الغرب والإسلامدروس الماضي واقع الحاضر (9)مصطفى إنشاصيمن واقع الصراع والمعارك العسكرية كراً وفراً، انتصاراً وهزيمة، ومن واقع العلاقات الاجتماعية التي فرضتها ظروف الواقع بين طرفي الصراع، والتعاملات التي لا بد منها، وما أحدثته من تغيير في أسلوب وسلوك بعض القادة الصليبيين بشكل إيجابي، وما كان سبباً في إسلام أعداداً كبيرة من الجنود و...، سوف نقف مع أهم الدروس التي استقاها الطرفان، وخاصة التي لها علاقة بواقع وحاضر الأمة اليوم:الدرس الأول: الوحدة الإسلامية أول خطوت التحرير والنصرفي الوقت الذي أدرك فيه الصليبيون أن أهم أسباب نجاحهم في البداية كان بفضل فرقة المسلمين واختلافهم. وأن أخطر ما يهدد وجودهم خاصة في بيت المقدس هو وحدة الجبهة الإسلامية، أصبحوا يفكروا في بقاء المسلمين متفرقين وقتال كل منهم على حدى، الأمر نفسه وصل ‘ليه المسلمون، فقد أثبتت التجربة أن أهم أسباب فشلهم هو افتقارهم إلى الوحدة والترابط وخاصة بين مصر وبلاد الشام. ولم تخلُ تلك الفترة المظلمة من بعض التحالفات التي أكدت أهمية وحدة الجبهة الإسلامية للقضاء على الوجود الصليبي في وطننا، وكان أهمها ذلك التحالف الذي تم بين الفاطميين أيام الوزير الأفضل وإمارة دمشق أيام طغتكين "وهكذا تمت المعجزة فتحالف الدماشقة السنيون مع الفاطميين الشيعة ضد الصليبيين مما أنذر بتهديد مملكة بيت المقدس تهديداً خطيرا".كما أنه كانت تحدث كثير من التحالفات بين بعض إمارات الشام والعراق مما كان يشكل خطراً كبيراً على الوجود الصليبي هناك، وخاصة تحالف الموصل وحلب، لأن وحدتهما تفصل إمارة الرها الصليبية عن بقية الإمارات الصليبية الأخرى في بلاد الشام، وكان كلما وحدت الجبهة الإسلامية قوتها كلما اشتد الخطر على الوجود الصليبي، وذلك لما تشكله تلك الوحدة من قوة للمسلمين ضد الصليبيين، الذين كانوا يستغلون تلك الفرقة والخلافات بين المسلمين في تثبيت وجودهم في الأراضي الإسلامية.وظل حال المسلمين بين التحالف والاختلاف وظلت المشاعر الإسلامية تنمو وتزداد نحو الوحدة وترنو الأبصار إلى رجل يستطيع أن يوحد القوى الإسلامية المتصارعة فيما بينها، ويوجه خلافاتها ضد أعدائها ويعيد إليها التوازن النفسي. ظلت تزداد هذه المشاعر وتتفاعل ذاتياً وواقعياً إلى أن قدر الله أن تتحقق في وقت ظن فيه الغرب الصليبي وأصحاب القلوب المريضة والنفوس الضعيفة من المسلمين أن الوجود الغربي أقوى من أن تقتلعه من وطننا أي قوة. وظنوا أن بيت المقدس قد ضاع وإلى الأبد، إلا أنه من بين حجب الظلام بدأت تلوح في الأفق بشائر النور والنصر، وتبزغ شمس الوحدة على يد عماد الدين زنكي، الذي بدأ مشروعه لتوحيد الجبهة الإسلامية من إمارته بالموصل، رافعاً راية الجهاد لطرد الصليبيين من ديار الإسلام واقتلاع شوكتهم من قلب أمتنا والوطن.أقام عماد الدين زنكي الدولة الزنكية على أنقاض دولة السلاجقة المنهارة، وقد جمع زنكي بين الدهاء السياسي والتفوق العسكري، فكان بحق الرائد الأول للوحدة الإسلامية في مواجهة الصليبيين. "وقد اتبع عماد الدين زنكي لتحقيق غرضه في الوحدة خطوات سياسية وعسكرية منظمة جعلته المسئول الأول عن مرحلة جديدة في الجهاد ضد الصليبيين، تميزت بالتنظيم الذي يعتمد رؤية إستراتيجية شاملة، بعد أن كان الأمراء المحليون في الفترة السابقة يقاتلون أعدائهم ارتجالاً ودونما تخطيط شامل مدروس إلا القليل النادر". وقد كان زنكي مدركا لأهمية توحيد الجبهة الإسلامية في بلاد الشام أولاً. لذلك ما أن لاحت الفرصة له لضم حلب إلى الموصل حتى نفذ خطوته هذه دون إهمال الوقت، فتقدم إليها مستغلاً اضطراب الأوضاع فيما بعد وفاة الأتابك عز الدين مسعود بن البرسقي في نفس الوقت الذي أرد فيه أمير الرها الصليبي السيطرة عليها، ولكن زنكي كان أسرع منه "فدخلها في 18/ يونيه 1128م. حيث استقبله أهل حلب استقبالاً رائعاً وأظهروا من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى... ولولا أن الله تعالى مَنَّ على المسلمين بولاية الشهيد زنكي لكان الفرنج قد استولوا على بلاد الشام جميعه".وكان انضمام حلب أولى الخطوات نحو تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى. فقد كانت تمثل أهم مدينة في الجهات الشمالية من بلاد الشام، وذلك لحصانتها وإمكاناتها الاقتصادية وكذلك موقعها الاستراتيجي على خطوط المواصلات بين بلاد فارس والعراق من جهة، وبين الشام وآسيا الصغرى من جهة أخرى.وبعد حلب توجهت أنظار زنكي إلى حصن "بارين" الذي كان يشكل خطورة كبرى على المسلمين بسبب طبيعة أهل الحصن القائمة على نهب البلاد المجاورة وقطع الطريق، وتم لزنكي ما أراد سنة 534هـ، وفي هذه السنة استولى زنكي أيضاً على المعرة وكفر طاب. بعد أن وحد زنكي الموصل وحلب تحت قيادته تقدم إلى "الرها" إحدى الإمارات الصليبية التي قامت في قلب الوطن الإسلامي مستغلاً موت أميرها القوي "جوسلين دي كورتناي" واستعادها من قبضة الصليبيين وتم له توحيد الموصل مع حلب. فقد كان الاستيلاء على الرها نصراً عظيماً للمسلمين وفاجعة وضربة عسكرية ساحقة للصليبيين. وشكلت نقطة تحول في قتال الصليبيين وهكذا قد "اشتد أزر المسلمين بعماد زنكي لتوحيد المسلمين وضعفت قوة الكافرين وعلموا أن البلاد جاءها ما لم يكن في حساب وصار قصارهم حفظ ما في أيديهم بعد أن كانوا طمعوا في ملك الجميع".وقد كانت خطوة زنكي هذه نحو الوحدة هي بداية النهاية للوجود الصليبي في وطننا، وقد أدرك الغرب هذه الحقيقة، كما أدركها زنكي وآمن بها، لذلك بدأ ينتقل في حركات سريعة هنا وهناك لتوحيد الجبهة الإسلامية في بلاد الشام قبل أن يواجه الصليبيين المواجهة الفاصلة.وقد كان للانتصارات العظيمة التي حققها زنكي أثر عظيم على رفع الروح المعنوية عند المسلمين وتحول كفة الصراع لصالحهم. وقد مهد زنكي لمن جاء بعده من القادة العظام الطريق إلى النصر الحاسم والنهائي على الصليبيين، ولم يكتب الله لزنكي من العمر حتى يحقق ما أراد فقد أكرمه الله بالشهادة في الليلة الخامسة من شهر ربيع الآخر سنة 541هـ حيث غدر به أحد غلمانه وقتله وهو يحاصر قلعة جعبر في بلاد الشام.وقد وصف ابن كثير في "البداية والنهاية" زنكي فقال: "وقد كان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلاً. وكان شجاعاً مقداماً وحازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة وأرفقهم بالعامة".وبعد استشهاده تولى القيادة ابنه نور الدين محمود وجمع من الصفات ما تؤهله لقيادة الأمة الإسلامية، ولم يدخر جهدا في إكمال المشوار الذي بدأه أبوه عماد الدين زنكي، وقد ركز اهتمامه على الأعمال العسكرية.