قلة الذوق في مونديال قطر هو جوهر الثقافة الغربية!
مصطفى إنشاصي
لقد شكل الغرب الحديث نظرته لنفسه وللآخر وصقل علومه ومعارفه، وأعاد بناء ذاته وحدد معالم هويته الخاصة، على أُسس الفلسفة الإغريقية، وفهمه لمدلول كلمة Culture، وجذرها اللغوي اللاتيني، الذي يعني زراعة الأرض والغرس، أي حرث الأرض وإعادة زراعتها! وقد ظلت اللفظة مقترنة بهذا المعنى طوال العصرين اليوناني والروماني، حيث استخدمه شيشرون مجازاً للدلالات نفسها. فقد أطلق على الفلسفة mentis culture أي زراعة العقل وتنميته، مؤكداً على أن دور الفلسفة هي تكريم الآلهة.
وتطور المصطلح ومعناه ودلالة مفهومه في التاريخ الأوروبي ومدارسه الفكرية المختلفة، واستخدامه في العلوم الاجتماعية والإنسانية والأنثروبولوجية، إلى درجة أن أصبح مكوناً أساسياً لكثير من تلك العلوم ـ إن لم يكن لها جميعاًـ حيث تستقي منه مسلماتها وافتراضاتها حول تاريخ المجتمعات وتطورها وصورها السابقة والقوانين التي تحكمها. فعلم الأنثروبولوجي يتخذ مفهومculture جوهراً أساسياً لمقولاته وتحليلاته ونظرياته التي من خلالها يقدم الفرضيات الكبرى والمقولات الأساسية لمعظم العلوم الاجتماعية الأوروبية المعاصرة، بل معظم النظريات الفلسفية الأساسية في المنظور المعرفي الأوروبي، التي تعتبر قيم المجتمع الأوروبي ومعتقداته النابعة منه وأنماط سلوكه ومدركاته ووسائل حياته هي الأرقى دائماً، أما المجتمعات الأخرى فإنها تقليدية أو رجعية أو متخلفة...إلخ، ومن ثم عليها، إذا أرادت التطور والتقدم والتحديث، أن تنقل نمط الـ culture الأوروبي، وتتخلى تماماً عن موروثها التقليدي.
ما جعل الغربي ينظر إلى نفسه وذاته على أنه هو الإنسان المتحضر الوحيد، وهو مركز ومحور جميع الأحداث على الكرة الأرضية منذ نزول آدم إلى الأرض، وأن دوره هو نقل الحضارة والمدنية للشعوب الأُخرى، وتعليمها وتطويرها وإخراجها من تخلفها، وغرس قيمه - التي هي القيم الإنسانية - وأخلاقياته ومعتقداته وسلوكياته ومؤسساته وأنظمته ومجمل نمطه المجتمعي والمعيشي في المجتمعات الأخرى، في كل مكان يصل إليه، وذلك تمهيداً لحصاد هذه المجتمعات وجمع ثمارها من عقول نيّرة مبدعة يُهجِّرها إليه أو يستوعبها حتى وإن لم تهاجر، وموارد اقتصادية تغذي عجلة اقتصاده ونظم سياسية تحقق مصالحه، سواء أكانت تدري أم لا تدري، ونظم اجتماعية تتخذه مثالاً لها، ومن ثم تكون سوقاً رائجة لمنتجاته...إلخ.
وإذا حللنا الاتجاه العام للحضارة الغربية المعاصرة، لعلمنا أن دوافعها تصدر عن ذوق الجمال أكثر مما تصدر عن المبدأ الأخلاقي. حيث لاحظ تولستوى في كتابه "ما هو الفن" أن عصر النهضة نصب الجمال مثلاً أعلى في أُفق الحضارة الغربية، وأنها بدأت تحتل المكانة الأولى. ولأن الحضارة الغربية تعود في أُصول ثقافتها إلى الثقافة الإغريقية والرومانية، فإنها قد ورثت ذوق الجمال من التراث اليوناني الروماني؛ الذي كان شغوفاً بالتماثيل والرسوم. فتقدمت فيها القيم الجمالية على القيم الأخلاقية، فاثر هذا الترتيب على علاقة الإنسان الأوروبي بالإنسانية.
كما أحدث خللاً منهجياً أدى إلى قلب القيم، وإلى نتائج خطيرة على مصير الحضارة الغربية نفسها، وعلى الإنسانية عموماً. فأدت النزعة الجمالية إلى (الاستعمار) واحتلال الآخر، والإباحية، والعبثية، وتفكيك الروابط الاجتماعية وانحلالها، والاهتمام بالمرأة وتعرية جسدها، والشك في جميع الثوابت الدينية الغيبية، والأخذ بمبدأ (البقاء للأصلح) والأصلح في فلسفتهم هو الأقوى... إلخ، مما تمتاز به الثقافة الغربية، ويُعتبر من خصائصها المُمَيِزة، حتى بلغ انحطاط خاصية الجمال في الثقافة الغربية أن تعتبر الشذوذ والمثلية والتحول من ذكر لأنثى والعكس حق من الحقوق الفردية، وتريد فرضه على العالم أجمع!
وقد لاحظ مالك بن نبي عند حديثه عن النزعة الجمالية كخاصية من خصائص الحضارة الغربية، أن هناك على الخصوص صلة خاصة بين المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي تكون في الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة. إذ أن العلاقة تحدد طابع الثقافة كله، وتجاه الحضارة، حينما تضع هذا الطابع الخاص على أُسلوب الحياة في المجتمع وعلى سلوك الأفراد فيه. وهما اللذان يرسمان تجاه تلك الحضارة.
ولأن الثقافة الغربية ترى أن قيمها وأخلاقها هي القيم والأخلاق الإنسانية التي يجب أن تعولم على العالم أجمع، ومدلول مفهوم الثقافة (Culture) يعني إلغاء خصوصية المجتمعات والأذواق الجمالية والأخلاقية للديانات وللثقافات وللحضارات الأُخرى، فهي تريد من خلال قلة ذوقها وسلوكها الاستعلائي العنصري في مونديال قطر أن توصل رسالة للعالم أن ذلك ما سيكون عليه حال العالم!