لا للوصاية على قضية الأمة المركزية؟!
طبيعة الصراع مع الغرب كمفهوم وإطار حضاري (4)
لم يعد مصطلح الغرب مرادفاً للنصرانية كما كان، ولا النصرانية تعني الغرب، ولا يشكل الدين النصراني الهوية الحضارية لتلك المجتمعات. وإن كانت النصرانية تشكل العنصر الرئيس في النسق العام للحضارة الغربية، إلى جانب مكونات وعناصر أُخرى تلعب دوراً في تشكيل ذلك النسق، وتحدد الخطوط العامة للثقافة الغربية. ويمكن النظر إلى الغرب من زاويتين: من الوجهة الجغرافية السياسية، حيث إن الغرب له إطار محدد هو أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو من هذه الزاوية كيان متميز يختلف عن بقية الكيانات الجغرافية والسياسية الأُخرى في أفريقيا وآسيا. أما من الوجهة المفهومية، فإن الغرب إطار حضاري، وبعبارة أخرى هو مفهوم يتضمن ثلاثة أبعاد أساسية: البعد الأول يتمثل في النموذج الغربي في الحياة، والثاني هو الرموز الثقافية الغربية التي نشأت في إطار الوعي الغربي والتطور التاريخي للغرب، والبعد الثالث هو مظاهر الوجود الغربي، من انتشار لسلعه وأنماطه الحياتية ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم. فمن هذه الوجهة المفهومية، فإن الغرب مفهوم يتجاوز حدود إطاره التاريخي والجغرافي.

النشأة الأسطورية لمفهوم الغرب
تمكنت المركزية الغربية من شحن مفهوم الغرب بدلالات سياسيَة وثقافية ودينية، حتى انحرف عن المعنى الأصلي، وأصبح معادلاً موضوعياً لنموذجٍ ثقافي – سياسي - إيديولوجي مُحدد "الغرب مفهوم إيديولوجي أكثر منه جغرافي". ومع تحول المفهوم من المعنى الجغرافي إلى الكيان الديني والإثني والثقافي، شرع المشتغلون بالتنظير للمفهوم في البحث عن سياقات وأنساق ثقافية ودينية - أسطورية لبلورة نظرية تُميز مصطلح الغرب وتعطيه هوية خاصَة. فأصبح لفظ "الغرب" مُجرد وعاءٍ للمحمولات الفكرية والثقافية الغربية، والثقافة تشمل الإيديولوجيا والأنثربولوجيا التي تتحكم في مناهج التنظير لرؤية تؤطر الفكر المركزي، المروج لتفوق "الأنا" الغربية، وتهميش "الآخر" المختلف غير الأوروبي.
وبعد التحولات العالمية والثورات التقنية في ميدان المعلوماتية رأى الغربيون أنَ الغرب ليس أوروبا؛ فهو يتسع بقيمه وأفكاره، ليشمل فضاءات أكثر شمولية من القارة الأوروبية، فارتحال المصطلح ودخوله حقول الفلسفة والسياسة والمعرفة حمله أبعاداً جغرافية جديدة، فأصبح دالاً على كل منظومة أو سياق يؤمن بأفكار ومعتقدات المركزية الغربية؛ كأستراليا وأمريكا وغيرهما. تُجمع الدراسات التي تناولت تأسيس فكرة "الغرب" بكياناته المختلفة الجغرافية والمعرفية والإثنية على ربط المَولد والنّشأة بالأصول الإغريقية واليهودية/المسيحية، للتأكيد على نقاء حضارته، وتجردها من دخيل فاسد يُعكر صفو النقاء أو مُساهمة خارجية تكشف الضعف والحاجة إلى الآخرين؛ "فالغرب بناء أسطوري حديث بكل ما في الكلمة من معنى"، ونتج عن لبنات البناء فكر غربي، يتسم بالأنا المتضخمة التي تعتقد بصفاء الأصل ونقاء العرق. وتقر المَنظومة الفكرية الغربية باستحالة الفصل بين مفهومَي الغرب والدين؛ فالمنظرون يجمعون على ارتباطهما، فالمسيحية مكون أساسي ومركزي في نشأة الغرب.
والغرب هو الفضاء الذي احتوى الدين ونشره باستعمال المناهج العقلانية، التي ساهمت في ظهور فلسفة الأديان والأنثربولوجيا، وقد أدار الغرب كل حروبه وغزواته، تحت شعار الدين لإضفاء القداسة على فتوحاته. فالدِين والغرب شيئان متناظران ومتساويان، حيث إن "الغرب أنشأ الدِين وعاش تحت عقده وعقيدته، وقد صنعت هذه المكوِّنات هوية جديدة للغرب، جعلته يعتقد ويؤمن بأداء مهمتين رئيستين؛ الأولى: تنوير الآخر وتحريره من أغلال الوحشية والبربرية، والثانية: إثبات نقاء الحضارة الغربية من مُساهمات الحضارات الأخرى.
يرى المؤلفان (جراهام فوللر، وأيان ليسر) في كتابهما "الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة"، أن الانطباعات الذهنية المتولدة عن قرون الخبرة الأوروبية تمثل جزءاً مهماً من النهج الفكري تجاه الإسلام من جانبي الأطلسي، ومع ذلك فهما يريان أن التمييز بين أوروبا والأراضي الواقعة ناحية الشرق منها؛ كأساس للتحليل السياسي والاستراتيجي تمييز يسبق تاريخياً ظهور الإسلام على المسرح العالمي، فقد طور الإغريق حساً قوياً بالتمييز الجغرافي والثقافي بين أوروبا وآسيا. كان نتيجته اختزال تاريخ الإنسانية والعالم في تاريخ الرجل الغربي فقط.

العلمانية والأفكار اللا دينية، دين؟!
الغرب من حيث المبدأ هو علماني طوال مراحل تاريخه، سواء ربط بين الدين والسياسة وشؤون الحياة أو فصل بينهما. لأن من أهم الخصائص التي تميز المجتمعات الغربية، أنها صناعة بشرية بامتياز في كل مراحل تطورها التاريخية والاجتماعية، وتخضع في تطورها لتطور العقل البشري والجهد الإنساني! حتى تلك الحقبة الزمنية التي حكمت فيها الكنيسة باسم الدين؛ كان ذلك الدين علمانياً وليس سماوياً، وذلك بعد أن اختلط بأديان البشر وتسربت له كثير من معتقداتهم فأخرجته عن سماويته وحولته إلى دين وثني، يسميه المؤرخون (نصرانية بولي) نسبة للحاخام اليهودي بولس!
ويرى مالك بن نبي أن الدين هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن التجارب المتكررة خلال القرون، ويُعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغيرات الإنسانية الكبرى، ولأننا لا نستطيع تناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب، فإن الفكرة الدينية لا تعتبر نسقاً من الأفكار الغيبية فقط، ولا تقتصر على الدين السماوي فقط، بل هي قانون يحكم فكر الإنسان، ويوجه بصره نحو أُفق أوسع، ويروض الطاقة الحيوية للإنسان، ويجعلها مخصصة للحضارة. وعلى ذلك فالإصلاح الديني ضرورة باعتباره نقطة في كل تغيير اجتماعي".
ويجد دارسي تاريخ الأديان في الغرب صعوبة في الفصل بين مفهوم الدين ودوره الاجتماعي، فالدين يقوم بدور الربط بين أفراد المجتمع حول فكرة معينة، أو أفكار، أو اتجاهات، أو أي عقيدة أيديولوجية تجمع بين أفراد أمة من الأمم. لذلك اعتبر يوسف الحوراني: أن الأفكار العلمية المعاصرة هي نوع من معطيات شبه دينية لعقائد جديدة في فهم العالم. معتبراً أن العقائد القومية والاجتماعية والسياسية، التي لا تزال تعيش في عصرنا وتخضع لعلاقات وروابط مثالية أو ميتافيزيقية لا تخرج عن كونها مظهراً جديداً من مظاهر الدين رافق تطور المجتمع من بدئه حتى الآن، والذي لا يخرج عن كونه حساً إنسانياً يتخذ أشكالاً مختلفة تختلف بين زمن وآخر، وبين أمة وأُخرى.
ذلك لم يفت مالك بن نبي وهو يُشرح الحضارة الغربية ويشخص أمراضها، ويبرز خصائصها المُمَيِزة لها، حيث أشار إلى الأفكار اللا دينية التي سادت الغرب بعد ضعف واضمحلال سيطرة وهيمنة الكنيسة والفكر الديني النصراني، معتبراً إياها "مفهومية دينية" في حقيقتها، حيث يرى "أن الفكرة الدينية لا تقوم بدورها الاجتماعي إلا بقدر ما تكون متمسكة بقيمتها الغيبية ... أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية"، وعندما تُفقد هذه القيمة الغيبية، فإنها تترك مكانها، أو تعمل بواسطة بديلاتها اللا دينية نفسها، وعلى ذلك فأي مفهومية تطرح نفسها بديلاً عن المفهومية الدينية، هي دين، وهذا ما يحدث في الغرب فالمادية مفهومية دينية في حقيقتها حينما تطرح نفسها بديلاً للدين.

عالمية صراع المناهج والحضارات وقدرة الإسلام على قيادة العالم
ما زال الغرب يخشى من عودة الإسلام لقيادة العالم، وذلك لأنه يملك كل مقومات تلك القيادة في الوقت الحاضر، ولأنه يحمل بداخله مقومات قوته وإمكانية تجددها مهما كانت حالة الضعف التي يعاني منها، واعترافات الغرب بهذه الحقيقة التي تخيفه من الإسلام رغم كل مظاهر الضعف البادية على أمته كثيرة، نذكر منها:
يقول البروشادور في حديث له عن المسلمين: إن هذا المسلم الذكي الشجاع قد ترك لنا حيث حل آثار علمه وفنه أنار مجده وفخاره. ويقول: من يدري؟ قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الإفرنج مهددة بالمسلمين فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة أخرى ولست أدعي النبوءة ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة لا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها. ويقول مرماديوك: "إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً إذا رجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حينما قاموا بدورهم الأول لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع أن يقف أمام حضارتهم".
أما هانوتو وزير خارجية فرنسا يرى أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة وتفوق وهذا مكمن الخطر في نظره فيقول: "لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر".
ذلك سر قوة وحجم تأثر الحضارة الإسلامية في الشعوب الأخرى غالبة ومغلوبة، الذي ادهش جوستاف لوبون واعتبرها دليل على عظمة الإسلام وقوته، فيقول: "لا شيء يورث العجب أكثر من انتصار حضارة العرب الإسلامية على همجية جميع الغزاة، ومن تخرج هؤلاء الغزاة من فورهم على مدرسة العرب المغلوبة فقد دام عمل العرب الحضاري إلى بعد زوال سلطانهم السياسي بزمن طويل". ذلك الاندهاش من قوة فعل الحضارة الإسلامية في الغزاة هو الذي جعله يحذر وينذر الغرب الصليبي في هذا العصر من خطر قدرة الإسلام على إعادة توحيد شعوب الأمة، رغم ما بينها من اختلافات، فيقول: "رغم ما بين الشعوب الإسلامية من فروق عنصرية، فإنك ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن أن يشدها ويجمعها تحت راية واحدة في أحد الأيام".
قوة الإسلام، وقدرته على التأثير في الشعوب الأخرى في كل الظروف حذر منها أيضاً المؤرخ البريطاني المشهور توماس أرنولد توينبي في مناسبات كثيرة، وحذر من إمكانية أخذ الإسلام لدوره الحضاري في أي حرب عنصرية قادمة، فيقول: "إذا سبب الوضع الدولي الآن حرباً عنصرية يمكن للإسلام أن يتحرك ليلعب دوره التاريخي مرة أخرى.. أرجو ألا يتحقق ذلك".
وبالنسبة لعلاقة الغرب بالإسلام تحديداً، لخصها الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد بقوله: "ومن العجب أن هذه الحضارة الأوروبية حين تمت لها الجولة على الكنيسة وارتدت إلى أصولها الوثنية وأحيت تراث اليونان والرومان الحديث أخذت تتعامل مع العالم الإسلامي بروح هي خليط من هذه المتناقضات فكانت ملحدة في كل شيء إلا مع المسلمين فهي صليبية تتحالف فيها الدولة العلمانية مع الكنيسة ويقوم فيها الرجل الواحد بدور المنصر، والعالم المستشرق والجاسوس المحترف في آن واحد أحيانا".