حوار علمي..
تفسير الأحلام بين النبي يوسف وسيغموند فرويد

استغرب بعضهم قولي إن قصة يوسف واقعية تماماً وليس فيها معجزات، وقالوا إنها قائمة على تفسير منام وهذا معجزة..
وجوابي: تفسير الأحلام علم، ولا هو معجزة ولا ما يحزنون... ويوسف عليه السلام هو أبو التحليل النفسي ... وهذه مقالة لي نشرت طرفاً منها من قبل:
تفسير الأحلام بين النبي يوسف وسيغموند فرويد
..................
تقابل كلمة تفسير الأحلام بقدر غير قليل من التسخيف واللامبالاة، خاصة حين يتخذ التفسير سلوكاً عجائبياً يقفز فوق العقل والمنطق، أو يعتمد على القدرات السحرية للمفسرين، كما تقدمها قنوات متخصصة باتت شغل من لا شغل له.
قناعتي أن سورة يوسف تقدم موقفاً متقدماً في تفسير الأحلام قائما على التحليل النفسي للفكر اللاواعي وهو كما قال كارل يونغ: أن الفكر اللاواعي قد يكون في بعض الأحيان قادرًا على الإعراب عن ذكاء وإرادة أرفع بكثير من طاقتنا الواعية والمعتمَدة في مواجهة الأمور، ويشرح فرويد بعمق الطبيعة الاحتيالية لممارسات الإنسان المشوِّشة للتحليل النفسي، فنحن لا نعرف من الإنسان حقيقة إلا ما تشاهده العين من جبل الثلج، إنه يبدو قماطاً أبيض فحسب، ولكن علينا أن ننتظر حتى يذوب الثلح ويظهر المرج ونفهم كم كان وراء الصورة البيضاء الخداعة من ألوان وتفاصيل مغمورة بالثلج.
وفي تعبير آخر يقول فرويد إننا نعرف من الإنسان ما يريدنا أن نعرفه، إننا نعرف من الناس ما نعرفه عن الممثلين الذين يظهرون على خشبة المسرح ويقدمون للمشاهد الصورة التي يرغبون وهي صورة احتيالية قد تكون غاية في التناقض عن الصورة الحقيقية للمثل في حياته العامة والشخصية، ولا شك ان التحليل النفسي بهذه المعطيات الساذجة لن يقدم معرفة حقيقية.
وما بين الدادائية والسوريالية يعبر الفرد ادلر عن الأحلام بأنها نضال لتحقيق الرّفعة والكمال والوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، وقد اختار لها تعبير (النّضال نحو الرفعة).
وفي تعبير أشد ملامسة يشرح إريك فروم جدلية العلاقة بين الأحلام والقلق المكتوم بقوله إن الاحلام تقوم بعمليات ذهنية أرقى من أفعال الذهن المستيقظ، وقد تكون تعبيرًا عن الوظائف الذهنية في أدنى درجاتها وأشدها لا عقلانية، ويؤكد فروم أن الوعي يستخرج المعرفة المتاحة، أما اللاوعي فإنه يستخرج الخبرات المركومة.
ويختار فرويد أن السبيل الأكثر علمية لفهم الإنسان هو دراسته في اللاشعور الباطن ويقدم سلسلة من الوسائل للوصول الى العقل الباطن أهمها الأحلام والتداعي الحر وزلات اللسان عند الغضب الانفعالي.
وفي الاحلام بالذات ينطلق المعبرون والمفسرون من سؤال افتراضي بدهي وهو ماذا رأيت؟ ولكن فرويد ينطلق من سؤال آخر وهو لماذا رايت؟ إن سؤال ماذا رأيت هو سؤال غبي يقوم بتوحيد المشاهدات في تصنيف ديوي أصم، ويؤدي إلى صيدلية بلهاء تقدم دواء واحداً لكل أشكال المرض! وينتج أحكاماً متطابقة بغض النظر عن الرائي والأسباب النفسية للمشاهدات التي شاهدها.
يطرح القرآن الكريم حالة النبي يوسف كمحلل نفسي من طراز رفيع يتعامل مع المسائل بروح علمية مختلفة تماماً، وفي نظري فهو أوضح صور الانتقال من السؤال الأبله ماذا رأى؟ إلى السؤال البصير لماذا رأى؟
لقد قام يوسف بدراسة هذا التصريح حين قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون، وكان جواب المستشارين سلبياً واحتياطياً، فقالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
أما يوسف فقد نظر إلى الأمر من دائرة عميقة في التحليل النفسي فهو أعرف الناس بالبلاط الملكي في مصر، وأعرف الناس بمعاناة الملك الذي يتقدم دوماً على المنصات الملكية أمام الجمهور بوصفه إلهاً قادراً على فعل كل شيء ويعلن على الملأ أنا ربكم الأعلى! وهو يبدئ ويعيد ويحيي ويميت وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا عنده به علم مبين.
ولكن هذه الصورة الفرعونية الطافحة بالغرور تقدم تحليلاً مضلّلاً للذين يدرسون طبيعة الإنسان، ويوسف الذي يعرف البلاط جيداً ويعرف ما كان فيه من فساد وفي خزائنه من نهب وسرقات كان يدرك تماما أن هذا الملك الهائل يعيش في جوفه رعباً آخر، فهو يدرك أن خزائه خاوية قد أفقرتها السرقات والفساد وتناهب النسوة في المدينة، وقصص الغرام والمكر الذي تمارسه سيدات القصر، وكان يدرك ان الملك عاجز عن رفع مرتبات شهرين قادمين، وأنه على وشك إعلان الإفلاس، وأن صورته الملكية المكللة بالذهب صورة غرور طافح وأنه على وشك الانهيار اقتصادياً واجتماعياً ما لم يقم بتغييرات ثورية في النظام الاقتصادي للملكة ويوقف بذخ القصور وفساد البلاط.
هكذا فهم يوسف النبي الصديق رؤيا الملك، وحين كان يستمع إلى الراوي لم يكن معنياً بسؤال ماذا رأى الملك، وإنما كان سؤاله العميق لماذا راى الملك هذا؟
حين أطرق يوسف في تفسيره لرؤيا الملك كان يدرك تماماً أنها رؤيا ذعر ورعب، وأن الملك مقدم على كارثة حقيقية، وأن عليه أن يضع خطة طريق اقتصادية لخلاص مصر، ولم يكن جوابه بالطبع تفسيراً للحلم الأبله، بل كان مواجهة مباشرة مع الكارثة الاقتصادية الماحقة القادمة على مصر، التي حاول الملك أن يكتمها على منصاته الخطابية ولكنها تسللت من شعوره اللاواعي عبر الحلم المرعب الذي عقد لتفسيره وتأويله مجالس المستشارين في الداخل والخارج.
كانت خطة يوسف تتضمن تحولات ثورية في نظام الإنفاق ووقف البذخ الملكي ومراقبة البلاط بروح محاسبية صارمة، وعلى الفور رسم خطته: تزرعون سبع سنين دأباً، فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تحصنون، ومعنى ذلك وقف كل الامتيازات التي كان يختص بها البلاط ووقف أنهار المال المتدفق في جيوب المرتشين والسماسرة في البذخ الملكي، وبالتالي الاستعداد للسنوات العجاف سبع سنين أخرى وبعد ذلك يأتي عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
وفي جانب آخر كان يوسف يدرك أن الإصلاح الاقتصادي لا تكفيه خطة حكيمة بل لا بد له من إدارة حازمة صارمة تواجه الدولة العميقة التي كانت تقود عمليات الفساد وتتربح منها، وقد قدم ذلك بوضوح في الخطوة التالية عندما قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم!
كان تأويل الرؤيا مدهشاً بالنسبة للملك الذي فوجئ برجل يعلم كل خفايا الكارثة المكتومة، ويعلم تماماً طبيعة الصراع الداخلي في نفس الملك بين الوعي المنشور واللاوعي المحظور، ويدرك تماماً وبدقة لماذا رأى الملك هذا، وكان هذا الدهش من القوة بحيث دفع الملك لالتماس هذه المعرفة العميقة من يوسف، وتلبية شروطه السيادية كاملة، ومن ثم وضع خزائن الأرض بيد يديه....
وفي إشارة مدهشة وعميقة لفهم تلك التحولات العميقة التي وقعت في البلاط الملكي في مصر عبر رؤيا منام، جاءت الآيات الكريمة: وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.