الغرب والإسلام
محاولات يهودية مبكرة لاختراق المسلمين (42)
مصطفى إنشاصي
ذلك الإدراك المبكر من السلطان عبد الحميد الثاني للبُعد الإسلامي في الصراع كان يشاركه فيه كثير من العلماء والمفكرين والزعماء والقيادات العربية والإسلامية، وكذلك الجماهير بفطرتها، على بساطتها وتواضع تعليمها وثقافتها. ومن الشواهد الكثيرة التي تؤكد الحضور الإسلامي للقضية جماهيرياً وشعبياً، والإدراك لأبعاد الهجمة:
إدراد الغرب والصهاينة لمكانة وأهمية القدس والأقصى في عقيدة ونفوس المسلمين، وأن الأمة لا تختلف عليهما وتتجاوز كل خلافاتها وتتوحد لأجلهما، سعيا منذ زمن مبكر لتحقيق اختراق في الجبهة الإسلامية لإحداث تأثير عليها لصالح المشروع الغربي - الصهيوني، ويتضح ذلك من خلال بعض المساعي اليهودية لإقامة علاقات مبكرة مع الاتجاهات الإسلامية ذات التأثير السياسي والشعبي في الهند وباكستان، حيث العمق والثقل الإسلامي، والعاطفة والحمية الإسلامية الجياشة، والحراك والتفاعل والتضامن الشعبي القوي مع فلسطين، والعمل من أجل وحدة الأمة سياسياً، ونصرة قضاياها المصيرية.
وفي محاولة من الصهيونية الحصول على موافقة القوى الإسلامية على مشروعها في فلسطين، أو إبداء التعاطف والتسامح معه، "بإيحاء من بريطانيا مثلاً (أرسل حاييم وايزمان) الزعيم الصهيوني إلى مولانا (شوكت علي) في الهند عام 1924، يعرض عليه سكوت مسلمي الهند على السيطرة اليهودية في فلسطين، مقابل أن تكون القدس للمسلمين، مع ممر يصلها بيافا على المتوسط، وهو أمر رفضه شوكت علي بشدة". من المعروف أن شوكت على كلن صاحب فكرة المؤتمر الإسلامي العام، سنأتي على ذكره، وقد فكر في ذلك منذ عام 1924 هو والحاج أمين الحسيني عندما التقيا في مكة في موسم الحج ذلك العام.
لقد كانت العيون الصهيونية ساهرة على التصدي لأي نزعة إسلامية متضامنة مع فلسطين والقدس منذ زمن مبكر، فقد قامت القوى الصهيونية بتوظيف القوى الدولية المتحالفة معها للتصدي للنزعات الإسلامية التي تحرك مواقف الشعوب الإسلامية في آسيا وإفريقيا، وتبلور رؤيتها لما يجري في فلسطين، وتدفعها للتضامن معها. "ففي الثلاثينيات - القرن الماضي - تدخلت السلطات البريطانية في الهند بإيعاز صهيوني لمنع بعثة فلسطينية جمعت أموالاً لبناء جامعة إسلامية في القدس من تحويل هذه الأموال إلى فلسطين". الجامعة الإسلامية التي كان مزمعاً إنشاءها في القدس هي أحد مقررات المؤتمر الإسلامي العام.

المؤتمر الإسلامي العام 1931
إن جميع الثورات والهبات والانتفاضات الفلسطينية منذ بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917، إلى أن ضاعت فلسطين عام 1948 كانت دوافعها ومنطلقاتها الرئيسة إسلامية، وكان محركها الحمية الدينية الإسلامية، بدء من ثورة موسم النبي موسى عام 1920، مروراً بثورة أيار/مايو1921 ضد الأفكار الشيوعية ودعوتها الإلحادية والإباحية، إلى ثورة عام 1929 التي جاءت رداً على محاولة اليهود إيجاد موطئ قدم لهم في السور الغربي للمسجد الأقصى، حيث انتفضت فيها فلسطين انتفاضة اضطرت الاحتلال البريطاني أن يرسل لجنة تحقيق في أسبابها، لامتصاص نقمة الجماهير الفلسطينية التي ثارت حماية لأقصى الأمة، وغيرة عليه، كما هو الحال اليوم!
أما ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 التي أعد لها الشيخ الشهيد عز الدين القسام وقادها في الغالب الأعم الرجال الذين أعدهم فقد كانت إسلامية خالصة، ولم يجهضها أو يضعفها إلا الصراعات التي كانت لا تنطفئ نارها بين الاتجاهات الفلسطينية والعربية الرسمية. تلك الثورة ومحاوله طمس هويتها وتشويه حقيقتها الدينية الإسلامية تعتبر مثال على الدور الذي لعبته الاتجاهات الفكرية العربية في تغييب البُعد الإسلامي في القضية والصراع، من خلال تسابق البعض على نسبة القسام وحركته وثورته كل إلى توجهه الفكري، فهناك من اعتبره ماركسياً تقدمياً وأن ثورته كانت ثورة على غرار الثورات البلشفية في روسيا عام 1917، وأنه اعتمد على العمال والفلاحين ضد البرجوازية والإقطاع الذي كان يسود فلسطين؟! وآخر اعتبر القسام وحركته وثورته حركة قومية وأن القسام كان قومياً عروبياً!
ذلك في الوقت الذي كان فيه تاريخ القسام، الشيخ الأزهري، وتكوينه الفكري، وإعداده التربوي، وتوجهاته الثورية الجهادية، وتاريخه الجهادي في سوريا وغيرها من مكونات شخصيته، وأسلوبه في الإعداد لثورته، وممارسته في شؤون حياته الاجتماعية اليومية العامة والخاصة، تنبئ بحقيقة انتماءه، ولم يكن بدعاً بين العلماء في تاريخنا الحديث، الذي يشهد أنهم هم الذين كانوا قادة ورواد الثورات وحركات الجهاد للتحرر من الاحتلالات الغربية الصليبية، على طول مساحة الوطن وعرضه. فإن كان هذا ما حدث مع الشيخ الأزهري المعمم رغم الوضوح الديني والإسلامي الذي كان عنوانه الشخصي، وكان سمة وطابع ثورته وحركته، فما بالنا بتاريخنا كله الذي لم يكن بهذا الوضوح؟!
كان من أهم نتائج ثورة البراق عام 1929 انعقاد المؤتمر الإسلامي العام في القدس في كانون الأول/ديسمبر 1931 كأول إجماع إسلامي عام، وقد كان دليلاً على مركزية القضية دينياً وعقائدياً، وأول من أعطى القضية أولوية على قضايا محلية في أي قطر إسلامي آخر. فقد جاءت الدعوة للمؤتمر عقب صدور تقرير لجنة شو البريطانية التي حققت في أسباب ثورة البراق، تلك الثورة التي شكلت أحداثها بداية اشتداد الصراع الإسلامي - الصهيوني على القدس والمسجد الأقصى، وقد أظهرت مدى ضعف الموقف العربي الرسمي، فكان المؤتمر تأكيداً على إسلامية القضية منذ مراحلها الأولى، وعلى مدى إدراك المسلمين لأبعاد المشروع الغربي - الصهيوني ومخاطره على الأمة والوطن.
فقد "كانت ثورة البراق عام 1929 وما انبنى من اهتمام العالم الإسلامي الكبير بفلسطين وبروز التضامن الإسلامي من مختلف بلاد المسلمين قد أوجد مناخاً ملائماً لعقد المؤتمر الإسلامي العام". وقد انعقد المؤتمر رسميا ليلة 27 رجب 1350هـ. من 7-17 كانون الأول/ديسمبر 1931، وقد حضره عدد كبير من العلماء من جميع أنحاء الوطن الإسلامي، ألقى عدد كبير منهم كلمات في المؤتمر، جميعها أكدت على إسلامية القضية ومركزيتها للأمة، منها كلمة الشيخ أمين الحسيني التي جاء فيها:
أن أكثر الأقطار الإسلامية قد فقدت عزها وسلطانها وأصيبت بمحن وكوارث عديدة أثقلت كاهلها ولكن فلسطين هذه البلاد المقدسة التي قامت بالدعوة إلى هذا المؤتمر أصيبت زيادة على ذلك كله بمصيبة كبيرة تهدد كيانها بإنشاء وطن قومي صهيوني في هذه البلاد العربية الإسلامية المقدسة. من أجل ذلك، ولما كانت هذه البلاد تهم المسلمين جميعاً لما لها من الموقع الديني والجغرافي العظيم ... فقد رأينا عملاً بقوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" وبقوله عليه الصلاة والسلام "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً" أن ندعو إلى هذا المؤتمر العظيم من كافة الأقطار الإسلامية للبحث في هذا الأمر الجلل وفي الشؤون الإسلامية التي تهم المسلمين جميعا.
وقد اتخذت قرارات ذات أهمية فيما يخص قضايا الأمة، وقرارات خاصة فيما يتعلق بالوضع الإسلامي لفلسطين كقضية إسلامية تهم جميع المسلمين.