الغرب والإسلام
زرع (إسرائيل) في قلب الأمة والوطن (44)
مصطفى إنشاصي
كانت بريطانيا أكثر الشعوب الغربية حماسة وتعصيباً لمساعدة اليهود في العودة إلى فلسطين وإقامة (الدولة اليهودية) فيها من منطلق ديني عقائدي بحكم اعتقادهم بالمذهب البروتستانتي، فقد كان البروتستانت منتشرين في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية وكان أتباع المذهب التطهيري البيوريتاني البروتستانتي ومذهب عصمة الكتاب المقدس الحرفية مهووسين بالخرافات اليهودية عن (شعب الله المختار) و(أرض الميعاد) و(نهاية العالم) و(السيادة اليهودية العالمية)... وقد "كانت البيوريتانية نوعاً من يهودية جديدة، يهودية محولة إلى مصطلحات أنجلو ـ سكسونية. ركز هؤلاء البروتستانت، في رجوعهم إلى نص الكتاب المقدس، على العهد القديم، وحاول بعضهم تقبلها حرفياً كأي يهودي أرثوذكسي"تلك النصرانية المتهودة قد بلغت "ذروتها في القرن العشرين في مذهب العصمة الحرفي الأمريكي الذي يصر على أن (إسرائيل) هي التحقيق الواقعي للنبوءة في العصر الحديث". فقد رسخ هذا المذهب في أذهان النصارى البروتستانت البريطانيين والأمريكيين "أن هناك علاقة قومية بين أرض فلسطين والشعب اليهودي باعتبارها السلالة المباشرة لقبائل إسرائيل العبرانية القديمة. وكان الفقه البروتستانتي (المسيحي) هو الذي رسخ التواصل المستمر بين الأرض والشعب).وقد كانت الدعوة لإعادة اليهود إلى فلسطين في بريطانيا الأشد حماسة والأكثر تأثيراً على صعيد عامة الجماهير والمثقفين والفكرين والسياسيين ورائدهم رجال الدين البروتستانت، وقد استغل اليهود تلك الحماسة وذلك الشعور والرغبة الجامحة لديهم في إعادة اليهود إلى فلسطين في تحقيق أهدافهم للعودة بالتحالف مع بريطانيا.واختزالاً للأحداث الكثيرة التي قام بها البروتستانت في بريطانيا وأمريكا سواء المفكرين والمثقفين ورجال الدين في القرن التاسع عشر وبخاصة الجهات الرسمية الحكومية مع الدولة العثمانية للحصول منها على موافقة رسمية لفتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين أو منحهم حق إقامة وطن قومي لهم فيها، نقول: أن القرن التاسع عشر كان بامتياز قرن الدعوة لإقامة الدولة اليهودي في فلسطين على الصعيد اليهودي والغربي ومحاولة اليهود شراء الأراضي فيها وبناء المغتصبات اليهودي على أرضها.ونذكر من تلك الجهود خاصة الرسمية ما قام به اليهودي المتنصر دزرائيلي الذي وصل إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا حيث عمل على توريط بريطانيا في المنطقة تمهيداً لتحالفها المشروع الصهيوني القادم في فلسطين للحفاظ على مصالحها في وطننا، فقد كان أول عمل قام به بعد تسلم رئاسة الوزراء هو تشجيع بريطانيا على شراء أسهم مصر في شركة قناة عام 1875، محاولاً الاستيلاء على الشركة وإضعاف كوقف كل من مصر وفرنسا، ومثبتاً أقدام بريطانيا في المنطقة مهيئ للتسلل اليهودي إلى وطننا، وقد اشتراها بل سرقها "بأربعة ملايين من الجنيهات تسلمها الخديوي إسماعيل لتسديد ديونه وكانت تساوي أضعاف هذا المبلغ وحينما عجزت الحكومة البريطانية عن دفع هذا المبلغ اقترضه من المليونير اليهودي روتشيلد مقابل عمولة قيمتها 100 ألف جنيه إسترليني". وذلك في تشرين الثاني، نوفمبر 1875، وتمثلت في شباط، فبراير1876 بثلاثة أعضاء في مجلس إدارة الشركة.وهكذا ربط دزرائيلي مصالح بريطانيا في قناة السويس وأعطى لحاييم وايزمن رئيس الحركة الصهيونية بعد ربع قرن ورقة رابحة يلوح فيها للإمبراطورية العظمى لتقف إلى جانب المشروع اليهودي الصهيوني بكل ثقلها حيث بدأ منذ بداية القرن العشرين يردد على مسامع الساسة البريطانيين: أن اليهود "أفضل ضمانة لحماية مصالح بريطانية العظمى في قناة السويس".كما قام دزرائيلي أثناء الحرب التركية الروسية عام 1878 بوضع يد بريطانيا على قبرص بحجة الحفاظ على مصالح بريطانيا في أسيا الصغرى مع أن العسكريين في بريطانيا قد شككوا في مدى فاعلية موقع قبرص لهذا المهمة. ولكن اصرار دزرائيلي راجع إلى أهمية قبرص في المستقبل للمشروع اليهودي، حيث أنها ستكون نقطة لتجميع المهاجرين اليهود للانطلاق بهم منها إلى فلسطين كما أنها تقع ضمن حدود إسرائيل الكبرى. وكما نعلم أن قبرص كانت جزء من مشروع تريتش (إسرائيل الكبرى) الذي تعاطف معه هرتزل إلى أبعد الحدود وقد قال تريتش عن قبرص: "أن مسألة قبرص لا تحتاج إلى الصهيونية لكن الصهيونية تعتمد على قبرص".وما يؤكد أهمية قبرص في المخطط اليهودي أن هرتزل كان يفاوض البريطانيين في لقاءاته من أجل الحصول عليها وعلى ميناء حيفا الفلسطيني من أجل إقامة جسر عبر البحر المتوسط بربط قبرص بحيفا لنقل المهاجرين اليهود إلى فلسطين، للأسباب السابقة وغيرها أنتهز دزرائيلي فرصة الحرب التي دارت بين روسيا والدولة العثمانية "وفي غمرة البحث عن قاعدة بريطانية يمكن الاشراف منها على حماية المصالح البريطانية وللدفاع عن آسيا الصغرى وأرمينيا ضد أي هجوم روسي في المستقبل كان دزرائيلي سابقاً إلى اقتراح جزيرة قبرص، فما كان من بريطانيا إلا أن أسرعت إلى احتلال الجزيرة وأملت على الباب العالي اتفاق لتكريس ذلك الاحتلال ... هذا مع العلم بأن خبراء التحصينات البريطانية أعربوا عن شكوكهم بفعالية قبرص كمركز للدفاع عن تركية الأسيوية وهكذا تم توقيع اتفاقية قبرص في الرابع من حزيران/يونيو 1878".كما أن دزرائيلي بذل جهوداً كبيرة عند السلطان العثماني من أجل تحقيق الحلم اليهودي للحصول على موافقته بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، وعند فشل جهوده عاد وطرح المشروع في المؤتمر الأوروبي عام 1878 طالباً من الدول الغربية مساعدة اليهود إقامة وطنهم القومي في فلسطين، وأخيرا استطاع "انتزاع وعد من الملكة فكتوريا عام 1889 يلزمها بالسعي لاحتلال فلسطين لتقديمها لليهود خالية من سكانها العرب وكما استطاع هرتزل أن يأخذ منها توصية لعبد الحميد الثاني".إن دزرائيلي يعتبر من أهم الشخصيات اليهودية التي تسترت بالنصرانية ولعبت دوراً بارزاً وخطيراً في أحياء آمال اليهود وتقوية أحلامهم باقتراب أيام عودتهم إلى فلسطين وإقامة دولتهم فيها، وعندما تسلم البارون اليهودي السونونو رئاسة الوزراء البريطانية بعد دزرائيلي مرتين كأن آخرها عام 1909 قد سار على نفس النهج وأكمل السياسة اليهودية المرسومة.ومع بدايات القرن العشرين شهدت المساعي اليهودي لاغتصاب فلسطين تطوراً كبيراً بعد عقد مؤتمر لتدن عام 1905 وما تمخض عنه من نتائج تضمنها تقرير كامبل بنرمان عام 1907، وقد سبق الحديث عنهما، حيث أوصى التقرير بالتعجيل في زرع أسفين غريب في فلسطين ليشطر الوحدة الجغرافية للأمة والوطن، وليحافظ على الكيانات المصطنعة التي أيضاً أوصى التقرير بتمزيق جغرافية الوطن إلى دويلات وذلك ما تم في اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916، وقد تجسد التحالف اليهودي – الغربي في إصدار وزير خارجية بريطانيا نيابة عن الدول الأوروبية وأمريكا الذين اجمعوا على التحالف مع اليهود في (وعد بلفور) بتاريخ 2 تشرين ثاني/نوفمبر 1917.