الغرب والإسلام
السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين (37)
مصطفى إنشاصي
كان السلطان عبد الحميد يتابع تحركات اليهود ومخططاتهم من قبل توليه السلطنة أيام كان مقيماً في ألمانيا قبل توليه الخلافة، وكانت الفكرة الصهيونية أيامها في بداياتها، وكان يكتب عنها بعض المفكرين الصهاينة في الصحف الألمانية وقد كان متابعاً لتلك الكتابات، ما جعله يدرك أكثر من غيره أبعاد مخطط اليهود في فلسطين وخطره على الأمة والوطن، لذلك فإن موقفه من الصهيونية لم يكن طارئاً ولكن كان موقفاً نابعاً من عقيدة صلبة عنده وغيرة على دينه مقدساته".
قد كان هذا موقف السلطان عبد الحميد الثاني الثابت من الأطماع اليهودية في فلسطين نابع من إيمانه الديني، وخوفه على الأمة والوطن، "ونستطيع القول باطمئنان بأن عبد الحميد الثاني بنفسه هو الذي وضع حجر الزاوية لسياسة مواجهة الحركة الصهيونية حيث كان مصراً على منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بأي ثمن، بالإضافة إلى أنه طلب من وزرائه أن يدرسوا ويحيطوا بعناية بكافة جوانب المسألة في اجتماعاتهم، وأن يخرجوا بسياسات محددة ومتكاملة في الوقت نفسه لكي يواجهوا بها الظاهرة الصهيونية على الصعيد المحلي والعالمي".
فقد كتب في مذكراته ما يؤكد حقيقة إدراكه لأبعاد المشروع الصهيوني في فلسطين وأن ذلك الإدراك هو الذي منعه من الموافقة عليه وأن المسلمين أحق من اليهود بفلسطين: "إن الزعيم الصهيوني هرتزل لم يقنعني بأفكاره، وقد يكون قوله: (ستحل المشكلة اليهودية يوم يقوى فيه اليهودي على قيادة "محراثه" صحيحاً في رأيه، إنه يسعى لتأمين أرض لإخوانه اليهود، لكنه ينسى أن الذكاء ليس كافياً لحل جميع المشاكل ... لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين بل يريدون أموراً أخرى مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين، إنني أدرك أطماعهم جيداً لكن اليهود سطحيين في ظنهم أنني سأقبل بمحاولاتهم. وكما أنني أقدر في رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي فإني أعادي أمانيهم وأطماعهم في فلسطين".
وذلك لأنه كان يعلم أهداف الحركة الصهيونية ومقاصدها منذ نشأتها وبدأ يعارض مخططاتها، وكثيراً ما كان يردد: "إن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين لأنني لازلت أكبر أعدائهم". ذلك الإدراك المبكر من السلطان عبد الحميد الثاني كان يشاركه فيه كثير من العلماء والمفكرين والزعماء والقيادات العربية والإسلامية، وكذلك الجماهير الفلسطينية بفطرتها على بساطتها وتواضع تعليمها وثقافتها.
ويتجلى موقف السلطان عبد الحميد الثاني الإسلامي في رفضه الضغوط الغربية وعرض هرتزل لتوطين اليهود في فلسطين مع شدة الإغراءات، ويخص القدس إدراكاً منه لجوهر المشروع الصهيوني في وطننا، فقد كتب: "لماذا نترك القدس... إنها أرضنا في كل وقت وفي كل زمان وستبقى كذلك. فهي من مدننا المقدسة، وتقع في أرض إسلامية، لا بد أن تظل القدس لنا".
وكما كان السلطان عبد الحميد مدركاً لخطر المشروع الصهيوني على فلسطين والأمة فإنه كان مدركاً أيضاً لأهمية أن يبقى العنصر العربي في فلسطين متفوقاً على اليهود، فقد كتب في مذكراته يقول: "... ولكن لدينا عدد كافٍ من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقاً، علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضاً تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، وبهذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم". وهذا الموقف عند السلطان عبد الحميد موقف ثابت ونابع عن وعي وإدراك للأهداف اليهودية، فنحن نجده أيضاً يكتب في مذكراته: "من المناسب أن نقوم باستغلال الأراضي الخالية في الإمبراطورية، وهذا يعني من جانب آخر، أنه كان علينا أن ننهج إتباع سياسة تهجير خاصة، ولكننا لا نجد أن هجرة اليهود مناسبة لأن غايتنا هي استيطان عناصر تنتمي إلى دين أسلافنا وتقاليدنا، حتى لا يستطيعوا الهيمنة على زمام الأمور في الدولة".

رفض السلطان عبد الحميد للمشروع الصهيوني
لقد بذل هرتزل جهود كثيرة ومحاولات مستميتة لمقابلة السلطان عبد الحميد عن طريق بعض أصدقائه المقربين من السلطان أو بواسطة بعض الدول، أو بالرشا والإغراءات المالية لحاشية السلطان. وقد بلغه أول رد عن طريق رفيقه (نيولنسكي) الذي أخبره بما حصل له في المقابلة التي أجراها مع السلطان في حزيران/يونيو 1896م:
"قال السلطان لي: إذا كان هرتزل صديقك بقدر ما أنت صديقي فانصحه أن لا يسير أبداً في هذا الأمر. لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وقد غذوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا. لقد حاربت كتيبتان من جيشنا في سوريا وفلسطين وقتل رجالنا الواحد بعد الآخر في "بلفنة" لكن أحد منهم لم يرضى بالتسليم. وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال، الإمبراطورية التركية ليست لي وإنما للشعب التركي، لا أستطيع أبداً أن أعطي أحد أي جزء منها. ليحتفظ اليهود بملايينهم فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل. وإنما لن تقسم إلا على جثتنا ولن نقبل بتشريحنا لأي غرض كان".
ورغم فشل رحلة هرتزل الأولى إلى القسطنطينية إلا أنه بقي عنده أمل بسبب وعود المسئولين الأتراك لخدمته، خاصة بعد أن علم السلطان بمشروعه الجديد الذي قدمه إلى السلطات العثمانية، وأبلغته حاشية السلطان: أنه "يدعو السلطان اليهود بحفاوة، للعودة إلى وطنهم التاريخي، وليستقروا هناك بحكم ذاتي مستقلين إدارياً وتابعين للإمبراطورية التركية. ومقابل ذلك يدفعون ضريبة".
وقد ذهب هرتزل بتلك النتيجة إلى لندن لإجراء اتصالاته مع الدول الكبرى وكبار مسئولي اليهود وغيرهم، وبعد مضي حوالي شهرين على رحلته الأولى إلى القسطنطينية أرسل هرتزل إلى السلطان عبد الحميد بتاريخ 25/8/1896م ملحقاً لمشروعه الذي يريد من السلطان الموافقة عليه، تضمن عرضاً مغرياً جداً يتمثل في:
"عرض قرض متدرج من عشرين مليون جنيه استرليني يقوم على الضريبة التي يدفعها اليهود المستعمرين في فلسطين إلى جلالته، تبلغ هذه الضريبة التي تضمنتها جماعتنا مائة ألف جنيه استرليني في السنة الأولى وتزداد إلى مليون جنيه استرليني سنوياً. ويتعلق النمو التدريجي في الضريبة على هجرة اليهود إلى فلسطين. أما سير العمل المفصل فيتم وضعه في اجتماعات شخصية تعقد في القسطنطينية مقابل ذلك يهب جلالته الامتيازات التالية: الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي ليست فقط تكون غير محدودة بل أيضاً تشجعها الحكومة السلطانية بكل وسيلة ممكنة. ويعطى المهاجرون اليهود الاستقلال الدائم. المضمون في القانون الدولي. في الدستور والحكومة وإدارة العدل في الأرض التي تقرر لهم (فلسطين كدولة شبه مستقلة)". وعندما استلم هرتزل براءة الوسام الذي منحه إياه السلطان كتب إليه شاكراً بتاريخ 22/10/1896م: "حينما يسر جلالتكم أن تقبلوا خدمات اليهود سيسعدهم أن يضعوا قواهم تحت تصرف ملك عظيم مثلكم".
وفي الوقت الذي كان هرتزل يشكر فيه السلطان ويتملقه كان يتآمر عليه ويتحين الفرصة للانقضاض عليه وفرض مطالبه، فقد كان يريد أن يُبقِِ على الدولة العثمانية في حالة ضعف، اعتقاداً منه أن حاجاتها للمال سوف تضطر السلطان للتعامل مع أي إنسان من أجل الحصول على المال، وكان يظن وهو يقدم عروضه المالية المغرية للسلطان من أجل الحصول على فلسطين، أن السلطان سيقبل بعروضه بدلاً من القروض الأوروبية وما يترتب عليها من فوائد عظيمة، لذلك عندما علم بنية بريطانيا خلع السلطان عبد الحميد، كتب في يومياته بتاريخ 12/9/1896م يفصح عن نياته في بقاء تركيا ضعيفة لاستغلالها: "جاء من لندن أخبار عن تفكير الدول لخلع عبد الحميد. إذا تحقق ذلك ماتت الفكرة الصهيونية مدة طويلة من الوقت. فإن السلطان الجديد سيجد المال ولن يحتاج لنا".
وقد قام هرتزل بحملة دعائية ضد أي مشروع قرض لتركيا، وحرض رجال المال اليهود الكبار على عدم المشاركة في أي مشروع من هذا النوع، لأنه سيقطع الطريق عليهم إلى فلسطين، وأنه سوف يعرضهم لمسؤولية خطيرة جداً…. إلا أن السلطان عبد الحميد رفض مشروع هرتزل وعروضه المالية، وفضل القروض الأجنبية على الرغم من مساوئها على الرضوخ للأطماع اليهودية في فلسطين، ونجحت مساعيه في الحصول على قرض أوروبي، وعندما علم هرتزل بذلك جن جنونه، وغضب كثيراً واتصل بصديقه نيولنسكي للتأكد من صحة ما قرأ في الجرائد، فقد كتب في يومياته بتاريخ 26/1/1897م يقول: "تلقت الجريدة الحرة الجديدة هذا الصباح خبر إتمام التدابير المالية مع تركيا (تحت ضمانة الدول كلها) لم أصدق الخبر في البدء وتلفنت لنيولنسكي الذي اكتفى بالتأكيد أنه أمر سيء لنا)" يوميات ص47. أما عن سبب غضبه فهو لأن القرض "سيعطي الأتراك أربعة ملايين جنيه، سيساعدهم هذا المبلغ على الطفو فوق سطح الماء". وأخذ هرتزل يمني نفسه بفشل القرض: "أرجو أن لا يوافق السلطان على ذلك. وأن يذكره الباشوات الذين لم ينلهم أي بخشيش، بما يهدد كرامته كخليفة".