الغرب والإسلام



اعترافات الانقلابيين وغدر القوميين (40)

مصطفى إنشاصي
بخلع السلطان عبد الحميد زالت العقبة الكؤود التي كانت تمنع الصهاينة من تحقيق أهدافهم في فلسطين، وازداد النشاط الصهيوني في فلسطين خاصة وأن الحكم الجديد أبدى تأييداً رسمياً للحركة الصهيونية، "ولا شك أن موقف الاتحاديين هذا المؤيد للصهيونيين نابع من الروابط القوية بينهم من خلال الحركة الماسونية التي جمعت بينهما قبل استلام الاتحاديين الحكم. ولقد هاجم الرأي العام في الآستانة علناً في المساجد والصحافة ودوائر الحكم الاتحاديين والصهيونيين والماسونيين".

وبخلع السلطان عبد الحميد استطاع اليهود النفاذ إلى قلب الدولة العثمانية عن طريق "جمعية الاتحاد والترقي"، التي استصدرت من السلطان (محمد رشاد) مرسوماً يسمح لهم بالموافقة على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد وضع الاتحاديون شعارهم "حرية، مساواة، عدالة" وهو نفس شعار الماسونية والثورة الفرنسية، وقد وضعوه على قطعة نقود تركية.
وقد أثبت السلطان عبد الحميد ذلك في مذكراته: "وانتظم يهود العالم وسعوا ـ عن طريق المحافل الماسونية ـ في سبيل (الأرض الموعودة) وجاءوا إلي بعد فترة وطلبوا مني أرضاً لتوطين اليهود في فلسطين مقابل أموال طائلة وبالطبع رفضت".
وقد كشف بعض زعماء الانقلاب عن اعترافهم بأنهم وقعوا خديعة الحركة الصهيونية والتآمر الاستعماري، فهذا أنور باشا الرجل الذي قام بالدور الرئيسي في الانقلاب على الخلافة عام 1908م، والذي تسبب في تدهور الدولة العثمانية، يقول في حديث له مع جمال باشا الذي قاد حملة التتريك في بلاد الشام، وأصدر أحكام الإعدام ضد الذين قاموا بهذه الحملة من العرب إذ كانا يحللان أسباب الاندحار الذي أصاب الدولة التركية: "أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا؟ وبعد تحسر عميق، قال: نحن لم نعرف السلطان عبد الحميد فأصبحنا آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية، نحن بذلنا جهودنا للصهيونية فهذا ذنبنا الحقيقي.
وكما باء أنور باشا وجمال باشا الخزي والعار، وقد قتلا في حوادث غامضة بعد ذلك. فإن أولئك العرب الذين وقفوا إلى جانب الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد، أيضاً لم ينالهم إلا الخزي والعار الذي سجله لهم التاريخ، والقتل والاضطهاد الذي وقع عليهم من قبل حلفاء الأمس، فسرعان ما أن انقلب عليهم حلفاءهم الأتراك وقاموا بإصدار قرارات وقوانين "قامت على أساس تقوية العنصر التركي وإحياء الفكرة الطورانية، وإذابة شعوب الدولة العثمانية في البوتقة التركية، والقضاء على اللغة العربية". ومن مظاهر ذلك: أنهم وزعوا منشورات جاء فيها: "إن العرب هم بلية علينا وإن حصان التركي خير من ألف نبي ظهر في العالم".
وعلق الدكتور عبد الوهاب الكيالي على التحالف العربي - التركي لإسقاط السلطان عبد الحميد قائلاً: ولأن شهر العسل العربي التركي الذي أعلنته "جمعية الاتحاد والترقي" العربي العثماني كان قصير الأجل، إذ سرعان ما اتضح أن عناصر "جمعية الاتحاد والترقي" كانت تركية أولاً ويهودية ثانياً، وكان الاتجاه القومي الطوراني يقضي بسياسة "التتريك" وطمس معالم اللغة العربية من الشخصية العربية، "بل إن الاضطهاد التركي للعرب ازداد عما مضى وأحس العرب بالاحتقار والسخرية بهم وبتراثهم أكثر من أي وقت سبق كما أسيئت معاملتهم وأضعفت لغتهم". فقد ركز قادة الاتحاد والترقي هجومهم على عزت باشا العابد وأبو الهدى الصيادي وكانا من العرب المقربين إلى السلطان عبد الحميد.

أما الدكتور أنيس صايغ فقد قال: كان الانقلاب في ظاهره "حركة قومية إصلاحية عربية تركية غير أن اليهود أسهموا فيها وغذوها كوسيلة للتخلص من عبد الحميد لوضع حكم عنصري يقصي المستشارين العرب ويسهل على السلطات الجديدة منح ما يطلبون من امتيازات".
وإن كان أقطاب المؤامرة قد باءوا بالندم بعد أن اكتشفوا أنهم كانوا دمى بأيدي أعداء هذه الأمة فإن الضحية الذي لم تثنى عزيمته وثباته على موقفه كل أساليب الترغيب والترهيب أنصفه التاريخ وعرف الناس الحقيقة فأصبح بطلاً، ورمزاً، ومضرب للمثل، فهكذا المسلم دائماً، وليس من يسمسرون بالإسلام وبفلسطين، كما هو الحال هذه الأيام مع كثير ممن يدعون العمل للإسلام من أجل فلسطين، ويتربعون على قمة حركات إسلامية مجاهدة وهم في الحقيقة لا يهمهم إلا أطماعهم الشخصية، حتى وإن كان ذلك على حساب سحق وتشريد أقرب الناس إليهم فما بالك ببقية الرعية. أما مثل السلطان عبد الحميد الذي لم ينصف في حيته فإن صدقه وإخلاصه لدينه ولأمته قد أنصفه بعد وفاته، ورفعه إلى أعلى.
كما أن رسالة السلطان عبد الحميد التي أرسلها من سجنه ومنفاه في سالونيك مع أحد حراسه إلى شيخه في الطريقة الشاذلية في حلب الشيخ محمود أبو الشامات تشهد له على ثبات موقفه الإسلامي، حيث يقول فيها: "(إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين) ورغم إصرارهم، لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيراً وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهباً، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين). وبعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيعيدونني إلى سالونيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ العالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة: فلسطين".
وبخلع السلطان عبد الحميد ازداد النشاط الصهيوني في فلسطين خاصة وأن الحكم الجديد أبدى تأييداً رسمياً للحركة الصهيوني. ولقد تجلى التحالف الغربي – الصهيوني ضد الإسلام والمسلمين، عندما امتزجت الغايات الدينية والسياسية معا. وبتنازل السلطان عبد الحميد ضاعت فلسطين فقد زالت العقبة الكؤود التي كانت تمنع الصهاينة من تحقيق أهدافهم في فلسطين، وازداد النشاط الصهيوني في فلسطين.