أكلوني البراغيث ... احتكاك الشامية بالآرامية :

أغنى أهل الشام لغتهم المحكية بالكثير من المفردات التي تعود أصولها إلى اللسان الآرامي ؛ حيث بدأت الاختلاط ببعض المفردات العربية على ألسن الناس وأصبحت مع الوقت لغة العامة .
اللغة المحكية الدمشقية تعود في أصولها إلى اللسان الآرامي ، ومن القواعد النحوية المعتمدة في العربية أن الفعل المتقدم على فاعله يبقى في حالة الإفراد "جاء الطالب" ، و"جاء الطلاب" ، بخلاف القاعدة الآرامية التي تقضي بالمطابقة بين الفعل والفاعل في الإفراد والجمع ، ولا تزال هذه القاعدة الآرامية سارية في لغتنا المحكية الشامية ، فمثلاً نقول : "إجو الشباب"، و"ضربوني الأولاد"، وقد انتبه النحاة العرب الأقدمون إلى هذا التأثير الناتج من احتكاك العربية بالآرامية وسموه لغة "أكلوني البراغيث" .
في الآرامية يتعدى الفعل المتعدي إلى مفعوله بواسطة حرف الجر (اللام) ، وفي اللغة المحكية يقال : "شفتو للصبي" ، "ضربتو لأخوك" ، "سمعتو للولد" ؛ وهذا لا تجيزه قواعد العربية .
وأثر الآرامية واضح في الضمائر نقول في الفصحى : "نحن ، وهم" ، وفي المحكية : "نِحنا ، وهنِّي" طبقاً للآرامية .
إضافة إلى قلب الميم نوناً في ضمير المخاطب والغائب ، نقول في الفصحى : "أبوكم ، وبيتهم" . وفي المحكية : "أبوكن ، وبيتهن" ، وهذه خاصة من خواص الآرامية .
وليس في الفصحى وزن فوعل ، ولكنه شائع في الآرامية، وكذلك في المحكية نقول : "حورك ، ودوقر"؛ أي أوصد الباب .
كانت "دمشق" في الألف الأول قبل الميلاد مملكة آرامية مستقلة ، يتكلم أهلها بالآرامية ، ومع بداية العصور الكلاسيكية اصطحب "آلكساندر الأكبر" معه أكثر من مئة ألف عائلة استقرت كلها في "سورية" ، وكان لـ"دمشق" حصة كبيرة من هذه الجالية اليونانية ، وقد استقروا تحديداً في منطقتي "باب شرقي ، وباب توما" ، أما الآراميون فسكنوا داخل المدينة ، خصوصاً في نواحي "باب الجابية" ، وهو ما أحدث تداخلاً طبيعياً بين لغات السكان ، لكن هذا لم يمنع من أن تتحول اللغة اليونانية إلى لغة تشبه وضع الفصحى اليوم فهي لغة التعبير عن الثقافة لغة الأدب ، الشعر ، الفلسفة ، العلم ؛ باختصار لغة "الأنتلجنسيا" السورية ، إضافة إلى كونها لغة البرجوازية في تلك الفترة .
أما في معظم مناطق "سورية" فبقيت الآرامية لغة العامة من الناس والفلاحين تحديداً .
من دوائر الآرامية في اللغة المحكية الشامية والمستخدمة إلى يومنا هذا ، كلمات منها : "أو.. واوا" تقولها الأم لصغيرها ردعاً له وتخويفاً من أن يلمس شيئاً يؤذيه ، وقول الأم لصغيرها : "حاجي تعيّط" ، كفاً له عن الحركة والمرح في غير وقتهما ، وكلمة "بَحْ" بمعنى قول الأم لوليدها كناية عن نفاد الشيء المطلوب ، و"شلف" أي "رمى الشيء بعيداً" ، وهناك كلمة "الشربوكة" تقال إذا صعب الأمر وتعقد ، وهناك "بحش الأرض" أي حفر ، و"جهجه" الضوء انبلج الصبح وبان ، وكلمة "نطّ" أي "قفز" ، وكلمة "زيح" أي ابتعد .

ويشير الباحث :
كان للتنقلات المكثفة التي شهدتها بادية الشام والعراق انطلاقاً من الجزيرة العربية قبيل التقدم العربي ، أثرها في اللغة الآرامية ، التي ربما بدأت الاختلاط ببعض المفردات العربية على ألسن الناس ، وقد استخدم بعض الوافدين إلى الشام من العرب الكتابة الآرامية لكتابة لغتهم العربية ، وهذا طبيعي طالما أن اللغة العربية لم تكن لغة مكتوبة بعد .
ويضيف : «بعد مضي أكثر من ألفي عام اضطربت المنطقة فيها اضطراباً لا نجد له مثيلاً في مناطق أخرى من العالم ، وبعد أن دخلها من الثقافات واللغات ما لا يعدّ ، بقيت الكثير من معالم وآثار الآرامية واضحة وجلية في لغتنا العامية الدمشقية المحكية ، وفيما يلي نقدم غيضاً من فيض الكلمات التي لا تزال متداولة حتى اليوم ، ويجب ألا ننسى أن قواعد الصرف في معظمها بقيت على حالها الأصلي دون مساس ، ومن ذلك وضع الاسم قبل الفعل ، فنقول : فلان قال ، بدلاً من قال فلان ، كما في القاعدة العربية» .
ويختم بالقول : «هذه بعض المفردات والأسماء الآرامية في عامية "دمشق" التي تعود إلى أكثر من ألفي عام من الآن ، مع العلم أنه ليس بالضرورة أن تكون المقاطع الهجائية تلفظ أو تكتب بنفس الطريقة بالآرامية ، فقد ينقص بعض الكلمات في آخرها حرف الواو ، أو الألف ، لكنها كمادة آرامية دون استثناء مثلاً : "أتغندر - غندرة" وهي كلمة آرامية لا تزال تستخدم في المحكية الشامية ؛ وتعني تتمايل في مشيتها ، و"إزا" ظرف زمان بمعنى (إذا – حينئذ) العربيتين ، و"إيد" تعني يد ، وكلمة "براني" وتعني الخارجي ، وكذلك الحال بالنسبة لكلمة "جواني" ، وإضافة نون زائدة في الاسم تعد شاذة في العربية ودخيلة إليها ، لكن أصولها المتفق عليها سريانية آرامية ، و"دقَّر" (الباب مثلاً) أي أقفله .

#بشار_العطار