في حديثها حوادث عديدة تعرضت لها غادة السمان كان فيها البوم فألاً حسناً، إلى أن قررت أن تضع على غلاف كتابها «أعلنت عليك الحب» صورة بومة، وعندما قيل لها انها ستنحس الكتاب والقراء والحب، قالت الحب لا ينقصه النحس أما القراء فلا يتدخل بيني وبينهم أحد وهكذا كان وطارت الطبعة الأولى في أشهر مثل بومة ليلية وطارت الطبعة الثانية رغم غلاف البوم الذي اصرت عليه وطارت هي لتؤسس داراً للنشر جعلت شعارها البوم فتكاثرت كتبها وطبعاتها، ومع هذا تقول غادة السمان كما ذكرت الحصري «ولو كنت اتفاءل بالبوم لقلت إن وجهها خير لكنني لن أسقط في فخ التفاؤل والتشاؤم بل التحدي للأفكار البالية المتوارثة».
وتؤكد الحصري في محاضرتها على أن كتابات غادة السمان السابقة فيها اشارات عابرة إلى ميلها إلى هذا الطائر المسكين والمظلوم وعطفها عليه، واعتراف صريح بأن بينه وبينها صلة شبه تخالف موقف الناس وتشاؤمهم منه، بل يمتد إلى شبه جسماني، إذ كثيراً ما يطيب للسمان أن تعبر عن ذلك الشبه برسم صورتها على أغلفة مؤلفاتها على صورة طائر البوم وربما لمست بينه وبينها بعض السمات الجسدية المتماثلة كاتساع العينين وزرقتهما، وربما كانت تلك- كما تقول الحصري- الإرهاصات منفذاً لديها إلى اتخاذ طائر البوم رمزاً شفافاً لها خصوصاً وللمرأة عموماً في مجتمع لم يكن قد تهيأ بعد لتقبله.

يتحدث بلسانها أكثر مما تتحدث عنه
وتعتقد الحصري ان ما شجع السمان على اختيار هذا الرمز مالمسته من اهتمام الفن العلمي بطائر البوم، فقد حظي باهتمام ابرز الرسامين العالميين !! واثبتت السمان في نهاية كتابها نماذج من لوحات عالمية لطائر البوم، وبعض هذه اللوحات يمزج بين ملامح البوم وملامح المرأة.
وترى الحصرى كذلك في محاضرتها أن رمز البوم لدى الكاتبة غادة السمان يشف حتى يستوعب واقع المرأة الراهن وما وراء هذا الواقع من مشاعر الغضب والتحدي والالم والخيبة، مثلما يساعدها على تجاوز الاسلوب المباشر في الافصاح عن هذه المشاعر ويكون وسيطاً يتحدث بلسانها أكثر مما تتحدث عنه وعبر صوتها وصوته ترتسم صفات المرأة البوم في مواجهة العالم وهي صورة تضيف أحياناً حتى لتقتصر على رسم ذات الكاتبة أو تتسع وتعمم حتى تغدو صورة للمرأة عموماً في ثورتها على الواقع الانساني بلون من التحدي والرفض.

سمات الشبه بين البوم وغادة السمان
تذكر هنادى الحصري في محاضرتها ان أول سمات الشبه بين البوم والسمان أنهما يستعصيان على المساوقة والتدجين، فهما لا يُقايضان على حريتهما أو يتخليان عن قيمهما، فالاديب الملتزم لا يباع ولا يشرى في سوق النخاسة الأدبية ولا يهادن أو ينافق وها هي تقول غادة السمان :
هل شاهدت مرة بومة في سيرك؟
إنها مخلوق يستعصي على التدجين
ويرفض التسول العاطفي
ومنطق اللعبة الاستعراضية
هل شاهدت بومة تحاول إضحاك أحد
البومة لا تباع
لكنها تحلق إلى ما تحب ومن تحب
أفلا تحبها ؟
ولا يخفى- والقول للحصري- ان السمان تندد بأولئك الادباء الذين يتخذون ادبهم وسيلة للتجارة الرخيصة، والاديب برأيها يجب ان يظل وفياً لقيمه مستقلاً مترفعاً عن التبدل والهبوط، والسمة الثانية التي تسم المرأة الاديبة بالكلمة والبوم بالنعيب او «التبويم» كما تسميه -غادة- اما مرد الاحزان فهو رفض المجتمع الانساني للمرأة الاديبة ودفعها الى التغرب والعزلة شأن طائر البوم الذي يعيش بين الخرائب ولا يخالط الحيوان في حياته وقد تشاءم الكل من صوته الحزين الذي يعبر عن طعنات قاتلة من الاضطهاد.
وتذكر الحصري أيضاً ان السمان يطيب لها ان تشبه الرجل بديك يتوهم ان الشمس لن تشرق اذا لم ينشد كل فجر بصوت يظنه جميلاً كما تؤكد دجاجاته في القن، اما المرأة فهي اشبه ببومة ليس بوسعها الذهاب الى صيدها الا ليلاً، بومة تنشد طوال الليل لطلوع الفجر كي يذهب الاخرون الى ارزاقهم مثلها رغم تشاؤمهم من اغانيها المليئة بالمحبة تقول السمان:
لذلك لم نر ديكاً يراقص بومة
وتضيف: كان القن مملكتك
ولم اكن املك غير فضولي
وتتطرق الحصري كذلك الى ذاك الصراع الذي عرَّته غادة السمان داخل نفس المرأة ككاتبة وانسانة فمظهرها الخارجي يوحي بأنها امرأة سعيدة، لكنها في اعماقها ليست الا طفلة حافية القدمين كبومة مذعورة تركض تحت المطر منذ عصور بلا مظلة ولا قبعة ولا دفء فلا عزاء لها سوى الكتابة تفصح فيها عن آلامها.
وبعد قراءة الحصري لبعض قصائد مجموعة السمان «الرقص مع البوم » والتي رأت فيها شجاعة وصراحة وصدقاً إضافة الى تأكيدها على ان القالب الرمزي الذي اختارته وهو التكلم بلسان البوم لم يثر التشاؤم في انفسنا.
وختمت الحصري محاضرتها قائلة: «.. ولا يصح ان ينعت أدبها «تبويماً» كما تسميه، انه نشيد الحب والحرية الخالد... حيث يبعث الفرح والتفاؤل ولو بدا انه يتحدى المكتسبات السلبية الموروثة التي الفناها ولم نحاكمها ابداً او نملك جرأة الثورة عليها، فالادب وحده هو الذي اعلن هذه الثورة بكل شجاعة ، وقد تسلمت «السمان» القلم من «قاسم امين» لتتابع رسالة تحرير المرأة، والتغيير لا يكون طفرة.

متابعة: سلوى عباس