الأخ الكريم..
طبعا لم ينته، ولم أعلق إلا على جزئية ما حكيته عن صد أصحاب الطرق الصوفية المسلمين عن الجهاد حتى سقطت بلادهم في يد الكفار.. فقد بينت ما فيها من مغالطة، وجرأة غاشمة في رمي قوم بما ليس فيهم على سبيل التعميم.
ولو رجعت إلى ما خطته يدك في هذا الموضوع لوجدت نفسك تقول: يحكى.. ويحكى أيضا.. ولم توثق شيئا مما تتحكيه.. علاوة على أن أنك أخذت فرقة التيجانية وما فعله بعض أتباعها من ممالأة الاستعمار الفرنسي للجزائر وعممته على كل الصوفية، مع أن هناك من الخونة من باعوا الجزائر سواء من اتباع الطرق الصوفية ام من عامة الناس ولكن التعميم بأن نحكم على الطرق الصوفية وأتباعها بالخيانة فهذا ظلم فى حقهم.
منهج التعميم ليس من الدراية في شيء. وكذا منهج الرواية على سبيل الحكاية دون تحقيق.
بل إن إسقاط ما قاله البيروني عن الفلسفة الإشراقية الغنوصية الهندية على الصوفية، ليس من الدراية بشيء.
علم الدراية يقوم على التحقيق والإنصاف، وليس على التعميم والإسفاف.
وإليك فيما يأتي ما قاله أحد الأخوة من صوفية مصر ردا على عبد الله الشريف في حلقته عن الصوفية.
استمعت منذ قليل إلى حلقة عبد الله الشريف حول " الصوفية" وعلى الرغم من عدم محبتي القديمة لهذا الشخص بسبب طرحه المتسرع والسطحية الشديدة التي يتناول بها الأمور، بالإضافة إلى أنه غير ظريف على الإطلاق من وجهة نظري- فإني لم أر أسوأ من هذه الحلقة الأخيرة، وهي نقطة سوداء في تاريخ قناته بلا شك، فقد خلَت من أي موضوعية علمية ومن أدنى أدبيات البحث، والذي أعَدَّ له الحلقة قد جنى عليه من حيث لا يدري، أخذ كلاما كما نقول في مصر " من على وش القفص " ومن كل فيلم أغنية كما يقولون ثم رمى في وجوه المشاهدين هذا الكمّ الكبير من التخبيص والتهريج السمج.

ولا يوجد إنسان محترم في نفسه ويحترم عقول مشاهديه ومتابعيه يمكن أن يقول هذا الكلام الذي قاله في الحلقة ولا أن يصدر عنه تلك الأحكام الظالمة، يُعمّمها على جماعة من خيرة فضلاء الأمة وسادتها وأشرافها، والحلقة مليئة بالأغاليط، أكتفي فقط في هذا المنشور بالتنبيه السريع على بعضها دون تطويل:

١ - ذكر أن المعتزلة يقولون إن القرآن مخلوق وليس كلام الله تعالى، وهذا كذب، فإنهم لم يقولوا هذا قط، بل الكلام عندهم من صفات الفعل لا صفات الذات، يعني القرآن عندهم مثل الخلق والرزق ونحو ذلك، وليس كالعلم أو القدرة، والفرق بين صفة الذات وصفة الفعل يعرفها كل الطلاب، وهو باختصار:
صفة الفعل منتزعة يعني مأخوذة عن طريق ملاحظة صدور الفعل من الله تعالى، كالخلق والرزق، فالله تعالى لمَّا صدر عنه الخلق والرزق صح أن ننتزع منهما صفة الخالقية والرازقية، وكذلك القول في الإحياء والإماتة ونحو ذلك، وصفة الفعل حادثة، بخلاف صفات الذات التي منشؤها الذات، لا تنفك عنه، ولا يوصف بأضدادها كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فالقرآن عند المعتزلة من صفات الأفعال الحادثة، فكلام الله عز وجل عبارة عندهم عن حروف وأصوات غير قائمة بذاته ولكن يوجدها ويخلقها في غيره، ولا يلزم من كون الشيء مخلوقا ألا يكون منسوبا إلى الله أو ألا يكون الله موصوفا به.

٢ - ذكر أن الشخص قد يكون واحدا فردا ومع ذلك من الممكن أن يكون هو وحده على الحق وأن يكون كل من عداه على الباطل، وقال " أنت الجماعة ولو كنت وحدك " وهذا الكلام بهذا التصوير غير صحيح، وفيه إشكالات كثيرة، بل لا أستبعد أن مثل هذا الكلام سبب كبير لنشوء حركات التكفير في المجتمعات الإسلامية، نعم قد ورَد عن بعض السلف كلمات تفيد التمسك بالحق وإن قلّ السالكون ونحو ذلك، والمشكلة هي في التطبيق والإسقاط لا في مجرد ترديد مثل هذه العبارات، ولهذا حديث طويل لا نخوض فيه الآن، ولعلي أنشط إن شاء الله لكتابة منشور فيه.

٣ - تحذلَقَ في التفريق بين ابن عربي وابن العربي، وأن الأول نكرة والثاني معرفة، وهو كلام رجل عامّي لا يعرف عنهما أكثر من ذلك، والشيخ محيي الدين ابن العربي الحاتمي الصوفي كان يكتب اسمه بالألف واللام، فدعك من هذا التهريج السخيف، والغريب أنه مدح ابن العربي المالكي بأنه عالم سُنّي، مع أنه محسوب على الصوفية الذين لم يفتأ هو يذمهم ويسخر منهم طوال الفيديو! فاعجب ما شاء الله لك أن تعجب، وهو يدلك على أن الرجل بعيد جدا عن أن يتكلم في هذا الأمر.

٤ - قال " الصوفية أنبياء وصحابة أنفسهم " وهو كلام تافه وسخيف، ولو أنه كَلَّف نفسه بمطالعة الرسالة القشيرية( وهي دستور الصوفية وجامعة أقوالهم ) لعرف أن كل القوم تقريبا يصرحون بوجوب التزام الكتاب والسنة، وكتبهم ومؤلفاتهم وأحوالهم طافحة بذلك، ونظرة واحدة في الكتاب ولو على عجل تدلك على هذا. وكثير مما ينكره هذا الشخص على الصوفية موجود مثله في كتب ابن تيمية( بالطبع لا أقول بالمطابقة التامة، فلابن تيمية نقدٌ لبعض مقالات الصوفية، ولكن لو اطلع هذا الرجل على مقالاته في التصوف وما ينقله ابن القيم عنه في مدارج السالكين لأنكرها جميعا بناء على تصوره المضحك بأنهم دخلاء على الدين وليس لكلامهم أصل، وقد كتب أحد السلفيين كتابا اسمه: ابن تيمية الصوفي، لعله يفيد هذا المخلوق ).

٥ - حكايته عن لقاء ابن تيمية وسيدي عبد القادر الجيلاني لا أصل لها، وبين ولادة ابن تيمية ووفاة الشيخ عبد القادر مائة عام، والسيد عبد القادر إمام عظيم من أئمة الدين، وقد أطبق كافة أهل العلم قبل ابن تيمية وبعده على تعظيمه وتبجيله والاعتراف بولايته وإمامته في الدين والعلم، وابن تيمية نفسه من أكثر الناس توقيرا واعترافا بإمامته وفضله وورعه واستقامته، وهذه النقطة بالذات تستدعي إعلان توبة وإنابة من هذا الأخ؛ لأن الله تعالى قال في الحديث القدسي:" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ".

٦ - ذكر أن الصوفية لم يُعرفوا بجهاد ولا إنكار منكر ... إلخ، وهذا للأسف تدليس وكذب أصلع، أو جهل وتسرع، فتاريخ الصوفية منذ وجودهم حافل بالجهاد والتضحية والبطولة في أنحاء العالم الإسلامي كله منذ وجودهم، ويكفي فقط أسماء وأعلام مشهورة بين القراء مثل: البطل الإمام ألب أرسلان مؤسس الدولة السلجوقية، ونور الدين زنكي وأبيه مؤسسي الدولة الأتابكية، وصلاح الدين الأيوبي وأولاده، ودولة المماليك كلها، والدولة العثمانية بأسرها، بل كان مشهورا عن مشايخ الصوفية رحمهم الله إيثارهم للإقامة في الثغور المتاخمة لأرض العدو، فكانوا يُنشئون هناك زواياهم فيجمعون بذلك بين جهاد النفس وجهاد الأعداء، ومن يطّلع على أسماء المناطق في الإسكندرية ودمياط مثلا ويتتبع من أين أتت هذه التسميات سيعرف جانبا من هذا، فكثير منها سمّي بأسماء أهل المرابطة والجهاد.

وفي العصر الحديث وفي أثناء دخول الاستعمار في كل بلاد العرب كانت تقريبا كل حركات التحرير والجهاد يقودها الصوفية وأصحاب الزوايا، في مصر الأزهر الصوفي هو الذي قاوم الاستعمار الفرنسي، وقاوم ظلم المماليك، وأخبار الدردير وعلي الصعيدي العدوي والشيخ عليش وحسن الطويل مشهورة ومسطورة في تاريخ الجبرتي وغيره، وفي الجزائر كان إمام المجاهدين هو الأمير عبد القادر رحمه الله، بل كان على ذوق الشيخ ابن العربي في التصوف، ومن يقرأ كتابه المواقف يدرك هذا والله أعلم، وفي المغرب حركة الشيخ عبد الكريم الخطابي، وفي ليبيا الحركة السنوسية وعمر المختار، وفي داغستان الإمام شامل، وبعد نجاح الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا سنة ١٩١٧م كان أبرز من قاومهم ووقف في وجههم هو شيخ النقشبندية نجم الدين دي غوتسو، وأحدَثَ انتفاضة عظيمة مع مجاهدي الشيشان وظلوا في المقاومة المسلحة أكثر من عشر سنوات، وفي فلسطين حركة العالم الأزهري الصوفي عز الدين القssام، وهكذا، ويكفي القارئ المنصف أن أحيله على كتاب يكشف هذا الجانب من الجهاد الصوفي السني بجلاء، واسمه " البطولة والفداء عند الصوفية" للأستاذ أسعد الخطيب - وضعت رابطه في التعليقات -

وما يوجد الآن من ملاحظات على التوجه الصوفي يوجد مثله في طوائف السلفية المتناحرة، ومع ذلك لا ننكر أبدا وجود كثير من البدع والمظاهر السيئة في صفوف الصوفية، ولا سيما في الموالد والمناسبات، وقد أنكرها بقلمه ولسانه أبناء التيار الصوفي نفسه، وعلى رأسهم الإمام الرائد الشيخ محمد زكي إبراهيم رحمه الله، ولاقى في سبيل ذلك ما لاقى، وكتبه تشهد بهذه المحاولات الإصلاحية، ولكن هناك فرق بين أن تنكر ما هو منكر بالفعل، وبين أن تتوهم المنكر، فكيف وأنت تريد الإجهاز على التيار كله لخيالات في ذهنك فقط، ومع هذا فمقاطع الفيديو التي عرضها لمن يزعمون التصوف - لا أعرف واحدا فقط عاقلا من الصوفية لا ينكرها ولا يتبرأ منها، ومثال هذا أن يقوم شخص بعرض الإسلام مستدلا بأفعال الدواعش وحماقاتهم، والعبرة بالعقلاء من كل فريق لا بمثل هذه الحماقات.

٧ - ليس صحيحا أن كل الصوفية يقولون بالحلول والاتحاد، بل هي كلمات صدرت عن بعض الجهلة منهم، أئمتهم أنفسهم قد ردوا عليها وتبرؤوا منها، وحتى الشيخ ابن العربي لا يقول بها بهذا المعنى الذي فهمه الأخ، ولا يوجد صوفي في الدنيا يُلزم الناس بمذهب ابن عربي في شيء من الأمور، بل يكادون يطبقون على نصيحة السالك بأن لا ينظر في شيء من كتبه مع اعتقاد فضله وولايته، يعني لو ظللت عمرك لم تسمع عن ابن عربي ولا قرأت له أي شيء فهذا ليس شيئا مذموما عند الصوفية ولا مكروها، بالعكس، بل هم يرون للسالك التزام نحو تصوف الغزالي والشيخ زرُّوق ونحوهما دون التعمق في مشاكل الشيخ محيي الدين.

٨ - إثبات الكرامات هو من منهج أهل السنة والجماعة، وإنكارها هو قول لأهل البدع، ولكن لابد فيها من أمور:
- أن تكون واقعة تحت الإمكان العقلي والجواز الشرعي، فلا يكون فيها ما ينكره العقل أو الشرع، وبين ما ينكره العقل وبين ما يستبعده فرق ظاهر يلتبس على كثير من الناس.

- وأن تكون واقعةً لمن عُرف بالصلاح والاستقامة.

ومع ذلك فبعض ما في طبقات الإمام الشعراني مكذوب عليه ومدسوس، وقد شكا هو نفسه رحمه الله كثرة الدس في كتبه من قبيل أعدائه وحُسّاده، والدس كان سهلا جدا في الكتب قديما، لأنها كانت تُتداوَل عن طريق النسخ باليد، ومن أراد معرفة من هو الإمام الشعراني فليقرأ كتابه" المنن الكبرى " وفقط.

وأخيرا .. تدل هذه الحلقة على وجهة نظري القديمة في هذا الشخص، وهو أنه مُهرّج لا يحسن غير ذلك، ولا ينبغي حمل كلامه على الجد، ولولا أن بعض الناس قد يسبق إلى فهمه شيء مما قاله في هذا الفيديو ما كتبته عنه حرفا.

وكتبه الشيخ / سامي معوض
(منقول عن أبو عاصم،مجموعة فكر ثم فكر،في الواتس)