لا للوصاية على قضية الأمة المركزية؟! (6)
مصطفى إنشاصي
هذه مقالة نُشرت بتاريخ 15/6/2011 تحت عنوان: فلسطين القضية المركزية للأمة/في ذكرى نكبتنا: لتتفرغ الفصائل لإدارة معركة التحرير (9)! ضمن سلسلة مقالات لبحث نشرته عام 2005 حذرت فيه حماس من إعادة إنتاج تجربة حركة فتح، خاصة وأنهم برروا موافقتهم الانضمام للمنظمة في اتفاق القاهرة بتاريخ 17/3/2005 بمبررات فتح نفسها عام 1968، وقد اعترف صلاح خلف (أبو إياد) في كتابه "فلسطيني بلا هوية" أن الذين عارضوا الانضمام كانوا على حق!


أهل الثغور في فلسطيننا ليسوا أهل ثغور
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ {التوبة:122}. لقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم؛ وعن نفسي أميل إلى تفسير الأستاذ سيد قطب: أن المؤمنين لا ينفرون كافة ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة -على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون- لتتفقه في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة؛ وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة. والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس، ومن تفسير الحسن البصري, واختيار ابن جرير, وقول لابن كثير- أن هذا الدين منهج حركي, لا يفقهه إلا من يتحرك به; فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه; بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه; وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به، والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه. ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن, من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة, هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين! ولكن هذا وهم, لا يتفق مع طبيعة هذا الدين، إن الحركة هي قوام هذا الدين; ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به. والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه; مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية; ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق! نفس المعنى ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل عندما اعتبر أن أهل الثغور -المجاهدون- أفقه من أهل الدثور الذين يملكون المال، والمتفقهون من خلال الكتب والدراسة الباردة كما وصفها الأستاذ سيد قطب!
وإذا أردنا أن نربط بين ذلك المعنى العظيم الذي أِشار إليه القرآن الكريم وبين واقع الأمة وصراعها مع أعدائها في هذا لعصر ونستخلص العبر والدروس من تجارب الصراع؛ فأنه يمكننا القول: أنه ليس كل من زعم أنه قائد أو مجاهد أو مناضل أو مثقف كان كما زعم وعلى مستوى المرحلة والقيادة! وهناك فرق بين مجاهد ومناضل تحققت فيه تلك الصفات العظيمة فاستفاد من الرؤية القرآنية ومن تجارب الواقع وتجارب مَنْ سبقه في إدراك حقيقة أبعاد الصراع والهجمة الغربية ضد الأمة والوطن وفي تحديد أقصر الطرق وأفضل الوسائل لمواجهتها، وبين مجاهد أو مناضل جهل، أو علم، لكنه غلبته شهوة الدنيا وغره الكرسي والمنصب فصدق فيه قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾ {الجمعة:5}.
وأمثالهم كُثر في هذا الزمن! فكثير من القيادات والزعامات عجزت عن إدراك العلاقة الوثيقة بين اغتصاب فلسطين والتحالف اليهودي - الغربي ضد الأمة والوطن! وكثير مِمَنْ يزعمون أنهم قادة الجهاد والمقاومة أدركوا ذلك بألسنتهم ولم تفقه قلوبهم وعقولهم ولم تُصدقه أفعالهم وممارستهم! وقد تحقق فينا حديث رسول الله: "يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" قال قائل: أمن قلة يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن". قال قائل: ما الوهن يا رسول الله؟ قال: "محبة الدنيا وكراهية الموت". نعم إنها أمة "الغثاء" الكثرة، و"الوهن" حب الدنيا وكراهية الموت!
لذلك سأُذكِر أولئك المصابون بـ(الوهن) الذين غرتهم الدنيا وأصبحوا أهل دثور بالرؤية القرآنية عن دور أهل فلسطين في المواجهة كطليعة للأمة في معركة التحرير الكبرى وتحقيق ﴿وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ {الإسراء:7}.
قال تعالى: ﴿لَتَجِدّنَ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ﴾ {المائدة:82}، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ {المائدة:51}. وقال تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ {البقرة:120}. وروى الطبراني عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللهr "أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون في سبيل الله، فمن احتل منها مدينة من المدائن فهو في رباط، ومن احتل منها ثغراً من الثغور فهو في جهاد". ويَخُص رسول الله بيت المقدس بالاسم بشرف تمركز الطائفة الظاهرة فيها، قال أبي أمامة: قال رسول الله: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس". وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول اللهr: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". قال الإمام أحمد: هم أهل الشام. والغرب: إما العرب أو أهل الشدة أو أهل بيت المقدس. وهناك روايات كثيرة عن الطائفة الظاهرة موجودة في صحيح مسلم، الجزء الثالث، من رقم 1920 وما تلاه.
فلسطين مركز الهجمة الغربية!
اليهود هم أشد أعداء الأمة وليسوا أعداء الفلسطينيين وحدهم. وأن التحالف اليهودي - الغربي يستهدف الأمة كلها (العربية بالمفهوم القومي والإسلامية بالمفهوم الإسلامي) وليس أهل فلسطين بعينهم، فالقضية هي قضية الأمة وليس قضية الفلسطينيين، ومسئولية مواجهة الهجمة والتحالف اليهودي - الغربي واقتلاع كيان العدو الصهيوني من قلب الأمة والوطن هي مسئولية الأمة كلها وليس مسئولية الفلسطينيين، لكن الفلسطينيين يمثلون طليعة الأمة في التحرير من خلال الحفاظ على جذوة المقاومة متقدة وشعلة الثورة والنضال مشتعلة لتحريك الأمة لتتفاعل معهم إلى أن تتهيأ أسباب وحدتها وأخذها دورها الرئيس في معركة التحرير. لذلك لا أحد يمن على الفلسطينيين بالدعم أو المساعدة فذلك أقل الواجب عليهم لأنه لو سقطت البندقية الفلسطينية فستسقط عواصمهم وتنتهك حرماتهم وأعراضهم في وسط بيوتهم!
تلك المركزية لفلسطين في فكر الهجمة الغربية ضد الأمة والوطن تُحتم على مَنْ يعيها أن يدرك أبعاد الهجمة وخطورة اختزال القضية في شعب فلسطين، واعتبارها قضية وطنية ذات أبعاد قومية وإسلامية وإنسانية عالمية، لأنه بهذا الخطاب يفكك العلاقات الوثيقة بين الأمة وقضيتها المركزية ويُعطي فرصة للمنافقين والمهزومين والمستسلمين للتخلص من مسئوليتهم نحوها، فالبُعد الرئيس في القضية هو: أنها قضية الأمة المركزية كل الأمة. وإن كان هناك بُعد آخر فرعي يكون: البُعد الإنساني والعالمي، بمعنى أن على جميع دعاة حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى كل أحرار العالم الذين يرفضون الظلم واغتصاب ومصادرة حقوق المستضعفين أن يدعموا القضية. أما البُعد الديني في الهجمة الغربية فيتمثل في مكانة فلسطين الدينية في الفكر والعقيدة والممارسة اليهودية، وفي أهمية السيطرة على القدس والمسجد الأقصى خاصة، لِما لهما من رمزية في مفهوم السيادة اليهودية على العالم، واستعباد ومحاسبة كل شعوب الأرض على ما اقترفوه من جرائم مالية أو بشرية في حق اليهود طوال التاريخ. ذلك الفهم والإدراك لشمولية الهجمة يُحتم على العالم أن يشارك في تحرير فلسطين من اليهود!
كما أن مركزية القضية تعني: أن قوى الشر العالمي ضد البشرية والإنسانية عامة التي اتخذت من فلسطين مركزا لهجمتها؛ لا يمكن هزيمتهم بالمفاوضات أو المؤامرات أو الصراع السلمي وغيره لأنهم لا يفل عزمهم وقوة مكرهم إلا المواجهة المسلحة والعسكرية، لأن رأس حربتهم (اليهود) أجبن خلق الله وأحرصهم على حياة وإن كانت حياة الذل!
أما حدود دور أهلنا في فلسطين فقد حدده حديث رسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وسلم أنهم الطائفة الظاهرة على عدوها، وعلامة ظهورهم ليس بتضخيم قوتهم، والظن انهم قادرون على تحرير فلسطين وحدهم، لكنها في الثبات على الجهاد والرباط، الكفاح المسلح وسيلة وحيدة لتحرير فلسطين، وليس شيء آخر مما عليه مجاهدي وقادة (الوهن) المعاصرين، وقد رأينا كيف تفاعل العالم أجمع عرب ومسلمين وغربيين وكل أحرار العالم مع انتفاضة شعبنا طوال سنوات وكيف ضاع كل ذلك بعد بتحول أهل الثغور إلى أهل دثور؟!
التاريخ: 23/6/2022