الغرب والإسلام
البُعد الإسلامي للصراع (36)
مصطفى إنشاصي
على الرغم من ضعف المعلومات والتوثيق عن الحضور الإسلامي في الكتابات القومية والوطنية العربية والفلسطينية مقارنة بما حشدوه من كم هائل عن الحركة القومية والوطنية ودورهما في قيادة الصراع ضد الهجمة اليهودية - الغربية إلا أن الباحث يجد في طيات تلك الكتابات كماً لا بأس به عن دور الإسلام والحركة الإسلامية وفاعليتهما في التصدي لتلك الهجمة، بل وقيادتهما في الوقت نفسه، وإن كان الحضور الإسلامي للصراع ومواجهة الهجمة جماهيرياً وشعبياً لم يغيب عن ميدان المعركة. ونحن هنا لسنا في معرض التوثيق أو التأريخ لدور القيادات الإسلامية في قيادة الجماهير والشعوب العربية والإسلامية، أو لدور الإسلام في تحريك الشعوب للتفاعل مع قضية الأمة المركزية بأشكال وصور مختلفة، ولكننا نريد التذكير بالحضور الإسلامي في مراحل الصراع الأولى، ونركز على حضور هذا البُعد في عقل وفكر ومخططات الغرب بشقيه اليهودي والنصراني وكم هو رعبهم منه لذلك عملوا جهدهم على تغييبه.

الجامعة الإسلامية في فكر السلطان عبد الحميد
حكم السلطان عبد الحميد الثاني في الفترة من (1876-1909) وهو آخر السلاطين العثمانيين الفعليين، تولى الحكم في ظل ظروف صعبة كانت تحيط بدولة الخلافة ومؤامرات شرسة في الداخل والخارج كانت تُحاك ضد الدولة العثمانية، ومشروع صهيوني ناشئ يريد قلب الأمة والوطن، فلسطين، وطناً قومياً لليهود (دولة يهودية)، وتساقُط أقطار الوطن الإسلامي الواحدة تلو الأخرى تحت الاحتلالات الغربية، الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830، تلاه الاحتلال البريطاني لعدن عام 1839، وفي عهده الاحتلال الفرنسي لتونس عام 1881، والاحتلال البريطاني لمصر 1882.
وقد كان أول قرار اتخذه بخصوص القدس بعد توليه الحكم أن اختص القدس بسنجق خاص بها اسمه سنجق القدس وألحقه بالباب العالي مباشرة حتى يكون تحت إشرافه! وكان آخر قرار اتخذه في 27 نيسان/إبريل عام1909 أن ضحى بإمبراطوريته وتنازل عن العرش وقبل النفي وعناءه وقهره ولم يفرط أو يتنازل عن فلسطين والقدس لبني صهيوني!
لذلك له حق على كل مسلم يعتز بدينه وانتماءه لأمة الإسلام أن يعمل على إنصافه ورفع الظلم الذي وقع عليه حياً وميتاً، لذلك سأقف بعض الشيء مع سيرة هذا الرجل الذي ندر أمثاله في هذا العصر ونحن نعلم بداية أننا مهما تكلمنا عنه فلن نوفيه جزء من حقه، لكن محاولة نرد له فيها بعض فضله وكلمة حق نقدمها كما قدمها غيرنا لنرفع بها بعض الظلم الذي لحق به من أعداء الأمة ومن بعض المسلمين، لأن مخطط تشويه سمعة الرجل والافتراء عليه وعزله لم يكن إلا جزءً من مخطط أكبر، وهو مخطط القضاء على الكيان السياسي والوحدة السياسية للمسلمين وتفتيت الأمة والوطن الإسلامي وزرع كيان العدو الصهيوني في فلسطيننا، ليكون "أداة" الحفاظ على "أنظمة التجزئة"، أنظمة سايكس - بيكو التي أعلنت كونداليزا رايس أثناء العدوان الهمجي الصهيوني على لبنان عام 2006: "أنها لم تعد تؤدي الدور الذي أنشئت من أجله"! ذلك الدور هو حفظ أمن العدو الصهيوني، لذلك: "لا بد من إعادة تشكيل الخارطة السياسية لـ(الشرق الأوسط)". أي مزيد من التفتيت والتشطير لتلك الأنظمة، ما يعني أن الغرب مازال يخطط ونحن غافلون.
كان السلطان عبد الحميد الثاني متميزاً بتقواه وغلبة الوازع الديني عنده واعتزازه بالإسلام وتاريخه الإسلامي، وكان يرى "أن الإسلام هو القوة الوحيدة التي تجعلنا أقوياء ونحن أمة حية قوية ولكن شرط أن نصدق في ديننا العظيم". كما أنه كان يتمتع بحس ووعي إسلاميين جعلاه يدرك الاختلاف الكبير بين الإسلام والنصرانية وأن لكل خصوصيته: "الإسلام والمسيحية نظرتان مختلفتان ولا يمكن الجمع بينهما في حضارة واحدة".
وكان طموحه كبيراً ويتركز على إعادة وحدة المسلمين ونهضتهم وإعادة بناء قوتهم تحت راية الخلافة الإسلامية ليستطيع الإسلام ممارسة دوره الحضاري وليعود المسلمين لعطائهم الحضاري للحضارة الإنسانية، لذلك كان مؤمناً بضرورة تقوية وإعادة العلاقة بين جميع مسلمي العالم وتقوية أواصر المحبة والود بينهم، "يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة".
كما أنه أدرك خطر الهجمة اليهودية - الغربية على الأمة والوطن والنوايا الشريرة التي يضمرها اليهود والغرب من وراء أطماعهم في فلسطين، وأن الغرب الصليبي في ظل تلك الظروف الصعبة التي كانت تمر بها دولة الخلافة الإسلامية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر يشعر ويمني نفسه باقتراب زمن اقتسامه لممتلكات دولة الخلافة وانتزاع فلسطين من السيادة الإسلامية، ويعمل جهده منع أي حدث ممكن أن يؤخر تحقيقه لأطماعه في وطننا وتنفيذ مخططاته ضد الأمة والوطن. كان السلطان عبد الحميد يدرك أن دولة الخلافة ليس بمقدورها التصدي لأطماع الدول الغربية ومحاربتها، وفي الوقت نفسه كان مدركاً أن "الدول الكبرى ترتعد من سلاح الخلافة، وخوفهم من الخلافة جعلهم يتفقون على إنهاء الدولة العثمانية".
لذلك كان سعيه الحثيث لإعادة توحيد الأمة الإسلامية واستعادة قوتها ومجدها وبعث الروح القوية في نظامها السياسي، من أجل وقف التراجع في قوة المسلمين والحفاظ على الوحدة السياسية للمسلمين واستعادة نهضة الأمة، والحفاظ على تماسك ووحدة ما تبقَ من أقطارهم ومنع وقوعها تحت الاحتلال الغربي، وذلك بالدعوة إلى فكرة الجامعة الإسلامية التي لو قدّر لها النجاح لانحصر الغرب داخل حدوده مرة أخرى كما حدث سابقاً، وما كان أفلح اليهود في اغتصاب فلسطين، هو ما أثار الغرب ضد السلطان عبد الحميد وأرعبه كثيراً منه، وخشي من نجاح فكرة الجامعة الإسلامية ومن عودة الروح والتماسك للأمة من جديد. قال المؤرخ البريطاني أرنولد تونبي: "إن السلطان عبد الحميد كان يهدف من سياسته الإسلامية، تجميع مسلمي العالم تحت راية واحدة، وهذا لا يعني إلا هجمة مضادة، يقوم بها المسلمون ضد هجمة العالم الغربي التي استهدفت عالم المسلمين".
وكانت تلك الهجمة المضادة هي الصرخة الأخيرة للحفاظ على وحدة المسلمين سياسياً وجغرافياً ولتحرير ما احتل من بلادهم، والتي أثارت الغرب وأرعبته كثيراً وخشي معها عودة الروح والتماسك للأمة الإسلامية من جديد، فقد كان السلطان عبد الحميد مؤمن أن فكرة الجامعة الإسلامية فكرة يمكن تحقيقها، وأن هدفها العمل على "تقوية الكيان السياسي والاجتماعي الإسلامي، أفضل من إلقاءه أرضاً، وتكوين كيان غريب فكرياً واجتماعياً على نفس الأرض".
كما يقول (لوثروب): كانت دعوة السلطان عبد الحميد للجامعة الإسلامية بمثابة "استصراخ الأمم الإسلامية في كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي لتمد يد العون إليه وشد أزره بالالتفاف حوله، قاصداً قذف الرعب في روع الدول الغربية التي خالها تتآمر فيما بينها وتتخذ الوسائل للقضاء على المملكة العثمانية"، وقد بلغ أمر هذه الدعوة غايته؛ وهي تكتيل المسلمين وجمع كلمتهم وتهيؤهم للجهاد، حتى كان السلطان يفاوض الدول الكبرى ويساومها، بل ويهددها أحياناً، مُلوّحا بسلاح الجهاد"!
فقد أدرك الغرب ما لم يدركه كثير من المتغربين والمسلمين العاديين، وحتى دعاة العلم والثقافة أن الإسلام في المفهوم السياسي الصحيح يمثل الوطن للمسلم، وذلك ما عبر عنه المستشرق الفرنسي (هانوتو) مستشار وزارة (الاستعمار) الفرنسية بقوله: "إن شعور المسلمين مبهم من حيث الجامعة السياسية أو الرابطة الوطنية فالوطن عندهم هو الإسلام، وهم يقولون: إن السلطة مستمدة من الألوهية فلا يجوز أن يتولاها إلا المسلمين"! إن هذا المفهوم الغربي للإسلام هو الذي دفع الغرب للثورة ضد دعوة السلطان عبد الحميد الثاني للجامعة الإسلامية وعمل على تشويهها. فقد وصفها أحد المستشرقين الفرنسيين: "كانت حركة الجامعة الإسلامية، هي الغول المرعب في ذلك العصر، على نفس الطريقة وفي نفس الزمن الذي انتشر الرعب فيهما من الخطر الأصفر وكانت هذه الكلمة ـ حركة الجامعة الإسلامية ـ نفسها توحي بالتطلع الإسلامي للسيطرة وبأيديولوجيا عدوانية، وبمؤامرة على نطاق عالمي"!