إبادة غزة: فقه الواقع، ثقافة الوعي! (3)
مصطفى إنشاصي
استحباب كثرة الذكر
في الحرب يُستحب الإكثار من الذكر وطاعة الله والصبر وتجنب النزاع والخلافات تجنباً للفشل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:45 - 46).
والذكر يكون باللسان وقد يكون بالعقل، التفكر والتدبر والتأمل، وفي الأزمات والحروب وحالات الطوارئ كلما صفى عقل الإنسان وتوفر له الهدوء والسكينة كلما توصل إلى حلول أو سياسات أفضل، للأسف حماس من اللحظة الأولى للحرب لم تترك وقت للتفكر والتدبر من كثافة المواد الإعلامية التي توزع على مدار الدقيقة والثانية وعلى وسائل الإعلام، ولم تعطي فرصة للإنسان أن يستوعب أو يفهم ما يحدث، أو يقدم نصيحة أو ينتقد نقداً بناء، والمواد التي توزع فيها متناقضات كثيرة، وخلاصتها إحداث إرباك لدى القراء والمتابعين وتضييع الحقيقة.
حماس صامة آذانها ومعرضة عن الاستماع لأي أحد من أهل التجربة والخبرة عساها تستفيد من تنوع الآراء، ولا تريد أي أحد يكتب خارج الفوضى الإعلامية التي أحدثتها، المطلوب إلغاء العقول والجميع يصمت ولا ينتقد أو ينصح أو.. وذلك ليس دين ولا وطنية ولا فيه حرص على مصلحة القضية؟!
ما فائدة أن تكتب بعد خراب مالطة؟! الرأي يجب أن يكون وقت الخطر والحاجة له وهناك فرصة لتدارك الخطأ أو بعضه وليس بعد انتهاءه وضياع كل شيء كما تريد حماس بزعم ليس وقته، من خلال التجربة معهم هم لا ينتصحوا عمن أحد، وسأذكر بشيء لا يذكر من كم هائل نصحت وحذرت منه لو انتصحوا ببعضه ما بلغنا هذا الدرك:

خطة فك الارتباط ليست بين (إسرائيل) وغزة لكنها بين غزة والضفة!
في الوقت الذي شكل فيه العدو الصهيوني حكومة طوارئ ضمت كل الأحزاب الصهيونية، حماس رغم كل هذه الحرب ووحشيتها وخسائرها ومخاطرها على الكيانية السياسية الفلسطينية لم تفكر في توحيد الصف الفلسطيني، الذي تزعم أنها غيرت الميثاق كله لأجل التوافق الفلسطيني والعربي! وإعلامها شغال على مدار الساعة في إثارة النزاعات والخلافات مع السلطة ويزيد فجوة الخلاف والعداء، في وقت أصبحت أهداف العدو الصهيوني بكل أطيافه السياسية وليس نتنياهو فقط، ضد إقامة دولة فلسطينية وضد وقف الحرب قبل القضاء على حماس والمقاومة، ويرفضوا تولي السلطة الفلسطينية إدارة غزة بعد انتهاء الحرب، وذلك لأن غايتهم القضاء على الوحدة السياسية بين الضفة الغربية وغزة والقضاء على الكيانية الفلسطينية، التي هي جوهر وغاية خطة فك الارتباط من طرف واحد مع غزة، وكما قال شارون للصحفي اليهودي أولف بن: أنها فك الارتباط ليس بين (إسرائيل) وغزة لكن بين غزة والضفة الغربية!
نشرت في (مجلة شؤون العصر اليمنية، السنة التاسعة، العدد 19، إبريل ـ يونيو 2005) بحث موثق نصحتهم فيه ألا ينضموا لمنظمة التحرير والمجلس التشريعي حتى لا يعيدوا تكرار تجربة فتح بما هو أسوأ، ولم ينتصحوا!
وأعددت لهم بحثاً مفصلاً عن خروج العدو من قطاع غزة نُشر في (مجلة شؤون العصر اليمنية، السنة العاشر، العدد 23، محرمـ ربيع 1427هـ، إبريل - يونيو 2006م): أكدت فيه على أن فك الارتباط مع غزة من طرف واحد هو إعادة انتشار وليس تحرير، وحذرت فيه من أن الهدف منه هو القضاء على المقاومة وتصفية القضية المركزية للأمة، وإشعال الحرب الأهلية وفصل غزة عن الضفة، واستكمال خطة تهويد القدس وبناء الجدار العازل وفك الارتباط مع الضفة بعدها بمعزل عن غزة التي ستكون مقبرة الدولة الفلسطينية، وكنت وقتها أتعاون معهم إعلامياً وقرأوا البحثان، وطوال ثلاثة سنوات أنصحهم شفاهة وبالحوار والنقاش وكتابة مقالات لكنهم مندفعين كالسيل الجارف ظناً أن العالم سيقبلهم وسيسمح لهم أن يقودوا منظمة التحرير.
كما عدت وذكرت بأن شارون صفى القضية بعد الخطاب المجزرة الذي ألقاه بعد إعادة الانتشار حول قطاع غزة في شهر أيلول/سبتمبر 2005 من أعلى منبر أممي منبر هيئة الأمم المتحدة في ذكرى إنشائها الستون والذي تزامن مع مجزرة بيت حانون آنذاك، ذلك الخطاب الذي كان مفعماً بالروح والمصطلحات التوراتية اليهودية كما هو مفعم بالتزييف والتزوير لحقائق التاريخ والجغرافية والواقع، الذي أعلن فيه للعالم أجمع انتهاء الصراع العربي- الصهيوني والتصفية النهائية للقضية. (كتبت ثلاثة مقالات (في صحيفة الرأي العام اليمنية، "من المجزرة إلى الخطاب المجزرة"، الأعداد 907، 908، 909، نهاية أغسطس وبداية أيلول 2005). قلت فيها:
أن شارون قد جزر القضية المركزية للأمة وصفاها تماماً على مرآى ومسمع من العالم أجمع، فقد قال: "جئتكم من أورشليم القدس. عاصمة (الشعب اليهودي) منذ ثلاثة ألاف سنة، ومن (أرض الميعاد) التي تحت سمائها ظهر أنبياء إسرائيل وتنبئوا بها". ولم ينسى أن يظهر كيانه المغتصب لوطننا بمظهر الضحية عندما تحدث عن التنازلات المؤلمة التي تمثلت بالتضحية بجزء من وطن اليهود التاريخي (فلسطين) – غزة - التي قدمها لمن سماهم "جيرانه الفلسطينيين، من أجل أن يقيموا لهم فيها دولة ذات سيادة، ولها حدود معترف بها"، من أجل أن يعيش الشعبين (اليهودي) والفلسطيني معاً بسلام! يعني أوهم العالم أن الفلسطينيين أصبح لهم دولة وأن القضية اتحلت!
وألحقته بعد ذلك بمقالات عن كل المستجدات لتنفيذ ذلك المخطط:
كتبت (الرأي العام اليمنية، مقالتان بعنوان سايكس - بيكو لفلسطين، بتاريخ 25/10/2005) محذراً من عواقب الانقسام، وأقتطف منه الجزء المتعلق بما قاله ألف بن:
"لم تقف خطورة المخطط عند ما جاء في خطاب شارون المجزرة؛ لكن الأخطر هو الجزء الذي نشره الكاتب اليهودي أولف بن من الحوار الذي دار بينه وبين شارون وهم في رحلة العودة من نيويورك بعد إلقاء ذلك الخطاب، عندما سأله عن مصير الكنتونات التي سيخلفها الجدار في الضفة الغربية بعد الانتهاء من بناءه وإن كانت ستكون جزء من الدولة الفلسطينية أو لا؟!
فرد عليه شارون بالقول: أن الضفة الغربية لن تعود للفلسطينيين، وأنه لن يكون لهم أي سيادة على أي جزء منها! وأن الهدف منها (خطة فك الارتباط مع غزة) تكريس واقع الفصل بين قطاع عزة والجماهير الفلسطينية فيه، والضفة الغربية والجماهير الفلسطينية فيها، وكأنهما شعبين وأرضين منفصلتين، وليستا وحدة جغرافية وسكانية وسياسية واحدة في الواقع والقانون الدولي. وأطلق (الف بن) على تلك الرؤية: إقامة الدولة الواحدة المشطورة إلى قسمين: فلسطين الشرقية في الضفة وفلسطين الغربية في غزة"!
وأذكر أنني في رمضان/أكتوبر 2006 بعد فشل العدوان اليهودي على لبنان، وحدثت اشتباكات شديدة بين حركة حماس والأمن الوقائي بغزة، التقيت في اليوم نفسه في دعوة إفطار لبعض الإعلاميين دعت له حركة حماس بقيادي من حماس وتحدثت معه عن مخاطر الحدث وأنه لم يعد المخطط القضاء على المقاومة ونزع سلاحها بالقوة، لكنه استبدل بمخطط جديد لتوجيه هذا السلاح إلى الداخل، وشغله بصراعات داخلية وإشعال حرب أهلية. وطلبت منه أن يبلغ قيادة الحركة بذلك، وأنه من الخير للأمة والوطن وحماس نفسها ترك الحكومة التي يشتد الحصار عليها لإفشالها، والاكتفاء بفوزهم في الانتخابات التشريعية وحصولها على الشرعية السياسية، ويحاولوا التوصل إلى صفقة ما يفرج فيها عن النواب الذين اعتقلهم الاحتلال في الضفة وانضمامهم للمنظمة، وعلى معادلة ما تحكم العلاقة بينهم وبين السلطة بحيث لا يمس سلاح المقاومة، وأن يسعوا لتحقيق ما يريدون تحقيقه من خلال الحكومة عن طريق المجلس التشريعي، وسن القوانين وفتح ملفات الفساد ومحاسبة الفاسدين ..إلخ، خير لهم من الوقوع في مخطط الحرب الأهلية الفلسطينية ...
فكان رده: يقولوا أن حماس فشلت في الحكومة! قلت: القضية أكبر من نجاح حماس أو فشلها في الحكومة، القضية قضية أمة ووطن، وشرك الوقوع في الحرب الأهلية. فرد بما رد به سابقاً وأضاف: مَنْ يضمن لنا أنه بعد التنازل عن الحكومة ألا يعودوا لتكرار ذلك ومحاولة القضاء على حماس؟ أجبت: ساعتها العالم كله وأولهم الجماهير الفلسطينية في فلسطين معكم، وهي التي ستحميكم من السلطة نفسها ولن يقول أحد أن ما يحدث صراع على الكرسي. قال: هذا كلام مش صحيح وسيقال أن حماس فشلت في الحكومة؟! أنهيت الحديث بعدها مباشرة وتركته وقلت لنفسي: أخذتهم العزة بالإثم!
... يُتبع