حرب إبادة غزة وفقه الجهاد .. فقه الواقع!
أمس أحد الإخوة الكرام بعد حديث طويل عن حرب إبادة غزة واعتراضي على التبرير لسحق غزة من الوجود وإبادة أهلها بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وغزوات الرسول صلَ عليه وعلى آله وصحبه وسلم وثورات عالمية سابقة و... وأن ذلك كله بسبب فقدانهم الرؤية الصحيحة للصراع وأبعاده، وجهلهم بحدود دور أهل فلسطين ودور الأمة في معركة التحرير، طلب مني أن أكتب عن فقه الجهاد، فاعتذرت لأنني أكتب مكرهاً لتوضيح التضليل المستمر والاستخفاف بعقول البسطاء في الأمة، لكني راجعت نفسي خشية الإثم فقد يكون ما لدي علم نافع يجب أن يعلمه الآخرين، فقررت الكتابة عن فقه الواقع، ثقافة الوعي وتقدير الموقف لدى القائد من خلال فهم الواقع لا حرفية النص، وذلك الأقرب إلى الحال في فلسطين، متخذاً من سورة الأنفال وغزوة بدر نموذجاً:
بداية: أحكام الجهاد وفقهه وكل ما استشهد به المبررون لإبادة غزة أحكام خاصة بالجيش والمعارك في ميادين القتال لا علاقة بالمدنيين وسكان المدينة المنورة تم إسقاطها قسراً على أهل غزة. واقع ما يحدث في غزة بعيداً تماماً عن واقع تلك الاستشهادات التي لا تحصى وتم فرضها على أهل غزة ديناً وتشريعاً يشرعن إبادتهم بكل راحة ضمير، ومًن يعترض أو لديه رأي أو اجتهاد آخر تهم العمالة والخيانة و... جاهزة ومعدة!
بعض الأمثلة:

قصة أصحاب الأخدود
قصة أصحاب الأخدود ما علاقتها بإبادة أهل غزة؟! تلك قصة ذكرها الله تعالى درساً في الثبات على العقيدة وإن كان ثمنه الموت. علماً أنه في الإسلام هناك استثناء أو رخصة، نتعلمها من قصة آل ياسر وتراجع عمار بن ياسر ونزول قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (النحل: 106).
فهل ما يحدث في غزة هو أن (إسرائيل) وضعت أهل غزة بين خيارين: إما التهود أو الإبادة؟! طبعاً لا!
كما أن غزة ليست القلعة الأخيرة التي إن سقطت اُحتلت فلسطين وضاعت الأمة من بعدها، فغزة أصلاً محتلة والعدو يتحكم في الهواء الذي يدخل إليها، فما الجديد في الأمر؟ المفترض فيمن تصدروا للكتابة عن حرب إبادة غزة تحروا فهم فقه الجهاد وما يناسب المقال من خلال فهم الواقع الميداني على الأرض في غزة، وكذلك ينظروا للمعركة والحدث نظرة أبعد مما نظروا إليه بها، ففلسطين قضية أكبر وأعمق من فلسطين ذاتها، القضية قضية الأمة والأمة ليست مهيأة لتحرير فلسطين، والله وعد بنصر عباداً لنا ولن يخلف وعده!

غزوة الخندق
أما غزوة الخندق كل أحداثها تمت هناك في الخندق وميدان المعركة مع النبي وجند المسلمين، هم الذين زلزلوا زلزالاً شديداً وبلغت القلوب الحناجر، هم الذيم كانوا جوعى وعطشى والبرد القارص يلفحهم و... وليس في المدينة وأزقتها وأبنيتها وضد سكانها الذين كان كفار قريش وخلفاءهم يمارسون حرب إبادة ضدهم.
لكن حرب إبادة غزة وأهلها على العكس تماماً؛ المقاوم آمن في الأنفاق ومتوفر له كل شيء طعام وشراب ومخدع دافئ ومريح وماء وعلاجات وكل ما يحتاج، حتى صوت الصاروخ وهو نازل أو صوت انفجاره الذي يخلع القلوب التي في الصدور لا يسمعه، ولا يرى الأشلاء ولا يسمع الصراخ والعويل، ولا يرى الدمار والهلاك، ولا يعيش ينتظر الموت إن لم يكن بالصاروخ فبالجوع أو البرد أو قلة العلاج أو ...، يخرج المقاوم من النفق ليطلق قذيفته أو يفاجئ العدو وإن بقي حياً عاد للنفق سريعاً وإن استشهد فاز بها! أما السياسي فهو يعيش وأسرته في تركيا أو قطر أو بيروت في نعيم وهدوء وأمن وسلام حياة طبيعية لا يعاني ما يعانيه أهل غزة!
لذلك الاستشهاد الخاطئ لأنه لا يوجد تطابق بين الحالتين!

غزوة مؤتة
والأمثلة كثيرة لا مجال لسردها جميعاً لكننا نأخذ نماذج لها، ومن استشهد من الكتاب بغزوة مؤتة استشهد بها ليبرر إبادة أهل غزة في الوقت الذي يشير من خلالها إلى أن عدد جيش المسلمون دائماً أقل من جيش أعداءهم، أما الدروس التي فيها وتنطبق على واقع المقاومة وليس الشعب لم يقدمه نصيحة للمقاومة! مؤتة درس نبوي عظيم جاء تفصيل إضافي لآيات سورة الأنفال ذات العلاقة بالتولي يوم الزحف، كما سيأتي.
أحداث غزوة مؤتة معلومة للجميع ما يهمنا فيها ما حدث بعد أن تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش ولأنه قائد عسكري عبقري ومبدع وفذ ركز كل تفكيره في إنقاذ الجيش من الإبادة الحتمية لعدم تكافئ القوة، ولم يتكل على أن الله ينصر القلة المؤمنة فقط مع فارق القوة بين الطرفين ونفذ خطته المعروفة وانسحب بهدوء، لكن ماذا حدث عن وصوله للمدينة؟! هنا الدرس الذي يجب أن نفقهه في إطار ثقافته الوعي بالواقع!
قابلهم بعض أهل المدينة رجال ونساء وأطفال وحثوا عليهم التراب وهم يعيرونهم، يا فرارين يا فرارين ... يريدوا لهم أن يبادوا ولا يتولوا يوم الزحف، هكذا النص في آية الأنفال، والنص القرآني حرفاً يتطابق مع حال جيش مؤتة وليس على أهل غزة ... لكن كان رد نبي الرحمة والمشرع والمفصل لما خفي في النص القرآني، وفيه جبراً لجيش المسلمين، ودرساً للمعترضين على الانسحاب دون أن يؤنبهم أو يوبخهم لكن بلطف وللأمة جميعاً:
بل كرارين بإذن الله .. ورفع من شأن خالد وقراره الحكيم الذي حفظ للمسلمين جيشهم من الإبادة وألا تكون وصمة في تاريخ جيوش الإسلام محبطة، ورَفَعَ إصبَعَيه وقال: اللَّهُمَّ هو سَيفٌ مِن سُيوفِكَ؛ فانصُرْه، وقد سمي خالد سيف الله.
لم يقبل رسول الله أن يباد جيش مؤتة وهو جيش؛ فالاستشهاد بغزوة مؤتة انصر الله القلة لا يتطابق مع واقع الحال في فلسطين ولا مع روح النص القرآني وتفسيره النبوي، وبدل أن ينصحوا المقاومة بالدرس الصحيح الذي المستخلص من غزوة مؤتة ويتناسب مع وضعهم، وأن يحاولوا إيجاد مخرج يكون خيراً من إبادتهم في معركة غير متكافئة، أسقطوه على أهل غزة وأن عليهم الثبات وإن أُبيدوا!

خصوصية فلسطين عن غيرها
أما استشهادهم بتضحيات قدمتها شعوب محتلة وثوراتها في العالم وانتصرت؛ من حيث المبدأ ذلك خطأ كبير جداً لاختلاف حالة فلسطين عن تلك الثورات، فالاحتلالات الأخرى كانت تستهدف البلد المحتل فقط، أما فلسطين فإن الهدف من احتلالها يتجاوز حدود فلسطين وأهلها جغرافياً ليشمل جغرافية الوطن والأمة كلها ديناً وثقافة وثروات، فلسطين مركز الهجمة اليهودية – الغربية وكل قوى الشر العالمية ضد الإسلام والأمة الإسلامية والعالم أجمع، فالصراع صراع بين دينان وحضارتان، دين وحضارة بشرية معادية للقيم الإنسانية والأخلاق والفطرة الإلهية الذي انتهى إلى العولمة كدين تريد قوى الشر فرضه على العالم بالإكراه الذي تمثله اتفاقية سيداو وبين الإسلام الذي يمثل قيم الخير والفطرة الإلهية والأخلاق الإنسانية، بين منهج استعمار الأرض وإعمارها وبناء وتشييد حضارة الاستخلاف للإنسان فيها وبين منهج الشيطان وتخريب الأرض وتدمير الحياة وهدم الحضارة!
ذلك ما تمثله فلسطين بطرفيها الفلسطيني والإسرائيلي في تلك الحرب العالمية الدائرة عالمياً في مركز الهجمة، فالقضية ليست قضية الشعب الفلسطيني ولا فصائله لكنها قضية الأمة وكل حر غيور على الفطرة الإلهية في العالم، ويجب أن تكون مقاومة أهل فلسطين في حدود المستطاع ولا يكلفوا أنفسهم وشعبهم اكثر مما فرض الله، فهم الطائفة الظاهرة لا المنصور، هم المرابطون والمجاهدون الثابتون على ذلك حتى يأتِ أمر!
... يُتبع