السلام عليكم

--------------------------------------------------------------------------------

حكم صيد البحر


وفيه ثلاث مسائل :

المسألة الأولى :
في بيان ما اختلف في حله من حيوانات البحر مع الاستدلال والترجيح :


هنا نبحث ما اختلف في حله من حيوان البحر .

قال الله سبحانه وتعالى : [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ] (1) . المراد بالبحر الماء الكثير المستبحر الذي يوجد فيه السمك وغيره من الحيوانات المائية التي تصاد . وصيد البحر : كل ما صيد من حيتانه فالصيد هنا يراد به المصيد وأضيف إلى البحر لما كان منه وهذا يشمل كل ما يعيش فيه عادة وهو ضربان :

أحدهما : ما يعيش في الماء وإذا خرج منه كان عيشه عيش المذبوح كالسمك بأنواعه .
الثاني : ما يعيش في الماء وفي البر أيضاً كالتمساح و السرطان . (2) .

وقد اختلف العلماء فيما يحل من حيوان البحر على أقوال :

القول الأول : حل جميع حيوان البحر وهذا قول المالكية – والأصح من مذهب الشافعية . (3) .

القول الثاني : حل جميع ما في البحر إلا الضفدع والتمساح والحية وهو قول الحنابلة (4) .

القول الثالث : جميع ما في البحر من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة فإنه يحل أكله إلا ما طفا منه وهذا قول الحنفية . ووجه في مذهب الشافية (5) .

القول الرابع : يؤكل السمك وأما غير السمك فيؤكل منه ما يؤكل نظيره في البر كالبقر والشاة وغيرها – وما لا يؤكل نظيره في البر كخنزير الماء وكلبه فحرام وهذا وجه آخر في مذهب الشافعية (6) وقول في مذهب الحنابلة (7) .

توجيه كل قول من هذه الأقوال :

1 - وجه القول الأول : التمسك بعموم قوله تعالى : [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ] قال ابن عباس : ( صيده ) ما صيد و ( طعامه ) ما قذف . وقوله صلى الله عليه وسلم ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) (..8...).

2 - ووجه القول الثاني : هو التمسك بعموم الآية السابقة [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ] واستثنى الضفدع للنهي عن قتله (9) لأنه يدل على تحريمه عند من يراه واستثنى التمساح لأنه يأكل الناس والحية لأنها من المستخبثات .

3 - ووجه القول الثالث : فيما يرى تحريمه من حيوان البحر قوله تعالى : [ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ] حيث لم يفصل بين البري والبحري وقوله عز شأنه : [ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ] وما سوى السمك ( من حيوان البحر ) خبيث كالضفدع والسرطان والحية ونحوها (10) .

4 - ووجه القول الرابع : فيما يرى تحريمه قياس (11) ما في البحر على ما في البر ولأن الاسم يتناوله فيعطي حكمه .

فتلخص مما مر : أنه لا خلاف (12) بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه غير الطافي . وإنما اختلف فيما كان على صورة حيوان البر المحرم أكله كالآدمي والكلب والخنزير والثعبان ونحوها .

الترجيح :

والذي يظهر لي ترجيحه قول المالكية وهو حل جميع صيد البحر لعموم قوله تعالى : [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ] وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) ولم يصح ما يخصص هذا العموم .

أما ما استدل به من يرى تحريم ميتة البحر من عموم قوله تعالى : [ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ] فالجواب أنه عموم مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) .

وأما ما استدلوا به من عموم قوله تعالى : [ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ] على تحريم السرطان والحية ونحوها من حيوان البحر فلا نسلم أن هذه الأشياء من الخبائث ومجرد إدعاء أن هذه من الخبائث لا يرد به عموم الأدلة الصريحة .

وأما قياسهم ما في البحر في التحريم على نظيره المحرم في البر . فهو قياس في مقابلة نص وهو قوله : [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ] فلا يصح .
المسألة الثانية :
في بيان حكم ميتة البحر مع الاستدلال والترجيح :


حيوان البحر قسمان : قسم لا يعيش إلا في الماء وإن خرج منه مات كالحوت .

وقسم يعيش في البر والبحر كالضفادع ونحوها .

فأما الذي لا يعيش إلا في الماء ففي حكم ميتته التفصيل الآتي :

1 - ما مات بسبب ظاهر كضغطه أو صدمه حجر أو انحسار ماء أو ضرب من الصياد أو غيره حلال وفاقاً (13) .
2 - ما مات حتف أنفه وطفا على وجه الماء بأن صار بطنه من فوق (14) فعند الثلاثة مالك والشافعي وأحمد (15) هو حلال وعند أبي حنيفة لا يحل (16) .

دليل الثلاثة على الحل عموم قوله تعالى : [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ] والمراد بطعامه ميتته عند جمهور العلماء (17) فهو يدل على إباحة ميتة البحر مطلقاً وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) (..18..) وحديث جابر قال : ( غزونا جيش الخبط ( هو ما يسقط من الورق عند خبط الشجر ) وأميرنا أبو عبيدة (19) فجمعنا جوعاً شديداً فالقى البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله يقال له العنبر فاكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه فمر الراكب تحته ، قال فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوا رزقاً أخرجه الله عز وجل لكم . أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بشيء فأكله ) متفق عليه .

ففي هذا الحديث دليل على إباحة ميتة البحر سواء مات بنفسه أو مات بالاصطياد (20) وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من لحمه وأكله ذلك أراد به المبالغة في تطييب نفوسهم في حله وأنه لا شك في إباحته وأنه يرتضيه لنفسه .

وأما دليل أبي حنيفة على تحريم الطافي فهو حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما نضب عنه الماء فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا ) (21) .

قالوا : وميتة البحر المباحة في الحديث السابق ما لفظه البحر ليكون موته مضافاً إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة (22) – وأجابوا عما استدل به الثلاثة والجمهور بما يأتي :

أجابوا عن الاستدلال بالآية وهي قوله تعالى : [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ] بأنه لا حجة فيها لأن المراد من قوله تعالى : [ وَطَعَامُهُ ] ما قذفه البحر إلى الشط فمات كذا قال أهل التأويل وذلك حلال عندنا لأنه ليس بطاف إنما الطافي اسم لما مات في الماء من غير آفة وسبب حادث وهذا مات بسبب حادث وهو قذف البحر فلا يكون طافياً والمراد من الأحاديث التي تبيح ميتة البحر غير الطافي لما ذكرنا (23) .

الترجيح :

والراجح ما ذهب إليه الثلاثة والجمهور من إباحة ميتة البحر مطلقاً لقوة أدلتهم وهي ألفاظ عامة في ميتة البحر وتخصيص النص العام لا بد له من دليل من كتاب أو سنة يدل على التخصيص .

وأما ما استدل به الحنفية من النهي عن أكل الطافي ( فحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء كيف وهو معارض بأحاديث صحاح (24) . والقياس يقتضي حل ميتة البحر مطلقاً لأنه سمك لو مات في البر لأكل بغير تذكية ولو نضب عنه الماء أو قتلته سمكة أخرى لأكل فكذلك إذا مات وهو في البحر (25) .

وتخصيصهم طعام البحر الوارد إباحته في الآية الكريمة بما قذفه البحر إلى الشط تخصيص لا دليل عليه فالآية عامة وكذا استثناؤهم الطافي من ميتة البحر وحكمهم بتحريمه استثناء لا دليل عليه يخصصه من عمومات الأدلة المبيحة لميتة البحر مطلقاً .

المسألة الثالثة :
في بيان حكم أكل ما يعيش في البر والبحر :


ما يعيش في البر من حيوانات البحر كالضفادع والسلحفاة والسرطان وترس الماء فقد اختلفوا في حله فذهب مالك إلى حله مطلقاً لقوله تعالى : [ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ] ولا طعام له غير صيده إلا ميتته كما قال جمهور العلماء – وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) ففيه التصريح بأن ميتة البحر حلال فيعم كل ميتة مما في البحر (26) .

ونقل النووي (27) أن الصحيح المعتمد عند الشافعية حل ميتة جميع ما في البحر إلا الضفدع ويحمل ما ذكره الأصحاب أو بعضهم من السلحفاة والحية والنسناس على ما يكون في ماء غير البحر – وقال طير الماء كالبط والأوز ونحوهما حلال كما سبق ولا يحل ميتته بلا خلاف بل تشترط ذكاته ويضيف إلى ذلك صاحب مغني المحتاج قوله : ويوافقه قول الشامل بعد نقله نصوص الحل : قال أصحابنا أو بعضهم يحلي جميع ما فيه إلا الضفدع للنهي عن قتله أ.هـ .

وأما رأي الحنابلة في ذلك فينقله لنا صاحب المغني بقوله (..28..) : كل ما يعيش في البر مع دواب البحر لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء إلا ما لا دم فيه كالسرطان فإنه يباح بغير ذكاة أ.هـ .

وأما الحنفية فيحمل لنا مذهبهم في هذه المسألة صاحب بدائع الصنائع حيث يقول (29) : جميع ما في البحر من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة فإنه يحل أكله إلا ما طفا منه وهذا قول أصحابنا رضي الله عنهم أ.هـ .

فيمكننا حينئذٍ أن نستخلص من هذا العرض الموجز أراء المذاهب الأربعة في حكم أكل ما يعيش في البر من حيوانات البحر على النحو التالي :

1 - عند المالكية تحل مطلقاً .
2 - عند الشافعية تحل مطلقاً ما عدا الضفدع فلا يحل بحال . وما عدا طير الماء فلا يحل بغير ذكاة .
3 - عند الحنابلة لا تحل بغير ذكاة مطلقاً – ما عدا السرطان فإنه يحل بغير ذكاة لأنه لا دم له .
4 - عند الحنفية لا يحل بحال .. لأنه ليس بسمك .
تم بحمد الله ،،،

الهوامش :

1 - المائدة آية 56 .
2 - تفسير المنار ص 113 ج 7 وتفسير القرطبي ص 318 ج 6 والمجموع ص 31 – 32 ج 9 .
3 - بداية المجتهد ص 345 ج 1 والشرح الكبير ص 115 ج 2 ومغنى المحتاج ص 291 ج 4 والمجموع ص 32 ج 9 .
4 - المقنع بحاشيته ص 529 ج 3 .
5 - بدائع الصنائع ص 35 ج 5 والمجموع ص 32 ج 9 .
6 - المجموع ص 32 ج 9 .
7 - المقنع بحاشيته ص 529 ج 3 .
8 - رواه مالك والشافعي والأربعة وابن خزيمة .. وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي / من تلخيص الخبير ص 9 ج 1 .
9 - رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي / نفس المصدر ص 276 ج 2 وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه / نصب الراية ص 201 ج 4 .
10 - البدائع ص 35 ج 5 وتكملة فتح القدير ص 503 ج 9 .
11 - مغني المحتاج ص 299 ج 4 .
12 - انظر فتح الباري ص 619 ج 9 وشرح النووي على صحيح مسلم ص 86 ج 13 .
13 - المغني مع الشرح الكبير ص 84 ج 11 .
14 - الدر المختار بحاشية ابن عابدين ص 195 ج 5 .
15 - الشرح الكبير للدردير ص 115 ج 2 والمجموع ص 33 ج 9 والمغني مع الشرح الكبير ص 84 ج 11 .
16 - الدر المختار وحاشيته لابن عابدين ص 195 ج 5 وتكملة فتح القدير ص 503 ج 9 .
17 - تفسير الشنقيطي ص 90 ج 1 .
18 - رواه مالك والشافعي والأربعة وابن خزيمة .. وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي / من تلخيص الخبير ص 9 ج 1 .
19 - هو أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الصحابي أحد المبشرين بالجنة كان لقبه أمين الأمة توفي سنة 18 هـ / الأعلام ص 21 ج 4 .
20 - فتح الباري ص 618 ج 9 .
21 - رواه أبو داود مرفوعاً وروى موقوفاً وقد أسند من وجه ضعيف وقال الترمذي : سألت البخاري عنه فقال ليس بمحفوظ ويروي عن جابر خلافه / فتح الباري ص 618 ج 9 .
22 - تكملة فتح القدير ص 513 ج 9 .
23 - بدائع الصنائع ص 36 ج 5 .
24 - النووي على صحيح المسلم ص 87 ج 13 .
25 - فتح الباري ص 619 ج 9 .
26 - تفسير الشنقيطي ص 91 – 93 ج 1 باختصار وانظر الشرح الكبير للدردير ص 115 ج 2 .
27 - ص 32 – 33 ج 9 من المجموع ( 5 ) ص 298 ج 4 .
28 - ص 83 ج 11 مع الشرح الكبير .
29 - ص 35 ج 5 .

(( منقول للفائدة ))