مصطفى إنشاصي
يبدو أن بعض الأصدقاء مازالوا يُغلبون البُعد السياسي في موقفهم من العنوان على البُعد التأصيلي والفكري للمصطلح، على الرغم من توضيحي في حلقة سابقة أن لكل مصطلح في لغته الأم معناه ودلالته ورمزيته التي قد تختلف كثيراً عند ترجمته إلى اللغات الأخرى إن لم يتحرى المترجم الدقة في الترجمة ولا تُعطي كل المضامين الدالة على معناه في لغته الأصلية! إضافة إلى أمور أخرى؛ لذلك أرى أن أكمل الحديث عن الموضوع وأختم بحلقة أخيرة أحاول فيها مناقشة أراء الإخوة وأنه هناك فرق بين التأصيل للمصطلحات وبين الحوارات السياسية، وأن التأصيل يجب ألا يُفسد للود قضية بين الأشقاء الذين وإن اختلفوا في الرأي حول المصطلح فلا يجب أن يختلفوا في الموقف السياسي حول القضايا التي تجمع وتوحد كل أبناء الوطن ضد العدو الخارجي!


ابن خلدون من خلال دراسته لتاريخ الشعوب والأمم وصعود وسقوط الدول وضع قاعدة في مقدمته؛ تقول: أن المغلوب دائماً يقلد الغالب! وإذا ما عُدنا إلى تاريخ أمتنا بعد الإسلام نستطيع أن نقول أن هذه القاعدة تم خرقها وأن الذي حدث هو: أن الغالب هو الذي قلد المغلوب! وذلك في الحروب الصليبية حيث يعترف كتاب الغرب ومؤرخيه أن الصليبيين تعلموا وقلدوا المسلمين في كل شيء من الاعتقاد إلى الأخلاق إلى السلوك إلى السياسة إلى العلوم. وأن القبيلة الذهبية الماغولية التي اجتاحت بلاد الشام وعاثت فيها فساداً وهمجية انتهى بها الأمر إلى اعتناق الإسلام، ليس ذلك فحسب بل ونشرت الإسلام في مناطق في آسيا لم تصلها جيوش المسلمين!


وإن سألنا أنفسنا كيف استطاع المسلمون في ذلك الوقت أن يكسروا هذه القاعدة في تاريخ الأمم والشعوب المغلوبة وحتى بعد هزيمتهم الاحتلالات الغربية استطاعوا الانتصار والحصول على الاستقلال؟! الإجابة بسيطة جداً:
أن المسلمون عندما غُلبوا في الحروب الصليبية غلبوا عسكرياً ولم يهزموا عقائدياً وفكرياً ونفسياً، وأن الروح القرآنية كانت ماتزال تتقد في نفوسهم وثقتهم بدينهم وصلاحيته جعلتهم يؤثرون ولا يتأثرون فكرياً، فالمعروف أن الإنسان الذي لا ينهزم نفسياً وفكرياً يبقَ يمتلك الإرادة والوعي الذي بهما يستطيع استعادة ما فقده من قوة مادية وتحقيق النصر، أما الذي يُهزم نفسياً وفكرياً يصبح تابعاً لعدوه ولا يمتلك الإرادة والوعي الكاملين في مواجهة مخططاته ضده!
وذلك ما حدث بعد حملة نابليون على مصر فعلى الرغم من أنه تم طرد الفرنسيين وعادوا من حيث أتوا إلا أن المسلمون هزموا نفسياً وفكرياً أمام مظاهر القوة والحضارة الغربية، وأصبحوا كلما انفتحوا على الغرب تتعمق فيهم آثار الهزيمة النفسية والفكرية التي مازلنا نعاني منها إلى يومنا هذا!


الغرب تاريخياً حكمه القانون لا الشريعة
وقد كان من الأخطاء التي وقع فيها أبناء وطننا من المتغربين ودعاة الديمقراطية والدولة المدنية (العلمانية) الذين هزموا نفسياً وفكرياً أمام الغرب أنهم نقلوا لنا عقائده ومناهجه وأنماط حياته وسلوكه …إلخ لا علومه التي هي ملك لكل الشعوب والأمم، ونادوا بفصل الدين عن السياسة وجميع مناحي الحياة واختزاله في علاقة بين الإنسان وربه فقط على الطريقة الغربية، معتبرين أن الدين الإسلامي عقبة في وجه التطور والنهضة العلمية واللحاق بالحضارة الغربية!


ولم يكن ذلك الموقف ناتج عن علم ومعرفة بطبيعة وخصائص كلا الدينين وتاريخهما العملي (الإسلام والنصرانية)، ولا ناتج عن دراسة علمية وعقلانية وموضوعية ومحايدة وغيرها من المصطلحات الغربية التي ينادون بها ويناقضونها في ممارستهم العلمية مع الإسلام، ولكن ناتج عن النقل الأعمى والتلقين الخاطئ الذي لعب فيه المستشرقون دوراً خطيراً في تشكيل تلك العقول وتهيئتها لاختراق الأمة وإضعافها أمام المخططات والأطماع الغربية في وطننا! لأن أي مراجعة هادئة لفهم الدين الإسلامي وتاريخه تكشف أن تلك الإسقاطات لتجربة الغرب على الإسلام خاطئة ويستحيل أن تنجح لا في تطوير الأمة – كما يعتقدون - ولا أن تمر دون إحداث أزمات سلبية في المجتمع الإسلامي لاستحالة قبولها بالكلية من جميع المسلمين؟!


ذلك لأننا سبق وأن قلنا في حلقاتنا عن العلمانية أن الدين النصراني ليس دين شامل ومتكامل (منهج حياة) يجمع بين الدنيا والآخرة من خلال تنظيم حياة أتباعه في جميع شؤونهم الدنيوية كالإسلام، وأنه لا يزيد عن سرد روايات على تناقض عن مولد وحياة السيد المسيح عليه السلام وبعض العبر والعظات عن السلام والمحبة، وبعض الصلوات والتراتيل التي تتلى في قداس الآحاد .. وأنه عندما تم القضاء السلطة الدينية الثيوقراطية التي حكمت باسم الله (الكنيسة ورجال الدين) ولم تعد تتحكم في حياة الناس في الغرب تحررت العقول من القيود التي كانت مفروضة عليها باسم الدين وتمنعها من الإبداع والانطلاق لدراسة الحياة والكون وتحقيق التقدم والنهضة العلمية!


وأن الغربي لم يشعر بأي خلل في حياته نتيجة لذلك الفصل لأن الذي حدث هو الفصل بين الدين والسياسة وليس بين الدين والقانون كما يريدوا أن يفعلوا مع الإسلام! لأن الفصل بين الدين والقانون كان قائماً في الغرب بالفعل سواء أيام الوثنية أو حكم الكنيسة أو الحكم العلماني، فالذي يحكم الناس وينظم شؤون حياتهم كما ينظم عمل السياسي في الغرب لم تكن العقائد الوثنية ولا الدين النصراني ولكن القانون الذي يضعه الإنسان وليس الله، لذلك لم يتغير شيء في الواقع الغربي عندما تم حصر الدين داخل جدران الكنيسة واستمر البشر يختارون القوانين التي تنظم حياتهم بأنفسهم ولكن دون تسلط من رجال الدين!
... يُتبع