الغرب والإسلام
وحدة الموقف الأوروبي من الحملة (35)
مصطفى إنشاصي
إن أطماع الدول الغربية وخاصة بريطانيا في فلسطين ترجع إلى أيام الحروب الصليبية الأولى لما يمثله موقع فلسطين من أهمية جغرافية واستراتيجية ودينية وعسكرية واقتصادية للسيطرة على المنطقة وفرض هيمنة الحضارة الغربية عليها، وذلك ما عبر عنه كرزون وزير خارجية بريطانيا بتاريخ 29 يونية 1929 عن سبب اهتمام بريطانيا التاريخي بفلسطين قائلا: "أما مصالح بريطانيا التجارية والصناعية في فلسطين، هذه يجب ألا تُحسب بالجنيهات والشلنات والسنتات، وما نظر الإنجليز إلى المسألة من هذا الوجه قط منذ أيام ريتشارد قلب الأسد إلى يومنا هذا، فإن مصلحتنا هنا تقليدية ودينية".
لذلك لم تستطع بريطانيا إخفاء قلقها من سيطرة محمد علي على دول عربية واسعة تتحكم في الممرات البحرية والطرق البرية الإستراتيجية الأمر الذي سينزل أكبر الأضرار بمصالحها خاصة وهي تقع على خط الاتصال بين شرقي البحر المتوسط والهند، وهذا ما عبر عنه أيضاً أحد قناصلة بريطانيا بقوله: "إن القوة السياسية الجديدة التي يشكلها محمد علي مضرة بمصالح انجلترا في الشرق الأدنى وخاصة إذا كانت استقامت في مملكة منسجمة قوامها العروبة هذا الوضع يضطرنا إلى رفع طاقات قواتنا البحرية والزيادة من قدرها كما أنه يعرقل نفوذنا واتصالاتنا ويجرنا إلى صراع لا يجدي مع دويلات أجنبية مجهولة في أوروبا نعاملها كما يحلو لنا مع قوة معترف فيها وتدعمها دول أوروبية".
فقد كانت بريطانيا بعد حملة نابليون على مصر والشام قد بدأت "سياسة جديدة تدعو إلى المحافظة على الدولة العثمانية لتقف حاجزاً في وجه الدول الأوروبية الأخرى ذات الأطماع الاستعمارية في المنطقة، ولهذا نظرت إلى محمد علي الكبير في مصر بقلق بالغ خاصة بعد أن اجتاحت جيوشه سوريا وفي طريقها إلى الآستانة.. ولذلك سارعت بريطانيا إلى احتلال عدن فموقعها يساعد على التحكم في طريقة الملاحة البحرية المؤدي إلى الخليج العربي والهند.
وقد شكلت الدول الأوروبية الغربية تحالفاً ضد محمد علي، وقفت فيه موقف شبه موحد من الحملة وظهرت وكأنها حريصة على مصالح دولة الخلافة ووحدتها؛ وأجمعوا على انسحاب قوات محمد علي من الأراضي التي احتلتها جيوشه، وأجبرته بالقوة والإكراه على توقيع معاهدة لندن في عام 1840م "التي تنص على إعادة جميع الممتلكات التي استولى عليها محمد علي إلى السلطان ما عدا مصر". وفي حال صدام حسين أضيف إلى الانسحاب دفع تكاليف الحرب، وتعويضات لكل من تضرر من هذه الحرب من قريب أو بعيد.
وعندما رفض محمد علي ما اتفقت عليه الدول الأوروبية في مؤتمر لندن لم يعد أمام تلك الدول التي زاد توترها وقلقها من رفضه إلا أن تدخلت عسكرياً وأجبرته على توقيع اتفاقية بذلك في 27 نوفمبر 1840م، فرضت عليه جلاء قواته من سوريا وفلسطين والعودة إلى مصر مع وتأمين حقوق ورثته في حكم مصر.

اتفاق الغرب على زرع اليهود في فلسطين
ولم يكن ذلك الموقف من الدول الغربية حرصاً منها على وحدة دولة الخلافة ولا عداء لمحمد علي ولكن حرصاً على مصالح أوروبا وأطماعها في وطننا التي لن تستطيع تحقيقها إلا إذا أبقت على دولة الخلافة ضعيفة، ولا يوجد وحدة حقيقة بين مصر وبلاد الشام بالذات، لإن الدرس الذي تعلمه الغرب الصليبي من حروبه الصليبية الأولى ضد المسلمين هو منع قيام أي وحدة بين مصر وسوريا، وذلك الذي كرست جهودها في حروبها الصليبية الحديثة لتحقيقه وتكللت تلك الجهود بزرع (إسرائيل) في قلب الوطن الإسلامي، وعلى الجسر الأرضي الذي يربط بين شرقي الوطن وغربه، والآن فقد أصبح حفظ أمن العدو الصهيوني ودمجه في نسيج المنطقة الاجتماعي هو الاعتبار السياسي الأول للغرب في وطننا.
إن تحدي محمد علي للباب العالي أضاف بعداً جديداً للمسألة الشرقية، وهيأ للدول الأوروبية فرصة للتدخل المباشر وغير المباشر في منطقة مضطربة سياسياً لكنها استراتيجياً وتجارياً مثالية للاستغلال، وشكلت شبه إجماع أوروبي على ضرورة إقامة دولة يهودية في فلسطين كما ذكرت "التايمز اللندنية" في مقال عنوانه "سوريا-إرجاع اليهود" عام 1838: "لم يعد اقتراح وضع الشعب اليهودي في أرض آباءه بحماية الدول الخمس مجرد فكرة بل اعتباراً سياسياً جاداً".
لقد أضافت حملة محمد علي على بلاد الشام عبأ جديداً على الباب العالي، وأضافت بعداً جديداً للمسألة الشرقية، وهيأت للدول الأوروبية فرصة نادرة للتدخل المباشر وغير المباشر في وطننا، الذي أصبح يعاني في نظر الغرب حالة اضطراب سياسي يهدد استقرار الأوضاع في الدولة الإسلامية العثمانية.
منذ ذلك التاريخ بدأت حساسية الغرب تزداد من وجود نظام سياسي عربي أو إسلامي أو أي قوة في المنطقة، وكلما ازدادت أهمية المنطقة للغرب كلما ازدادت حساسيتها ورغبتها في تدمير وتحطيم القوة السياسية في المنطقة. ولم يكن في ذلك الوقت غير الدولة الإسلامية العثمانية قوة تحول دون سيطرة الغرب على وطننا، ولم يشأ الغرب أن يكشف عن حقيقة أهدافه ضد وطننا وأمتنا وثرواتها، ونظامها السياسي بالتحديد، حتى لا يثيروا مشاعر الغضب والعداء من شعوب الأمة ضدهم، لذلك استخدموا مصطلح "المسألة الشرقية" بعد الحملة الفرنسية، للدلالة على الصراع بين الدول الأوروبية الطامعة في احتلال وطننا وبين الدولة الإسلامية العثمانية. وكان هذا المصطلح يرمز إلى ما كان يعتبره الغرب احتلالاً إسلامياً لأجزاء من أوروبا، يجب على الغرب، أن يدعم شعوبها لتثور ضده مطالبة بالاستقلال والانفصال عن الدولة الإسلامية العثمانية، لإضعاف القوة الإسلامية العثمانية في أوروبا. لأنه بعد استقلال آخر الولايات العثمانية الأوروبية بعد حرب البلقان عام 1913م، أُستبدل المصطلح بمصطلح جديد يدل على ضرورة فصل الولايات العربية العثمانية عن الخلافة الإسلامية تمهيداً للقضاء على النظام السياسي الإسلامي، وقد تم له ذلك عام 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك. وقد كان المصطلح الجديد هو (الشرق الأوسط)، الذي شاع استعماله في الإعلام الغربي منذ بداية القرن الماضي.