الغرب والإسلام
اليهود وتقرير كامبل بنرمان (46)
مصطفى إنشاصي
للحق أن الغرب واليهود فهموا واستوعبوا بعمق مقومات وخصائص الإسلام وعوامل قوته التي تشكل خطراً وجودياً عليه من تجربة الحروب الصليبية ومنها الوحدة الإسلامية، بشكل لم يدركه أو يفهمه كثير من أبناء أمتنا ومثقفيها ومفكريها. لذلك لم يكن الاختيار الغربي لفلسطين لتكون مركز الهجمة على الأمة والوطن اختيار الصدفة أو اختياراً عبثاً أو عشوائياً، لكنه جاء بعد دراسة وبحث سنتان استحضر فيه الدارسون كل تجارب الماضي والحاضر واستشرفوا احتمالات المستقبل القريب والبعيد الذي يمكنها أن تشكل تهديداً للحضارة والسيادة الغربية، ولازالوا إلى اليوم وغداً حريصين على استحضار تلك الاحتمالات ووضع الخطط والمشاريع لإفشالها والقضاء عليها في مهدها أو تأخير نضوجها واكتمال بنائها وقوتها. وقد تحدثنا عن مؤتمر لندن وتقرير كامبل بنرمان كنتاج للتجربة الغربية ولم نكمل بقية قصته لكن أكملها صحفي وكاتب يهودي عميق الفكر والمكر والفهم لأمتنا وتاريخها وأهمية تمزيق وحدتها وذلك ما قدمه كنصيحة للغرب.
بعد أن صدرت نتائج مؤتمر لندن في تقرير كامبل بنرمان تم تسليم التقرير لوزارة الخارجية البريطانية واختفى التقرير نهائياً ولم يعد أحداً يذكره، ومعلومة لخطورة التقرير بذل الدكتور أنيس صايغ رئيس مركز الدراسات والأبحاث الفلسطينية التابع لمنظمة التحرير جهوداً مضنية للحصول على التقرير كادت تكلفه حياته ونجى من محاولة اغتيال أصيب فيها وفقد ساقه، وفي عام 1939 كتب صحفي يهودي بريطاني مقالات عن التقرير وكأنه حصل على نسخة منه لا أذكر المعلومة قديمة منذ عام 1985، وألف كتاباً يحث فيه الغرب على تنفيذ مقررات التقرير والإسراع في إقامة (الدولة اليهودية) في فلسطين واستكمل جوانب أخرى في التقرير في كتاب صدر في بريطانيا في العام نفسه.
والكاتب اليهودي اسمه (كادمي كوهين) وعنوان الكتاب "دولة إسرائيل" يدعو فيه الغرب إلى عدم تمكين شعوب وطننا من النهضة ثانية واستعادة قوتها وذلك بالإسراع بإقامة كيان العدو الصهيوني في فلسطين، ودعم الحركة الصهيونية للقيام بدورها في المؤامرة العالمية على وطننا قبل فوات الفرصة، وقبل أن تنفك المنطقة من عقال الاحتلالات الغربية وتستعيد وحدتها ونهضتها من جديد في دولة واحدة. وضمنه رؤيته لتأمين وجود كيان العدو الصهيوني المزمع إقامته في فلسطين حتى لا يواجه أي تهديد حقيقي بعد إنشاءه! ونظراً لخطورة ما جاء في الكتاب من أفكار نرى نتائجها ماثلة للعيان وتحكم واقعنا السياسي العربي منذ ضياع فلسطين، نقتطف منه بعض ما جاء فيه عن أهمية فلسطين وتجزئة وطننا لمن يريد السيطرة على العالم القديم.
جاء فيه عن أهمية فلسطين بالنسبة لآسيا وأوروبا والتحذير من خطر استيقاظ شعوب المنطقة على السياسة العالمية:
"إن الساحل الشرقي للبحر المتوسط يشكل بالنسبة لأوروبا رأس جسر واسع نحو آسيا، وعلى طرفي هذا الإقليم الممتد من البحر المتوسط إلى جبال هملايا يتحرك شعبان "الشعب الهندي"، وفيه نسبة كبيرة من المسلمين في ذات الوقت و"الشعب المصري"، وفي الداخل تستيقظ الشعوب على الحياة السياسية العالمية".
وبعد أن يحذر الغرب خاصة بريطانيا وفرنسا من تحرك تلك الشعوب التي بدأت فيها عملية البعث والثورة مثل أفغانستان وفلسطين وغيرهما يوجه لهم النصيحة باتخاذ إجراءات من شأنها أن تعرقل تلك النهضة أو توجه هذه الحركة التي بدأت إشعاعاتها تبشر بانتفاضات مقبلة، لأنه إن لم تفعل أوروبا ذلك فلن تتمكن من بسط الأمن والسلام في تلك المنطقة المهمة من العالم والغنية بثرواتها، ويذكر أن تلك المنطقة كانت مهد حضارات قديمة رائعة، يسارع إلى تقديم وصفته الناجعة للغرب بعدم تكرار ذلك فيقول: ويذكر أن تلك المنطقة كانت مهد حضارات قديمة رائعة، وسرعان ما يكشف اللثام عن مصدر خوفه وقلقه الحقيقي عندما يقول:
"إن فرنسا مثل إنجلترا إنهما تواجهان قوتان إسلاميتان كبيرتان تصطدمان بهما حيث توجد مشكلة عربية، نقول مشكلة إسلامية، هذا هو الجانب الثاني للمسألة الشرقية الجديدة".
ونجده أكثر صراحة في دعوته فرنسا وبريطانيا لتنسيق سياستيهما اتجاه وطننا لأن الخطر الذي يتهددهما كما يتهدد غيرهما واحد، هو الإسلام، وليس هو الجانب الثاني للمسألة الشرقية بل هو المعضلة الأساسية والهدف الوحيد لكل ما يقوم به الغرب الصليبي اتجاه وطننا وأمتنا. وهو الخطر الوحيد الذي يهدد وجود أوروبا وكيان العدو الصهيوني على حد سوء. وبعد أن يذكر في سطور كيف استطاع الإسلام أن يوحد القوميات المختلفة في أمة إسلامية واحدة يسارع إلى تقديم وصفته الناجعة للغرب الصليبي بعدم تكرار ذلك فيقول:
"وإذا أرادت السياسة الأوروبية أن تتحرر من العقبات الكؤود التي ترهق مستعمراتها ينبغي عليها أن تسعى لتفكيك هذه الهوية المصطنعة التي تتحرك ضدها: هوية بين المفاهيم "العربية" والمفهوم "الإسلامي" وعندما تتجرأ على حل المسألة العربية فإنها تحطم آلية التشابك الموجود بين المفهومين وتفتت الوحدة الإسلامية كما أن القوميات الاستعمارية الأوروبية تُؤمن بهذا هدوء لم تعرفه منذ أمد طويل. إن نظرية الوحدة العربية هي خير علاج وأفضل ترياق ضد الوحدة الإسلامية فهي لا تشكل خطراً أكثر مما تشكله القومية التركية الحالية، إذ عندما تنصرف عن الدعوة إلى المشاعر الدينية ولأنها هي على العكس تشكل عرقية أساسية تصبح عنصراً صحيحاً للتوازن السياسي في العالم القديم. إن تفتيت الهوية التي تجمع بين الإسلام والعروبة هو القادر على جعل الضفة الشرقية للبحر المتوسط ما يجب أن تكون في الحقيقة: واجهة القارة الآسيوية التي تطل على العالم الغربي ورأس جسر لأوروبا نحو آسيا الكبرى". يعني ضرب القومية بالإسلام!
"إن الوحدة العربية تصبح قادرة على مقاومة الوحدة الإسلامية إذا ما نظمت سياسياً فإيقاظ الشعور القومي العربي هو الذي ولد الإيمان الجديد عند العرب بتشكيل الأمة الإسلامية: إن القومية الإسلامية تتفوق على الفكرة العائلية وعلى العصبية العشائرية أو القبلية التي كانت معروفة لحد الآن، فإذا ما تراجع الغرب أمام تلك الديانة الجديدة وإذا ما أقره أكد على وجود قومية عربية تمتد من البحر المتوسط، وحتى بلاد فارس قومية مختلفة في جوهر تحديدها على التتر والهندوس والبربر، فإنه يحرر بذلك قوة هائلة إذا ما تأطرت بشكل مناسب استطاعت أن تلعب دوراً في العالم المتمدن تؤهلها له أصالتها الرفيعة".
الكلام السابق ليس في حاجة إلى تعليق لأن الواقع الذي نعيشه اليوم أكبر دليل على نائج ضرب القومية بالإسلام. كما أنه لم يترك للغرب فرصة الغفلة أو التهاون أو الاتكال على أعوانهم من أبناء أمة الإسلام فيدعوه ليتولى بنفسه تنظيم وطننا، فيقول:
"من أجل أن نتجنب هذا الاحتمال المرعب الذي ينطوي على أخطار جسيمة مجهولة ينبغي على العالم المتمدن أن يتولى بنفسه تنظيم العالم العربي كي يجعل منه عاملاً سياسياً نافعاً وليس عامل فوضى".
الواقع الذي نعيشه اليوم أكبر دليل على أن الغرب أخذ بنصيحة هذا اليهودي اليقظ وأفكاره ـومَنْ سبقه من يهود آخرين وسارعوا لإخراج كيان العدو الصهيوني إلى الوجود تحقيقاً لتوصيات لويس التاسع ورسالة روتشيلد لبالمرستون وإعلان هرتزل عن دور كيانهم في كتابه "دولة اليهود" وحاييم وايزمن وغيرهم، وقد تكلل كل ذلك في تقرير كامبل بنرمان. واليوم تقوم الولايات المتحدة باستكمال ما بدأه سلفها الأوروبي تتولى بنفسها تنظيم العالم العربي كي نجعل منه عاملاً سياسياً نافعاً وليس عامل فوضى وتُصر على إعادة ترسيم حدود خريطة سايكس – بيكو من جديد تنفيذاً لمخطط يهودي آخر وضعه في ثمانينيات القرن الماضي.