هنالك مفهوم عبقري تطرّق له القرآن الكريم عدّة مرات، ولكنه للأسف لم يأخذ حقه.. ولا يتم الحديث عنه بشكلٍ كافٍ، ألا وهو مفهوم السبيل.. طبعاً السبيل لغة هو الطريق.. لكن ما قصده القرآن أعمق قليلاً من ذلك.. وللتوضيح سنضرب المثال التالي..

أنت تعيش في القاهرة، وقررت الذهاب بسيارتك إلى الاسكندرية.. هنا أنت أمام خيارين.. الذهاب عبر الطريق الصحراوي، أو الطريق الزراعي.. كلاهما يؤديان إلى الاسكندرية، لكن في كل منهما هنالك استراحات مختلفة ومحطات وقود مختلفة ومساجد مختلفة وبشر مختلفون.. وتفرعات مختلفة لمدن وقرى أخرى بما في ذلك مداخل اسكندرية نفسها.. فهما إذن سبيلان مختلفان تماماً.. فيكون السبيل هنا ليس الطريق فقط.. بل الطريق وما يحتويه وما يحتمله..

ولفهم فكرة السبيل في حياة الإنسان الغنيّة بالسبل، نعود للقرآن الكريم وقصة سيدنا موسى في سورة القصص " وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ" هنا يدعي النبي موسى ربّه وهو يقترب من بلدة مدين أن يهديه سواء السبيل.. فكيف يستجاب الدعاء؟ تقود موسى خطواته نحو ماء مدين.. لم يذهب للسوق مثلا، ولا ناحية المزارع.. بل ذهب نحو مصدر المياه (بئر أو نبع) وهنالك يلتقي ابنتي الرجل الصالح، والقصة المعروفة التي انتهت بزواجه من إحداهما..

فالله عزّ وجلّ هنا هو من هيأ هذا السبيل لسيدنا موسى، هيأ له دخول البلدة من مكان معيّن في توقيت معيّن صادف وجود الفتاتين، فتحوّل مسار حياته في تلك اللحظة.. وهذا كلّه بترتيبات ربّانية غير ظاهرة.. لم يرها موسى، ولم يجبر عليها.. بل اختارها طواعية..

في حياتنا نحن أيضاً، هنالك احتمال لآلاف السبل.. كل يوم يحمل آلاف المسارات الحبلى بالاحتمالات والتي بإمكانها تغيير مسار حياتك نحو الأفضل أو الأسوأ، وبدون المساس بإرادتك الحرَة.. قدمت أوراقك لعشرين وظيفة، لكن شركة معينة تواصلت معك، والعمل في مدينة أخرى، وافقت.. تغير مسارك.. تزوجت هذه الفتاة دوناً عن غيرها، أصبح أهلها أنسباءك، تغير مسارك..

طبعاً هنا قد يجادل البعض أنّ هذه المسارات (السبل) عشوائية وغير محدودة ونتيجة حتمية للعدد الهائل من المتغيرات المرتبطة بها.. ونصف هذا الكلام صحيح.. هي تبدو عشوائية فعلاً لكن الله عزّ وجلّ بطريقته وبدون المساس بإرادتك الحرَة يوجهك نحو أحدها بالتحديد.. ما الدليل؟

قوله تعالى.. "ولا تقربوا الزنى، إنه كان فاحشة وساء سبيلا".. لا يكتفي الله عزّ وجلّ هنا بوصف الزنا فالفاحشة والعمل المشين.. لكنه يستطرد أنّه ساء سبيلا.. أي أنّه ليس خطيئة منقطعة ومعزولة، بل إن ارتكابها سيقودك نحو سبل سيئة وبدون وعي منّك وبإرادتك واختيارك..

يعضد ذلك أيضاً ما قاله تعالى في آيتي سورة الليل" فسنيسره لليسرى" و "فسنيسره للعسرى".. أي أنّه بحسب ما في نفسك، ستفتح وتغلق أمامك السبل.. سبل رائعة تقودك إلى الجنة.. وسبل سيئة تقودك إلى جهنّم.. وكلّه بإرادتك الحرّة واختيارك..

الموضوع شائك ربّما.. وملغز وخطير.. ولكنه حقيقي.. أنت مخيّر في كلّ شيء.. وليس لأحد عليكِ من سلطة.. لكن يتم استدراجك بحسب نواياك.. يتم توجيهك نحو السبيل الذي يناسبك.. ليزيد المحسن إحساناً ويزيد المسىء إساءة..

كيف النجاة إذن؟ وكيف يضمن الإنسان أنّه يمشي في سبيل يرضي الله عزّ وجلّ؟ بمجاهدة الذات!! ومصداق ذلك قوله تعالى في أواخر العنكبوت "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"..

باختصار، كما في قصة الاسكندرية والقاهرة.. الطريقان قادا إلى الاسكندرية.. لكنهما سبيلان مختلفان.. وكذلك كلّ السبل تقود البشر من الحياة نحو الموت.. لكن إلى أي منها ستقودنا الخطوات؟ وماذا سنلاقي في ذلك السبيل؟ هذا هو السؤال..

هذا كل ما أردت قوله وعسى ربي أن يهدينا سواء السبيل..
ديك الجن