الغرب والإسلاممحمود نور الدين وصلاح الدين يكملان خطة الوحدة (10)مصطفى إنشاصيبعد استشهاد محمود زنكي تولى القيادة ابنه نور الدين محمود وجمع من الصفات ما تؤهله لقيادة الأمة الإسلامية، ولم يدخر جهدا في إكمال المشوار الذي بدأه أبوه عماد الدين زنكي، وقد ركز اهتمامه على الأعمال العسكرية فبدأ أول خطواته العسكرية لإكمال توحيد الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين بحصار دمشق عام 546هـ، وأمام إصراره على فتحها وافق حاكمها مجير الدين أبق على الدخول في طاعته مقابل أن يبقيه نور الدين حاكماً عليها. لكنه غدر بنور الدين بمد يد العون للصليبيين وسمح لهم بدخول دمشق، فعاد إليها نور الدين عام 549هـ واستولى عليها محققاً بذلك خطوة عسكرية مهمة في جهاده ضد الصليبيين. وبضمه دمشق إلى الجبهة الإسلامية ازدادت قوة المسلمين فإمارة دمشق تمتد حدودها جنوباً لتتاخم حدود بيت المقدس أهم إمارة صليبية، وهكذا أصبح وجهاً لوجه أمام أكبر إمارة صليبية ثم قام بضم بعض الحصون والإمارات الأخرى وحقق الوحدة الأرضية لمملكته من دجلة حتى نهر العاص في الشام. وقام بضم بعض الحصون والإمارات الأخرى وحقق الوحدة الأرضية لمملكته من دجلة حتى نهر العاص في الشام.بعد ذلك كان لا بد لنور الدين أن يخطو الخطوة التالية التي لا تقل أهمية عن وحدة بلاد الشام والعراق وهي ضم مصر إلى الجبهة الإسلامية، لتحقيق الوحدة الكبرى بين مصر والشام والعراق، ولم يكن الأمر سهلاً خاصة وأن الصليبيين يدركون خطورة ذلك، وسرعان ما واتته الفرصة وتم ضمها عندما طلب الحاكم الفاطمي منه المساعدة على ضبط أوضاع بلاده السياسية، فأرسل إليه قائده أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي "وقد استطاعا إصلاح أوضاع الدولة هناك، وبعد موت الحاكم الفاطمي استطاع أسد الدين شيركوه تولي الحكم في مصر سنة 564هـ. وقد خلفه بعد وفاته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي "وكان لسقوط مصر في دولة نور الدين دوي بعيد لا في مملكة بيت المقدس فحسب، بل في الغرب الأوروبي كله".بعد وحدة مصر مع الشام والعراق تحققت وحدة الجبهة الإسلامية تحت قيادة واحدة، وبدأ يتطلع نور الدين لتحقيق الهدف الأكبر وهو تحرير بيت المقدس، لكن سرعان ما وافته المنية في يوم الأربعاء11 شوال 569ه"وقد كان لموته رجة في عالم الإسلام كله فوجم أهل الشام والجزيرة ومصر جميعاً، وخرج الرجال والنساء في دمشق يشيعون جثمان البطل العظيم".وبعد موت السلطان نور الدين وقعت المسئولية كلها على كاهل صلاح الدين الأيوبي الذي كان عليه أن يكمل رحلة الجهاد الشاقة التي بدأها عماد الدين وابنه نور الدين، وكان عليه أن يوحد بلاد الشام ومصر، ويقضي على الفتن والصراعات الداخلية التي يفجرها الطامعون في السلطة، ويشكل جبهة إسلامية واحدة تستطيع أن تقف في وجه القوى الصليبية والقضاء عليها، لذلك كان عليه أن يقضي على قوة الأمراء الرافضين للوحدة وإصلاح أوضاع المسلمين ونفوسهم والإعداد للمعركة الفاصلة مع الصليبيين.لقد عاصر صلاح الدين أجيالاً متعددة المواهب فنهل منها ما جعله قائداً فريداً في تاريخ الإسلام. فقد اقتبس عن نور الدين إيمانه وسياساته وبعد نظره، وعن عمه أسد الدين شيركوه الشجاعة والإقدام وفنون الحرب العسكرية، وقد أضفى على ذلك كله من مواهبه الشخصية وخبراته الذاتية وصفاته التي تفرد بها مما جعله أعظم شخصيات زمانه في الشرق والغرب على السواء.كانت أولى خطوات صلاح الدين إعادة توحيد الجبهة الإسلامية، وجمع كلمة المسلمين بعد حالة الفرقة التي أعقبت وفاة نور الدين، حيث كانت الأوضاع قد نضجت وتهيأت للوحدة والتجارب قد أثبتت أهميتها وضرورتها لمواجهة الصليبيين أكثر من أي وقت مضى. فكان على صلاح الدين الذي "كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا من يذكره ويحث عليه".لذلك كان عليه أن ينهض داعياً كل القوة الإسلامية إلى الوحدة ونبذ الشقاق، وهذا ما كان منه عندما خرج من مصر إلى الشام ساعياً لتحقيق الوحدة الإسلامية، فأعلن "إنا لا نؤثر للإسلام وأهله إلا ما جمع شملهم وألف كلمتهم". وقد استجاب له الكثير من الأمراء فاستقبل في دمشق استقبالاً طيباً، وانضم له بعض الأمراء طواعية، ورفض بعضهم وخاصة إمارة حلب. وقد حاول الصليبيون إفشال هذه الوحدة بين مصر والشام والقضاء عليها، إدراكاَ منهم لخطورتها على وجودهم في وطننا "لذلك أسرع ريموند الثالث إلى نجدة حلب، كما يقول المؤرخ الصليبي وليم الصوري، وإنما ليسد الطريق في وجه صلاح الدين ويحول دون قيام وحدة إسلامية في الشرق الأدنى".وقد فشلت كل محاولات الصليبيين منع قيام وحدة بين مصر وبلاد الشام واستطاع صلاح الدين بفضل الله تعالى أن يحقق لأشلاء هذا الوطن وحدته التي امتدت من برقة غرباً إلى الفرات شمالاً، ومن الموصل شمالاً إلى النوبة جنوباً، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الصراع ضد الوجود الصليبي الغربي في وطننا، وهي الهجوم على الصليبيين وتخليص بيت المقدس، "إن مفتاح شخصية هذا القائد أنه كان مسلماً صادق الإسلام، والمسلم الحقيقي لا يطيق احتلال الصليبيين لبيت المقدس وتدنيس أولى القبلتين وثالث الحرمين".وبعد ذلك كانت حطين عام 583هـ، وحلت الهزيمة النكراء بالصليبيين التي فتحت الطريق أمام المسلمين لتحرير بيت المقدس، "وقد أجمع المؤرخون على أن حطين كانت مقدمة لفتح بيت المقدس لأن الصليبيين فقدوا فيها خيرة فرسانهم، ولم يكن لديهم العدد الكافي لمجابهة صلاح الدين، الذي قام بعمل حاسم لفتح بيت المقدس في تلك السنة أيضا".يقول الدكتور جمال الشيال: "ولم يكن صلاح الدين يستطيع القضاء على مملكة بيت المقدس إذ كان حاكماً لمصر وحدها، أو حاكماً لسوريا وحدها، وإنما نجح في القضاء عليها عندما دخل المعركة كحاكم واحد لدولة واحدة، وكقائد واحد لجيش واحد يرفرف عليه علم واحد". وهكذا استطاع المسلمون بقيادة صلاح الدين تحرير فلسطين بعد ضياعها ما يقارب المائة عام (1099-1187)، وكان ذلك تأكيداً على أن الإسلام، والإسلام وحده، هو الذي يمكنه الحفاظ على فلسطين وعلى وحدة المسلمين، وأن الدعوات الإقليمية والعرقية والقومية والتبعية لغير الله ولرسوله وموالاة أعداءه هو الذي يضيع فلسطين وبيت المقدس وغيرهما من أراضي المسلمين. وأن معيار قوة المسلمين أو ضعفهم هو مدى احتفاظهم بفلسطين والقدس خاصة.يقول الشيخ أسعد بيوض التميمي: إنه "من بركة هذه الأرض أنه حينما يبتعد المسلمون عن محور عزهم ومركز قوتهم، وهو الإسلام ويتمزقون وتكثر دولهم ودويلاتهم فيسهل على العدو أن يتسرب من خلالهم فيأخذ الأرض المباركة ويأخذ المسجد الأقصى وعندما يتحرك المسلمون حركة حياة من جديد وينفضون غبار الهزيمة في استخلاص هذه الأرض فعن طريق استخلاصها يتم توحيد الأمة.ولذلك لن يصل أحد إلى حل مع اليهود وأعوانهم حتى يأتي أمر الله ويتوحد المسلمون ويعود الإسلام محركاً للحياة في ديار الإسلام وفي العالم كله.وقد ظهرت بركة هذه الأرض في الحروب الصليبية إذ بعد أن أخذها الصليبيون وظنوا أن الأمر قد استقر لهم كانت حروبهم سبباً في توحيد المسلمين من جديد. فكان نور الدين زنكي الذي وحد الأجزاء المتبعثرة وأخذ الراية صلاح الدين، فكانت حطين النصر المبين وكانت المعركة القدس فيما بعد ودخلها رحمه الله فأعاد الأمن والأمان إليها وعاد مسجدها إلى قدسيته وطهره".والآن نعرض لأهم دروس الحروب الصليبية وهو ما أكدته أحداث الصراع العسكري من أهمية كبرى لموقع فلسطين الجغرافي والاستراتيجي لكل من المسلمين والصليبيين في إحكام قبضتهم على المنطقة.