الغرب والإسلام
حركة القومية العربية والقومية الطورانية (39)
مصطفى إنشاصي
كان الإسلام ومازال هو العدو المشترك الذي اجتمعت عليه كلمة وخطط الصالب والمصلوب ـ بحسب عقيدة النصارى ـ وفلسطين كانت هي مركز الهجمة اليهودية ـ الغربية لتفكيك الوحدة السياسية للمسلمين والقضاء على الإسلام، التي من خلال انتزاعها سيتم تحقيق أهدافهما ضد الأمة والوطن. ومنذ ذلك الحين بدأ الغرب الصليبي يضع أسس واضحة الأهداف والغايات للتحالف الذي سينشأ بينه وبين اليهودية العالمية، متمثلة في الحركة الصهيونية التي تسعى آنذاك لتحقيق الحلم اليهودي التوراتي باغتصاب فلسطين. وقد كان جوهر ذلك التحالف يقوم على أساس: أن الإسلام، والعروبة هما العدو المشترك لهما، الذي يهدد وجودهما قبل غاياتهما وطموحاتهما للسيطرة والهيمنة على العالم وخاصة وطننا.
"العروبة: بمعناها المرادف للإسلام، وليس معناها كبديل عنه ونقيض له، لأن أهلنا في المغرب العربي كانوا يستعملون مصطلح "العروبة" ضد محاولات الفرنسة، كمرادف لمصطلح "الإسلام" وليس بمعنى مضاد له. لذلك عمل اليهود والغرب على تفكيك العلاقة بين شعوب الأمة الإسلامية ومن خلال نشر الفكر القومي بين شعوب الأمة وخاصة العرب والأتراك.لقد اصبح معلوماً أن الفكرة القومية هي فكرة غريبة عن ديننا وتاريخنا وقد نشأت في أوروبا بفضل عوامل كثيرة، ليست موضوعنا، لكن أهمها الحروب والصراعات الدينية والعرقية التي احتدمت في الغرب الصليبي بعد انتشار أفكار مارتن لوثر الذي يعتبره العلمانيين أنه كان مصلحاً وأنه قائد الثورة الإصلاحية الدينية في الغرب، وقد استمرت نحو ثلاثمائة سنة، وقد اعتبر عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن أفكار مارتن لوثر هي التي أوجدت القوميات الأوروبية الحديثة ومنها تم تصديرها إلى وطننا الإسلامي، فقد ذكر الدكتور فليب حتي: "وقد كان ظهور مبادئ القومية العربية في العقد السابع من القرن الماضي (التاسع عشر) على يد رجال الفكر السوريين، وغالبهم من اللبنانيين المسيحيين الذين تثقفوا في المدارس الأمريكية في بلادهم". ويضيف لتلك الحقيقة حقيقة أخرى، هي أن "القومية هي بضاعة غربية استوردها العالم بما فيه الشرق العربي من أوروبا". ويقول أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب تفي يافوت: "أما القومية فقد كانت من ابتكار الأوروبيين الذين أزعجهم انتشار الحروب الدينية في أوروبا، فابتكروا الفكرة القومية، للتخفيف من حدة الصراع الديني في أوروبا، ومن خلال هذا الشعار، شعار القومية حاولوا الانتقام من شعوب الشرق الأوسط، فباعوا ابتكارهم لشعوب الشرق الأوسط، وهكذا أصبحت حياة الشباب في الشرق الأوسط تتوه في الحروب القومية".وإن كانت القومية العربية استوردها لنا النصارى اللبنانيين من الغرب الذي شجع على نشرها في وطننا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من خلال مدارسه التنصيرية والجامعة الأمريكية، والبعثات التعليمية التي كانت تذهب إلى أوروبا للدراسة، فإن القومية الطورانية (التركية) كان روادها اليهود كما يقول سيتون واتسون: "إن الأدمغة الحقيقة في حركة مصطفى اتاتورك كمال كانت يهودية أو يهودية – مسلمة وهي الدونمة".وقد ذكر السفير البريطاني في تركيا لوزير خارجيته في مذكرته التي رفعها إليه في أغسطس 1910 إن لجنة الاتحاد والترقي تبدو في تشكيلها الداخلي تحالفاً يهودياً تركياً مزدوجاً.. إن اليهود الذين يبدون الآن في موقف الملهم والمسيطر على الجهاز الداخلي للدولة يعملون على سيطرة الاقتصادية والصناعية على تركيا الفتاة، ولكي يصل اليهود إلى مكان النفوذ في تركيا الفتاة فإنهم يشجعون الاتجاهات القومية التركية".وقد عملت بريطانيا على احتواء الأفكار القومية في وطننا وخاصة العربي وتوجيهها توجيهاً يخدم مصالحها ويحقق أهدافها في وطمما وتجزئته وإسقاط الخلافة، وقد كان السلطان عبد الحميد مدركاً لسعي بريطانيا استغلال التناقض بين الإسلام والقومية على الطريقة الغربية للقضاء على الخلافة فكتب: "إنكلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلاد الإسلامية إلى هز عرشي". لذلك كان يعمل جهده على فكرة الجامعة الإسلامية إدراكاً منه أنها هي القادرة على إفشال مخططات الغرب، فقد كتب: "أن الدولة العثمانية تضم أجناساً متعددة من أتراك وعرب وبلغار وألبان ويونانيين وزنوج وعناصر أخرى، ورغم هذا فإن وحدة الإسلام تجعلنا أفراد أسرة واحدة".
تضحية السلطان عبد الحميد بعرشه من أجل فلسطين
وعندما استمرت سياسة السلطان عبد الحميد بالتصلب أمام أطماع الغرب والصهاينة في وطننا وأصبح عقبة كئود في وجه مخططاتهما كان لا بد أن تتوحد جهودهما ويعملا على التخلص ليس منه وحده ولكن من النظام السياسي الإسلامي كله، الخلافة الإسلامية العثمانية، وقد كان من ضمن القرارات الضمنية للمؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م: "أنه في حال استمرار رفض السلطان عبد الحميد الثاني للمطالب الصهيونية فإن تحطيم الإمبراطورية التركية شرط أساسي لإقامة حكومة صهيونية في فلسطين". وما أن أعلن هرتزل فشله في الحصول من السلطان على أي مكسب رغم كل الإغراءات: "إني أفقد الأمل في تحقيق أماني اليهود في فلسطين، وإن اليهود لن يستطيعوا دخول الأرض الموعودة، ما دام السلطان عبد الحميد قائماً في الحكم مستمراً فيه". حتى تحركت كل اقوى اليهودية والغربية ووحدت جهودها للقضاء على النظام السياسي الإسلامي نهائياً.وقد لعبت المحافل الماسونية مع يهود (الدونمة) دوراً مؤثراً في التخطيط لخلع السلطان، وكانت بمثابة العقل المدبر، كما كانت الدول الأجنبية بمثابة الممول لأنه كان لها نفوذ كبير في أوساط الباب العالي وبين الأتراك الشبان. وكانت الماسونية قد بدأت في الانتشار في أراضي الدولة العثمانية منذ وقت بعيد، ويقول الأب لويس شيخو عن موقف تركيا من الماسونية "كانت تركيا بين أوائل الدول التي ناهضت الماسونية منذ عام 1748م، وأن بين قوانينها ما يحضر على العثمانيين الجمعيات السرية".وهكذا حركت اليهودية العالمية والغرب الصليبي أدواتهما، جمعيتي "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاه" بالتعاون مع يهود الدونمة للتآمر على السلطان عبد الحميد وإسقاطه، فكان أول عمل قاموا به انقلاب عام 1908م الذي تمخض عن إعلان الدستور وإجراء انتخابات للهيئة التشريعية واطلاق الحريات ...". وقد كان ذلك الانقلاب بمثابة: "ثورة على المفهوم المألوف للإسلام وعلى فكرة الجامعة الإسلامية عند السلطان عبد الحميد". ولم يكتفِ اليهود الصهاينة بذلك بل أجبروا السلطان عبد الحميد في العام التالي عن طريق أدواتهم المذكورة التخلي عن الحكم عام 1909، "ويمكن القول أن ثورة 1908م وحادثة خلع السلطان 1909م لعبتا الدور الأول والفعال في انتعاش الأماني الصهيونية لإقامة (مملكة إسرائيل) في فلسطين. وقد أثبتت الأحداث بعد ذلك تزايد الهجرة اليهودية إلى الأراضي المقدسة".