رؤية درامية عميقة غير غريبة على أستاذنا الدكتور يوسف حطيني

لا أتابع كثيراً من مسلسلات رمضان التي تحتاج تفرغاً كاملاً، ولكنني رأيت خمس حلقات من مسلسل الزند ـ ذئب العاصي"، ثم توقفت، لهبوط حاد ومفاجئ على مستوى الرؤية والمعالجة، وتابعت مسلسل "مقابلة مع السيد آدم" الذي سأتوقف عن مشاهدته بعد أن اشتقت للبطل الذي لا أراه إلى لماماً، بالإضافة إلى مسلسل "فرسان الظلام ـ ليل الذئاب" الذي ما زلت أتابعه؛ لأنه مسلسل مريح للأعصاب، ولا يثير التوتّر في النفس، فهو فانتازيا تاريخية تنتمي إلى بيئة شبه جاهلية، وإن تخللها في بعض الأحيان، أساليب لغوية إسلامية تنطق بها الشخصيات.
إذن، ما زلت أتابع مسلسل "فرسان الظلام"، ولكنّ في نفسي كثيراً من الحزن، ليس بسبب هبوط في المستوى، بل بسبب إعراض الإنتاج العربي، إلا ما ندر، عن القضايا التي ترفع مستوى الوعي لدى الإنسان العربي:
المسلسل الذي كتبه الأستاذ هاني السعدي وأخرجه الأستاذ سامي الجنادي فيه الكثير من الإتقان الدرامي، والحبكة التي تسير دون تعثّر إلى أزماتها المتصاعدة، بفعل أحداث لا تفتقر إلى التشويق، ولا تنقصها السببية التي تجعل المواقف والوقائع مقبولة ومسوّغة، والرؤية الفنية التي تحكم العمل واعية لأدق تفاصيل المَشاهد، والتأثيث البصري حاضر بقوة والإقناع في المشاهد الداخلية والخارجية، وفي إدارة المعارك وتصويرها، وقد يصل الأمر إلى مبالغة تظهر من خلال رقصات عصابة أبي الدهماء، وإن كان رمز الاحتفال بالموت ليس غريباً على ثقافتنا.
وما يزيد المشهد البصري إبهاراً تفاصيل الديكور التي تختلف بين بيوت الفقراء والأثرياء، على مستوى البناء الخارجي، والأغطية والستائر والشموع، وعلى مستوى عدّة شخصيىة الدجّال التي يؤديها ببراعة الفنان سلّوم حدّاد، وعُدّة المحاربين الذين يلبسون ألبسة مميزة، ويحملون سيوفاً بلا أغماد، لم نرَ مثلها من قبل.
على مستوى التمثيل، ثمة ممثلون بارعون ومقنعون، يؤدون أدوارهم ببراعة، منهم: سلّوم حدّاد، ومهيار خضور، ولجين إسماعيل، وزيناتي قدسية، ومحمود خليلي، وغسان عزب، وثمّة ممثلات بارعات يعطين الفانتازيا التاريخية سحراً إضافياً: نادين، وفيلدا سمور، ورنا جمّول ورشا إبراهيم، فقد كان الممثلون عامة يقدّم كل منهم شخصيته كأنه يعيشها، ولا يمثلها.
ومن وراء كل هؤلاء تنتصب كاميرا المخرج جنادي، لتقدّم دراما كلاسيكية، لا ينقصها التشويق: إنها دراما كلاسيكية متقنة، تعجبنا، وتفتح أفق انتظارنا على فكرة انتصار الخير، تمتّعنا ولا تثقفنا، والسؤال:
ألا يستطيع هؤلاء الخبراء من ذوي الباع الطويل في التأليف والتمثيل والإخراج أن يعالجوا قضايا أكثر معاصرة وحميمية وصلة بواقعنا، قضايا تنبه الإنسان العربي على المخاطر التي تحيق به، أو تزيد وعيه بظروفه، ودوره في بناء الحضارة؟
بالتأكيد يستطعون، وأظنّ أنّهم يحبّون، ولكنّهم، ربّما، لا يجدون، الجهات التي تموّل طموحاتهم وتحوّل أحلامهم بفنٍ راقٍ أمراً واقعاً، وربما كان الفنّ الذي يبحثون عنه خاسرٌ إنتاجياً، وليس له سوق رائجة، وليس له قنوات تعرضه.
أعتقد أنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في ضعف كتّاب السيناريو، أو قلّة إمكانيات المخرجين أو الممثلين، بل تكمن في الإنتاج الذي لا يجرؤ على المغامرة بإنجازٍ فني راقٍ يكلّف أموالاً طائلة، ولا يجد من يشتريه، فيبتعد المموّل عمّا هو جادٌ ومفيد ومحفّز على الوعي، ويجري مهرولاً ليفكّر بإنجاز الجزء العشرين من باب الحارة.